في مختلف أنحاء العالم اليوم يسود شعور بنهاية عصر، وهو نذير عميق بتفكك مجتمعات كانت مستقرة في سابق عهدها.
في أبيات خالدة من قصيدته العظيمة “المجيء الثاني”، يقول الشاعر ويليام بتلر ييتس:
الأشياء تتداعى، ويعجز المركز عن الصمود
ويُطلَق العنان للفوضى تجتاح العالم..
فلا يجد الصالح سبيلا للإقناع، بينما الطالح
تملؤه قوة متوقدة..
وأي وحش فظ هذا الذي يفيق أخيرا
ويمشي محدودبا صوب بيت لحم كي يولد؟
كتب ييتس هذه الأبيات في يناير/كانون الثاني 1919، بعد مرور شهرين منذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وقد استشعر على نحو غريزي أن السلام سوف يتقهقر مُفسحا المجال لأهوال أعظم.
وبعد ما يقرب من الخمسين عاما، وبالتحديد في عام 1967، اختارت الكاتبة الأميركية جوان ديديون “يمشي محدودبا صوب بيت لحم” كعنوان لمجموعة من المقالات عن الانهيارات الاجتماعية في أواخر ستينيات القرن العشرين.
“في العشرينيات والثلاثينيات، وأيضا في الستينيات والسبعينيات، ومرة أخرى اليوم، كان اليأس من السياسة مرتبطا بخيبة الرجاء في نظام اقتصادي فاشل. في فترة ما بين الحربين، بدا الأمر وكأن الرأسمالية محكوم عليها بالزوال بفعل التفاوت المفرط بين الناس والانكماش والبطالة الجماعية”
وفي الأشهر الاثني عشر التي تلت نشر الكتاب، اغتيل مارتن لوثر كنغ الابن، وروبرت كينيدي، واندلعت أعمال الشغب في المدن الداخلية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وبدأ الطلاب الفرنسيون المحتجون التمرد الذي أطاح بالرئيس شارل ديغول بعد عام.
وبحلول منتصف السبعينيات، خسرت أميركا الحرب في فيتنام، وكانت منظمات مثل منظمة اللواء الأحمر في إيطاليا، ومنظمة الصمود تحت الأرض اليسارية في الولايات المتحدة، والجيش الجمهوري الأيرلندي، ومنظمة الإرهابيين الفاشيين الجدد في إيطاليا، تشن الهجمات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، وبفضل دعوى عزل الرئيس ريتشارد نيكسون تحولت الديمقراطية الغربية إلى مادة للسخرية.
واليوم مرت خمسون سنة أخرى، وبات العالم مرة أخرى نهبا للمخاوف حول فشل الديمقراطية. تُرى هل يمكننا استخلاص بعض الدروس من تلك الفترات السابقة التي اتسمت بالشك الوجودي في الذات؟
في العشرينيات والثلاثينيات، وأيضا في الستينيات والسبعينيات، ومرة أخرى اليوم، كان اليأس من السياسة مرتبطا بخيبة الرجاء في نظام اقتصادي فاشل. في فترة ما بين الحربين، بدا الأمر وكأن الرأسمالية محكوم عليها بالزوال بفعل التفاوت المفرط بين الناس والانكماش والبطالة الجماعية.
وفي الستينيات والسبعينيات، بدا الأمر وكأن الرأسمالية تنهار للأسباب المعاكسة تماما: التضخم، وردود الفعل العكسية من قِبَل دافعي الضرائب والمصالح التجارية ضد سياسات إعادة التوزيع التي تتبناها “الحكومة الضخمة”.
ولا يعني ذكر هذا النمط من الأزمات المتكررة أن قانونا ما من قوانين الطبيعية يملي شبه انهيار للرأسمالية العالمية كل خمسين إلى ستين عاما، ولكنه يعني إدراك حقيقة مفادها أن الرأسمالية الديمقراطية نظام متطور يستجيب للأزمات بتحويل العلاقات الاقتصادية والمؤسسات السياسية بشكل جذري.
ولهذا، ينبغي لنا أن نرى في اضطرابات اليوم استجابة متوقعة لانهيار نموذج بعينه من نماذج الرأسمالية العالمية في عام 2008، وإذا حكمنا من خلال تجارب الماضي، فربما تكون إحدى النتائج المحتملة عشر سنوات أو أكثر من البحث عن الذات والاستقرار، والتي قد تنتهي إلى تسوية جديدة لكل من السياسة والاقتصاد.
وهذا هو ما حدث عندما أتى انتخاب مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في أعقاب التضخم الكبير في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وعندما تمخضت أزمة الكساد العظيم في الثلاثينيات عن الصفقة الجديدة و”الوحش الفظ” الذي تمثل في إعادة تسليح أوروبا، وقد اتسمت كل من هاتين التسويتين بعد الأزمة بتحولات في الفكر الاقتصادي فضلا عن السياسة.
فقد أدى الكساد العظيم إلى اندلاع الثورة الكينزية في الاقتصاد، جنبا إلى جنب مع الصفقة الجديدة في السياسة، واستفزت الأزمات التضخمية في الستينيات والسبعينيات ثورة ميلتون فريدمان النقدية المضادة التي ألهمت تاتشر وريغان.
وبالتالي فقد بدا من المعقول أن نتوقع أن يتسبب انهيار الرأسمالية المالية المتحررة من الضوابط والقيود التنظيمية في إحداث تغير هائل رابع (أو الرأسمالية 4.0 كما أسميتها في عام 2010) في كل من السياسة والفكر الاقتصادي. ولكن إذا كانت الرأسمالية العالمية تدخل مرحلة ثورية جديدة حقا، فما هي سماتها المحتملة؟
كانت السمة المميزة لكل مرحلة متعاقبة من مراحل الرأسمالية العالمية التحول في الحدود بين الاقتصاد والسياسة. ففي رأسمالية القرن التاسع عشر التقليدية، كانت السياسة والاقتصاد يتجسدان من الناحية المثالية في مجالين متميزين، وكانت التفاعلات بين الحكومة والقطاع الخاص تقتصر على تحصيل الضرائب “الضرورية” لتغطية نفقات المغامرات العسكرية والحماية “الضارة” للمصالح الخاصة القوية.
وفي المرحلة الكينزية الثانية من الرأسمالية، كان يُنظر إلى الأسواق بعين الريبة، في حين اعتُبر التدخل الحكومي صحيحا. وفي المرحلة الثالثة -التي هيمنت عليها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان- انقلبت هذه الافتراضات، فكانت الحكومة خاطئة عادة والسوق على صواب دائما. وربما يمكن تعريف المرحلة الرابعة بالاعتراف بإمكانية ارتكاب أخطاء مأساوية من طرف الحكومات والأسواق على حد سواء.
وربما يبدو الاعتراف بهذه “اللاعصمة” التامة مُحبِطا، ويبدو من المؤكد أن المزاج السياسي الحالي يعكس هذه الحال، ولكن الاعتراف بعدم العصمة من الخطأ قد يكون في واقع الأمر أداة تمكين، لأنه يعني ضمنا إمكانية التحسن في كل من الاقتصاد والسياسية.
“تتلخص الرسالة التي تبثها الثورات الشعبوية اليوم في أن الساسة لابد أن يمزقوا دليل اللوائح التنظيمية الذي تعودوا على العمل وفقا له قبل الأزمة، وأن يعملوا على تشجيع ثورة في الفكر الاقتصادي، وإذا رفض الساسة المسؤولون ذلك، “فمن المؤكد أن وحشا فظا سوف يفيق أخيرا” لكي يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنهم”
ولكن إذا كان العالَم معقدا وغير متوقع إلى الحد الذي يمنع الأسواق أو الحكومات من تحقيق أهداف اجتماعية، فإن هذا يستلزم تصميم أنظمة جديدة من الضوابط والتوازنات حتى يصبح بوسع عملية اتخاذ القرار السياسي أن تقيد الحوافز الاقتصادية والعكس بالعكس. وإذا كان العالم يتسم بالغموض واستحالة التنبؤ بتقلباته، فلابد من إعادة النظر في النظريات الاقتصادية التي سادت في فترة ما قبل الأزمة (التوقعات العقلانية، وكفاءة الأسواق، وحيادية المال).
وعلاوة على ذلك، ينبغي للساسة أن يعيدوا النظر في الكثير من البناء الإيديولوجي الخارق الذي أقيم على افتراضات أصولية السوق، ولا يشمل هذا إلغاء القيود التنظيمية المالية فحسب، بل وأيضا استقلال البنوك المركزية، والفصل بين السياستين النقدية والمالية، والافتراض بأن الأسواق المتنافسة لا تحتاج إلى تدخل الحكومة لإنتاج عملية توزيع دخل مقبولة، ودفع الإبداع، وتوفير البنية الأساسية الضرورية، وتسليم المنافع العامة.
من الواضح أن التكنولوجيات الجديدة وعمليات إدماج المليارات من العمال الإضافيين في الأسواق العالمية خلقت الفرص التي ينبغي لها أن تعني المزيد من الازدهار في العقود المقبلة مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة، ومع هذا يحذر الساسة “المسؤولون” في كل مكان مواطنيهم من “معتاد جديد” يتسم بالنمو الراكد. ليس من المستغرب إذن أن تثور ثائرة الناخبين.
يستشعر الناس أن قادتهم يملكون الأدوات الاقتصادية القوية الكفيلة بتعزيز مستويات المعيشة، حيث من الممكن طباعة النقود وتوزيعها بشكل مباشر على المواطنين، ومن الممكن رفع الحد الأدنى للأجور للحد من التفاوت بين الناس. وبوسع الحكومات أن تزيد من استثماراتها في البنية الأساسية والإبداع بتكاليف لا تتجاوز الصفر. ومن الممكن أن يعمل التنظيم المصرفي على تشجيع الإقراض بدلا من تقييده.
ولكن نشر مثل هذه السياسات الراديكالية يعني رفض النظريات التي هيمنت على الاقتصاد منذ ثمانينيات القرن العشرين، جنبا إلى جنب مع الترتيبات المؤسسية التي تقوم عليها، مثل معاهدة ماستريخت في أوروبا، والواقع أن قلة من الأشخاص “المسؤولين” ما زالوا على استعداد لتحدي العقيدة الاقتصادية التي سادت قبل الأزمة.
تتلخص الرسالة التي تبثها الثورات الشعبوية اليوم في أن الساسة لابد أن يمزقوا دليل اللوائح التنظيمية الذي تعودوا على العمل وفقا له قبل الأزمة، وأن يعملوا على تشجيع ثورة في الفكر الاقتصادي، وإذا رفض الساسة المسؤولون ذلك، “فمن المؤكد أن وحشا فظا سوف يفيق أخيرا” لكي يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنهم.
أناتول كالتسكي
معهد واشنطن