تعد العملية الإرهابية التي شهدتها بروكسل في 22 مارس 2016 امتداداً لانتشار التنظيمات الإرهابية في بلجيكيا على مدار السنوات الماضية ووجود سياقات مهيئة جعلت من بلجيكا ملاذ آمن للإرهاب في قلب القارة الأوروبية، وهو ما يرتبط بالتفكك في البنية الحكومية والانقسامات القومية وضعف المؤسسات الأمنية وغياب التنسيق فيما بينها فضلاً عن تصاعد نشاط عصابات الجريمة المنظمة وعمليات تهريب السلاح وانتشار التطرف بين صفوف المسلمين والاغتراب الثقافي والتهميش الاقتصادي للأقليات بما جعل بلجيكا بمثابة “الخاصرة الرخوة” للأمن في قلب القارة الأوروبية.
استيطان إرهابي:
لم تكن التفجيرات التي شهدتها العاصمة البلجيكية بروكسل تطوراً استثنائياً في مسار الارتباط الوثيق بين بلجيكا والإرهاب الذي تمتد جذوره إلى تسعينيات القرن الماضي حينما قامت السلطات الأمنية البلجيكية بتفكيك خلية إرهابية تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة التي كانت تتمركز في الجزائر، ومنذ ذلك الحين كشفت التحقيقات عن اتخاذ التنظيمات الإرهابية والإنفصالية من بلجيكا منطقة تمركز رئيسية بعيدة عن الملاحقات الأمنية خاصةً حركة ايتا الانفصالية والجيش الجمهوري الأيرلندي.
وفي مطلع عام 2001 نفذ متطرفان ينتميان لضاحية مولينبيك في بروكسل عملية اغتيال القيادي المعارض للقاعدة أحمد شاه مسعود في ولاية تخار الأفغانية، كما كشفت التحقيقات الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر عن أن بعض قيادات حركة طالبان كانوا يحملون جوازات سفر بلجيكية، وألقت الشرطة البلجيكية في إطار هذه التحقيقات القبض على قيادي بتنظيم القاعدة من أصول تونسية كان يخطط لاستهداف قاعدة عسكرية بلجيكية.
وفي ذات السياق لم تغب مشاركة المتطرفين البلجيكيين عن عمليات إرهابية مهمة مثل اعتداءات مدريد عام 2004 التي تم الكشف عن تورط حسن الحسي البلجيكي الأصل ضمن المشاركين بها، بالإضافة إلى كون البلجيكية موريل ديجوك أول سيدة أوروبية قامت بتنفيذ عملية انتحارية لصالح تنظيم القاعدة في العراق في عام 2005.
ويرجع تأسيس تنظيم “الشريعة من أجل بلجيكا” Sharia 4 Belgium إلى عام 2010 بهدف تعديل القوانين البلجيكية لتصبح متوافقة مع الشريعة ثم تحول التنظيم عقب الثورات العربية إلى أهم التنظيمات التي تقوم باستقطاب الشباب المسلم وإعدادهم للسفر لسوريا للقتال في صفوف تنظيم داعش.
وفي مايو 2014 شهدت بلجيكا تنفيذ عملية إرهابية ضد المتحف اليهودي بقيادة مهدي نموش وهو مواطن فرنسي من العائدين من سوريا، أما عملية تشارلي ايبدو في يناير 2015 فقد أكدت التحقيقات أن الأسلحة المستخدمة بها تم تهريبها من بلجيكا.
وتأكد الارتباط الوثيق بين بلجيكا والإرهاب في أوروبا عقب الكشف عن تورط عبدالحميد أباعود وإبراهيم عبدالسلام وصلاح عبد السلام في هجمات باريس الإرهابية التي تمت في نوفمبر 2015 وجمعيهم يحملون الجنسية البلجيكية.
وفي هذا الإطار أكد وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف في 19 نوفمبر 2015 على أن عبدالحميد أباعود المدبر لاعتداءات باريس شارك في تنفيذ 4 عمليات إرهابية أخري في فرنسا تم إحباطها منذ مارس الماضي لاسيما الاعتداء على كنيسة فيلجويف في جنوب باريس في أبريل 2015 والهجوم الذي تم إحباطه على قطار تاليس في أغسطس 2015 الذي كان سيتم تنفيذه بقيادة البلجيكي أيوب الخزاني، فضلاً عما كشفته التحقيقات الفرنسية عن أن عدد مجلة “دابق” الصادر في فبراير 2015 قد تضمن إشارات مهمة لمهام عبدالحميد أباعود في أوروبا مستعرضاً قدرته على التنقل بين سوريا ودول القارة الأوروبية دون أن تتم ملاحقته أمنياً.
وقبيل العملية الإرهابية الأخيرة في بروكسل، قامت الشرطة البلجيكية بعمليات متعددة للقبض على الخلايا الإرهابية كان أبرزها في يناير 2016 حينما تم القبض على 15 شخص كانوا يدبرون لاغتيال بعض جنود الشرطة وعملية القبض على 11 متورطاً في أحداث باريس في منتصف مارس 2016 والتي تخللها تبادل مكثف لإطلاق النار في العاصمة البلجيكية قبل أن يتمكن صلاح عبد السلام من الهروب ثم تم ضبطه وأربعة من العناصر الإرهابية قبل الهجوم الأخير بثلاثة أيام في ضاحية مولينبيك.
لماذا بروكسل؟
تكشف مراجعة تطور ارتباط بلجيكا بالعمليات الإرهابية عن وجود سياقات مهيئة جعلت من بلجيكا دولة حاضنة للإرهاب وملاذ آمن للتنظيمات المتطرفة وعصابات الجريمة المنظمة في قلب القارة الأوروبية، وتتمثل أهم الأسباب التي أدت لانتشار التنظيمات الإرهابية في بلجيكا فيما يلي:
• التفكك الحكومي: تمثل بلجيكا نموذجاً لتداعيات الانقسامات المناطقية والقومية المعقدة على تماسك الحكومات وقدرتها على صياغة السياسات العامة، حيث أن الحكومة الفيدرالية تعاني من ضعف اختصاصاتها وقدراتها التنفيذية في مواجهة حكومات الأقاليم والمقاطعات فضلا عن وجود أربعة حكومات إقليمية جمعيها تتكون من ائتلافات حزبية متداخلة هي حكومة الإقليم الفلمنكي الخاص بالناطقين بالهولندية وحكومة الإقليم الفرنسي وحكومة بروكسل العاصمة وحكومة الإقليم الناطق بالألمانية ولكل منها اختصاصات وصلاحيات تشريعية وتنفيذية وأجهزة أمنية، وهو ما أدي لشيوع أزمات تشكيل الحكومات الائتلافية في بلجيكا والتي كان من أبرزها الأزمة الممتدة بين عامي 2007 و2011.
كما أعقب الانتخابات التشريعية في 25 مايو 2014 أزمة مماثلة أجلت تشكيل الحكومة لمدة 4 أشهر حتى أكتوبر 2010، حيث هيمن حزب القوميين الفلمنكيين وحزب الديمقراطيين المحافظين الفلمنكيين والأحزاب الليبرالية على الائتلاف الحكومي على المستوي الفيدرالي فيما سيطرت أحزاب اليسار والوسط التي تشكل المعارضة على الأقاليم الناطقة بالفرنسية، وهو ما عزز الانفصال بين حكومات الأقاليم والحكومة الفيدرالية.
• الانقسامات القومية: يتسم المجتمع البلجيكي بالانقسام الحاد بين الأقاليم الناطقة بالهولندية التي يطلق على مواطنيها الفلمنكيين وتصل نسبتهم إلى حوالي 60% من إجمالي سكان بلجيكا والمواطنين الناطقين بالفرنسية وتصل نسبتهم إلى حوالي 39% بالإضافة إلى نسبة ضئيلة من الناطقين بالألمانية تتركز في إقليم محدود المساحة، وانعكست هذه الانقسامات الجهوية والقومية واللغوية على ضعف الهوية الوطنية في بلجيكا وتصدع مؤسسات الدولة التي لم تعد قادرة على السيطرة على حدودها بكفاءة.
• ضعف المؤسسات الأمنية: أدي تردي الأوضاع الاقتصادية في بلجيكا نتيجة لعدم الاستقرار الحكومي إلى إتباع سياسات تقشفية حادة تضمنت خفضاً للإنفاق الحكومي مما انعكس على قدرات المؤسسات الأمنية التي لم تعد تمتلك العدد الكافي من الكوادر الأمنية لمواجهة الإرهاب، حيث رصدت تقارير أوروبية أن جهاز أمن الدولة البلجيكي في بروكسل العاصمة يتكون فقط من 600 فرد بالإضافة إلى حوالي 1000 مجند ينتمون لجهاز الاستخبارات وهو عدد غير كافي لتأمين المدينة التي تضم مؤسسات دولية متعددة، يضاف إلى ذلك التقسيم غير المتناسب لمؤسسة الشرطة حيث تنقسم بلجيكا إلى 6 مناطق رئيسية لتمركز الشرطة تغطي اختصاصاتها 19 بلدية، وهو ما يجعلها غير قادرة على أداء مهامها.
أما الإشكالية الأهم فتتمثل في ضعف الاتصال بين المؤسسات الأمنية والعسكرية في الأقاليم المختلفة وعدم وجود مؤسسات للتنسيق والاتصال ونظام للقيادة والسيطرة، وهو ما عبر عنه هانز بونتي عمدة بلدية فيلفورد بقوله “إن الترتيبات الأمنية في بلجيكا تمثل نموذجاً مثالياً على الفوضى المنظمة”، حيث قد لا تسمح المؤسسات الأمنية التابعة للأقاليم بدخول عناصر أمنية من العاصمة أو أقاليم أخري لمناطق اختصاصها وهو ما يعرقل تتبع وملاحقة الإرهابيين عبر الأقاليم المختلفة.
• تصاعد الجريمة المنظمة: شهدت بلجيكا على مدار الأعوام الماضية تصاعداً لنشاط شبكات الجريمة المنظمة والتي باتت تهيمن على بعض المناطق وتدير من خلالها عمليات لتهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود، وهو ما كشفت عنه التحقيقات في حادثة تشارلي ايبدو، حيث تم التأكد من حصول الإرهابيين على الأسلحة من منطقة ميدي في بلجيكا التي تشتهر بوجود عصابات تهريب الأسلحة والتي تقوم ببيع الأسلحة التي استخدمت في حروب البلقان في شرق أوروبا للإرهابيين في حي مولينبيك والتنظيمات الإرهابية في كافة أرجاء القارة الأوروبية.
• إخفاق دمج الأقليات: تعاني بلجيكا من إشكالية معقدة في دمج الأقليات الإسلامية، حيث يبلغ عدد المسلمين بها حوالي 650 ألف مسلم أغلبهم من الشباب الذين يعانون من البطالة والاغتراب، ويعد حي مولينبيك الذي تتمركز به الجاليات الإسلامية نموذجاً على إخفاق عمليات الدمج الاجتماعي، حيث يصل عدد السكان به إلى حوالي 100 ألف مواطن، 30% على الأقل من جنسيات أجنبية وحوالي 40% يحملون الجنسية البلجيكية ولكنهم من أصول أجنبية، وتصل نسبة البطالة في هذه المنطقة حوالي 25% وترتفع هذه النسبة لمستويات قياسية بين الشباب، بالإضافة للمشكلات التي يواجهها المسلمون في الحصول على سكن أو تلبية احتياجاتهم الأساسية مما يجعلهم مؤهلين للانتماء للتنظيمات المتطرفة.
• انتشار التطرف: تؤكد إحصائيات بعض المؤسسات عن أن بلجيكا تضم أكبر نسبة من المقاتلين الأجانب في سوريا بالمقارنة بعدد السكان، حيث يصل عدد البلجيكيين في سوريا إلى حوالي 500 فرد وفق إحصائيات المركز الدولي لدراسات التطرف في ديسمبر 2015، تمكن حوالي 100 مواطن من العودة إلى بلجيكا وهو ما يزيد من احتمالات انضمامهم لخلايا إرهابية.
ويرتبط ذلك بانتشار الفكر المتطرف في بلجيكا نتيجة انتماء بعض الأئمة في المساجد البلجيكية الكبرى للتيارات الإسلامية الأكثر تشدداً وقيامهم بنشر النموذج الأكثر تشدداً من الإسلام بالمقارنة بالعواصم الأوروبية الأخرى التي هيمن الأئمة الأتراك على المساجد الرئيسية بها، وفي ذات السياق رصدت منظمة مكافحة الإرهاب في بلجيكا قائمة من حوالي 800 مواطن يشتبه في انتمائهم لتنظيمات متطرفة، وهو ما يعكس مدي اتساع قاعدة التأييد للتنظيمات المتطرفة بين البلجيكيين.
• صعود اليمين المتطرف: أدي صعود التيارات اليمنية واتجاهات العداء للأجانب في بلجيكا لتزايد حالة الاغتراب التي يعاني منها المسلمون في بلجيكا، حيث لا تزال دعوات حزب “المصلحة الفلمنكية” بطرد الأجانب خارج بلجيكا تلقي قبولاً من بعض المواطنين، بالإضافة إلى أن حزب “الاتحاد الفلمنكي” الذي يعد في صدارة الأحزاب المشاركة في الحكومة البلجيكية لديه أيضاً اتجاهات متشددة تجاه الأجانب وتدفقات المهاجرين إلى بلجيكا بالإضافة إلى الترويج لتشديد الإجراءات الأمنية في مواجهة المواطنين من أصول أجنبية، وهو ما يجعلهم يشعرون بالدونية والتمييز العنصري بالمقارنة بأقرانهم الناطقين بالهولندية والفرنسية.
• تدفقات اللاجئين: تواجه بلجيكا أزمة كبري فيما يتعلق بتدفقات اللاجئين عبر حدودها إلى داخل الاتحاد الأوروبي، حيث وصل عدد اللاجئين المسجلين إلى حوالي 32 ألف لاجئ وفق الإحصاءات الصادرة في ديسمبر 2015، وإن كان عددهم يتجاوز هذه المستويات، كما تعد بلجيكا من دول العبور إلى داخل القارة الأوروبية، وهو ما يزيد من احتمالات استقطاب بعض اللاجئين للانضمام للتنظيمات الإرهابية أو اندساس بعض الإرهابيين بين صفوف اللاجئين على غرار أحمد المحمد الإرهابي المتورط في عمليات باريس في نوفمبر 2015، حيث تم تسجيله في اليونان في أكتوبر 2015 ومنحه جواز سفر باعتباره لاجئ ثم انتقل من بلجيكا إلى فرنسا قبيل العملية الإرهابية في باريس.
• الانتقال عبر الحدود: تتميز بلجيكا بموقعها الاستراتيجي في قلب القارة الأوروبية علي الحدود مع فرنسا وألمانيا بالإضافة إلى قرب بريطانيا وهولندا، وهو ما يجعل الانتقال من بلجيكا إلى الدول الأوروبية الأخرى يسيراً بالمقارنة بالدول الأخرى خاصةً في ظل حرية الانتقال بين دول الاتحاد الأوروبي وضعف الإجراءات الأمنية في محطات القطارات والطرق السريعة التي تربط الدول الأوروبية، وهو ما يمكن الإرهابيين من العبور دون قيود في دول القارة الأوروبية.
• تمركز المنظمات الدولية: تعد بلجيكا هدفاً استراتيجيا للمنظمات الإرهابية نتيجة تمركز المنظمات الإقليمية والدولية بها حيث تضم بعض مقرات حلف الناتو ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ومنظمة الجمارك العالمية ومقر المنطقة الاقتصادية الأوروبية، والمنظمة الأوروبية لسلامة ملاحة الطيران وما يزيد على 2500 وكالة دولية وحوالي 2000 شركة دولية النشاط و150 شركة محاماة دولية مما يزيد من الدلالات الرمزية لأي عملية إرهابية يتم تنفيذها في بلجيكا.
وفي المجمل يمكن القول أن العملية الإرهابية الأخيرة في بروكسل تحمل في طياتها دلالات عديدة يتصدرها أن الدول الأوروبية لم تتمكن من تقييم خطورة التهديدات الإرهابية الداخلية والتي لا يقوم بها مواطنين أوروبيين لدرجة أن بعض الدول الأوروبية باتت تضم مناطق ومقاطعات خارج السيطرة الأمنية مقارنة بالهواجس الأمنية المرتبطة بالتهديدات الإرهابية القادمة من الخارج، فضلاً عن أن العملية تمثل إخفاق للمؤسسات الأمنية البلجيكية التي كان لديها تحذيرات مسبقة من عمليات انتقامية رداً على القبض على القيادي الإرهابي صلاح عبدالسلام، بالإضافة إلى أن السرعة في تنفيذ العملية تؤكد وجود شبكات للإرهاب المنظم في قلب الدول الأوروبية، وأخيراً يمكن اعتبار هذه العملية هجوماً موجهاً للمشروع الأوروبي الذي لم يتمكن من إتمام سياسات التعددية الثقافية وتحقيق الدمج الاجتماعي للأقليات.
محمد عبدالله يونس
مركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية