صباح يوم الجمعة في بروكسل، أعولت صفارات إنذار سيارات الشرطة في عموم العاصمة البلجيكية، بينما هرع الضباط لاصطياد المشتبه بوقوفهم وراء الهجمات التي شُنت يوم 22 آذار (مارس). ففي صباح ذلك الثلاثاء، هز انفجاران مطار بروكسل، وتسببا في انهيار سقف المطار على رؤوس المسافرين الهاربين وأفضيا إلى مقتل 11 شخصاً. وبعد ساعة انفجرت قنبلة أخرى في قطار بينما كان يغادر محطة مالبيك متوجها إلى مركز المدينة. وأثبت هذا الهجوم أنه أكثر إماتة، حيث قتل 40 شخصاً.
وحتى وقت كتابة هذا المقال، كان هناك 300 ضحية ما يزالون في المستشفيات، 60 منهم في حالة حرجة. وكان الحراس المسلحون يقومون بدوريات في الشوارع. وكانت الشرطة ما تزال تشن مداهمات في ضاحيتي مولينبيك وسكايربيك، بينما تولى أفراد شرطة آخرون توقيف المسافرين في محطات المترو لتفتيش حقائبهم.
كان الغضب يستعر تحت الحزن الذي لف سكان بروكسل. وكانت حكومتهم تحذر منذ أسابيع من هجوم محتمل، حيث كانت غارات سابقة على بيوت آمنة لمتشددين قد كشفت عن وجود بنادق وآثار متفجرات. وربما كان الأكثر خطراً هو أن الشرطة كانت على علم باثنين من الجناة، الأخوين بكراوي، وأحدهما كانت تركيا قد اعتقلته في تموز (يوليو) من العام 2015، وحذرت بلجيكا منه. وفي نظر العديد من البلجيكيين، كان الأمر واضحاً تماماً: الحكومة فشلت.
لكن الإجابة عن السؤال “لماذا بروكسل؟” تتطلب ما هو أكثر من النظر في المقدمات التي فاتت على الأجهزة الأمنية. وقد أشار خبراء محاربة الإرهاب الذين تحدثوا مع مجلة “نيوزويك” إلى الفقر والحرمان الاقتصادي الذي تعاني منه الضواحي التي تؤوي نسبة عالية من السكان المسلمين؛ وإلى تحول سجون البلد إلى التطرف؛ ونظام الحكم البلجيكي المعقد؛ والافتقار إلى الاندماج الأوروبي كعوامل يمكن أن تفسر أيضاً لماذا وجد المتعاطفون مع “داعش” في بروكسل هدفاً سهلاً لهم.
كانت بروكسل قد كافحت التطرف في الأعوام القليلة الماضية. ومنذ العام 2012، يقدر أن ما يقترب من 500 بلجيكي سافروا إلى سورية والعراق للانضمام إلى المتشددين هناك. وبالنسبة لعدد السكان، يكون لدى بلجيكا أكبر عدد من المقاتلين الأجانب إلى الذين انضموا إلى الجماعات الإرهابية في أوروبا كلها. ويعتقد أن بعض هؤلاء المتشددين قدموا من ضاحية مولينبيك القريبة من وسط بروكسل. ويشكل المسلمون حوالي 25 إلى 30 في المائة من سكانها، ويوجد فيها أكثر من 20 مسجداً لخدمة الضاحية. وعلى النقيض مما تداولته بعض التقارير الإعلامية، فإنها ليست “منطقة يمنع الذهاب إليها” ولا هي بالغيتو. وقبيل الهجمات خرج الناس في مولينبيك إلى أعمالهم وشؤونهم الاعتيادية. وبدت المنطقة عادية، ولو أنها مسحوقة قليلاً – حيث الإسكان العام وفير وحيث النفايات تملأ الشوارع.
يقول هشام البالغ من العمر 30 عاماً والذي يدير محل بقالة على بعد محلات قليلة من المكان الذي ألقت الشرطة القبض فيه على المشتبه بضلوعه في هجوم باريس، صلاح عبد السلام، يوم 18 آذار (مارس): “العيش هنا ليس خطيراً. هؤلاء الأشخاص (الذين ينضمون إلى “داعش”) هم شبان صغار. ويقوم المتطرفون الحقيقيون باستغلالهم. إنهم يسعون إلى أحد يعلمهم الدين ويرشدهم”.
وتشكل ندرة الفرص عاملاً من العوامل التي تدفع هؤلاء الفتية نحو التطرف الذي يعدهم بحياة أفضل. ويبلغ معدل البطالة في المنطقة حوالي 30 في المائة، مقارنة بالمعدل القومي البالغ 8.5 في المائة.
تقول باولين ماتسارت، نائبة مدير قسم أوروبا العالمية والأمنية في مؤسسة “أصدقاء أوروبا” الفكرية: “هناك فوارق مجتمعية قوية في مناطق مثل مولينبيك. لقد تجمع الناس في غيتوهات حيث تتفشى البطالة. ولم يتم أي استثمار في البنية التحتية العامة”.
ويقول أحد سكان سكايربيك –وهي منطقة مشاكل أخرى– والذي طلب من “نيوزويك” عدم ذكر اسمه أن المتطرفين يستهدفون البائسين. ويضيف: “ذهبت لتقديم الطعام للفقراء في ضاحية غاري دو نورد (في بروكسل)، وبينما كنت هناك كان شخص يتجول في المكان ويحاول إقناعهم بالذهاب إلى سورية”.
أما أولئك الذين يستطيعون مقاومة رسائل المتطرفين، فقد يميلون مع ذلك إلى ارتكاب الجريمة العادية. وإذا ألقي القبض عليهم وأرسلوا إلى السجن، فإن الخبراء يحذرون من أن بعضهم قد يتحولون إلى متطرفين. وكان العقل المدبر لهجمات باريس، عبد الحميد أباعود، قد أمضى بعض الوقت في سجن بلجيكي، حيث قابل -وربما جند- عبد السلام. وكان الأخوان بكراوي قد أمضيا بعض الوقت خلف القضبان أيضاً.
خارج سجن “فوريست” في بروكسل، أضاف نيكولاس كوهين، الرئيس المشارك لمجموعة المراقبة في المرصد الدولي للسجون، مزيداً من شرح المشكلة: “ليست هناك معلومات عامة عن مستوى التطرف في السجون البلجيكية، لكننا نعلم أنهم يبحثون عنها. وقد طلبت سلطات السجن من الحراس والأئمة الإبلاغ عن أي علامة على التطرف”. وفي فرنسا التي حاولت دراسة المشكلة، يعتقد أن 15 في المائة من كل الذين أصبحوا متطرفين كانوا قد تحولوا في السجن.
لكن سلطات السجون في بلجيكا منهمكة في مشاكل أخرى بالإضافة إلى التطرف. ففي وقت سابق من شهر آذار (مارس) الماضي، نشرت منظمة حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي تقريرها السنوي عن أنظمة العقوبات الأوروبية. ووجد التقرير أن سجون بلجيكا مكتظة بالنزلاء بشكل خطير، حيث يوجد 129 نزيلاً لكل 100 غرفة سجن. ويعتبر سجن “فوريست” سيئاً بشكل خاص. ويقول كوهين: “كل شيء مكسور وكل شيء بالٍ ومتعفن. ومن بين الأجنحة الأربعة في السجن، هناك واحد ما يزال مغلقاً منذ نهاية العام 2015. وينام بعض السجناء على فراش على أرض الزنازين”.
مع أن من المفترض في السلطات أن تبقي على المتهمين بارتكاب أنشطة إرهابية منفصلين عن باقي النزلاء في السجن، فإن ذلك أسهل على القول منه على التنفيذ. ويقول دينيس بوسكيت، رئيس لجنة الإشراف على سجن فوريست: “كل سجون بلجيكا تعاني من مشكلة التطرف. وتعتقد السلطات أن من المستحيل على المتطرفين التواصل. لكن كل ما يفكرون فيه عندما يكونون في زنازين منعزلة هو كيفية إجراء اتصال”.
وبينما يشكل هؤلاء الرجال الشباب، وغالباً الشباب حصرياً، الأهداف الرئيسية للدعوة إلى التطرف -لو كانوا عاطلين عن العمل أو في السجن أو محبطين بسبب وضعهم الاقتصادي الاجتماعي- فإن بلجيكا عانت أيضاً من التطرف كنتيجة لأنظمتها الشرطية وأنظمة الحكم فيها.
في بروكسل وحدها، تقوم ست من قوى الشرطة بحماية العاصمة، كما تقول ماتسارت. والحكومة منقسمة على مستويات المجتمع والدولة والمستوى الفيدرالي، وفي كل قسم دائرة تتحدث الفرنسية وأخرى تتحدث الفلمنكية. ومن غير المستغرب أن تسهيل الاتصالات الفعالة بين المستويات والدوائر المختلفة للحكومة ينطوي على
تحديات.
يقول سيرجي ستروبانتس، ممثل بروكسل في المؤسسة الفكرية، معهد الاقتصادات والسلام: “إننا نحتاج إلى تعاون أكبر للتأكد من أن يقوم القسم الصحيح من السلطة بمخاطبة المشكلة المعنية”.
لكن ماتسارت تقول أن الاتصال ليس المشكلة الوحيدة: “أعتقد أنه يوجد هناك فشل على مستوى الحكومة في وقف تجنيد المجموعات المتطرفة. لا تتوافر (الأجهزة الأمنية) على الموارد الضرورية –على ناطقين بالعربية، أناس يتحدثون اللغة الخاصة بالمجتمعات التي يتحدر منها هؤلاء المتطرفون”.
وفي أعقاب هجمات بروكسل، قال عملاء الاستخبارات الذين تحدثوا شريطة الحفاظ على سريتهم أن دوائرهم تعاني من نقص التمويل ومن نقص الموظفين. وقالت إلين فينانتس، رئيسة جهاز الاستخبارات البلجيكية من العام 2006 وإلى العام 2014، أن بلجيكا واحدة من آخر البلدان في أوروبا التي تقدم على شراء أدوات حديثة لجمع المعلومات الاستخبارية، مثل أجهزة التنصت على الهواتف.
ومن جهتها، قالت الأجهزة الأمنية البلجيكية المعروفة ببيروقراطيتها وموازاناتها الشحيحة أن هناك حاجة ماسة إلى تنسيق أكبر بين دول الاتحاد الأوروبي من أجل التصدي للتطرف. وتوجد الآن قاعدة بيانات دولية صغيرة بين الدول، لكنها ليست شاملة بشكل كاف، وفق ماتسارت.
ويقول ستروبانتس: “لا أعتقد أن هذه مشكلة كبيرة جداً يصعب حلها. لكن ما تحتاج أوروبا إلى فعله هو أن تصبح قارة أكثر اندماجاً وأن يكون العمل أفضل على أساس يومي”.
يبدو هذا مهماً بشكل خاص في ضوء الروابط الواضحة بين مهاجمي بروكسل وباريس. وكان خالد البكراوي، أحد مفجري بروكسل، قد استأجر منزلا لعبد السلام في ضاحية فوريست الجنوبية الغربية. ووجدت الشرطة أيضاً آثار الحمض النووي لأحد المسلحين الثلاثة الذين نفذوا الهجمات في باريس ومشتبه به محتمل في هجمات بروكسل، نجم العشراوي، في نفس الشقة في سكايربيك.
وتقول ماتسارت في معرض إشارتها إلى هجمات مدريد في العام 2004 ولندن في العام 2005 وباريس في العام 2015: “هذه مشكلة يواجهها الجميع… علينا النظر إلى خارج بلجيكا والعمل بتقارب أكثر مع باقي
أوروبا”.
تجدر الإشارة إلى أن المشاكل التي تواجهها بلجيكا عديدة ومتنوعة – ويعرف مسؤولو الأمن أن القتال هو أبعد ما يكون عن الانتهاء. وبعد ثلاثة أيام من الهجمات، ظل التحذير من التهديد الإرهابي في أعلى مستوياته، حيث تحذر الشرطة من احتمال وقوع هجمات أخرى.
وتقول ماتسارت أن الحيلولة دون وقوع هجمات أخرى سوف يتطلب استثماراً حكومياً في المجتمعات المحرومة، وإلى تحسين الخدمات الاستخباراتية، بالإضافة إلى إجراء تغييرات جوهرية أساسية على كيفية عمل الأجهزة الأمنية. وتضيف ماتسارت: “إننا بصدد القيام بهذا الإجراء طويل المدى. إن حاجة مواطنينا تمس لتوفير الحماية لهم قدر الإمكان. ويعني ذلك وقف تربية العنف وتفريخه في مجتمعنا”.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد