سرعان ما انتهت الاحتجاجات في ساحة التحرير ببغداد وعاد المعتصمون إلى بيوتهم. عدل أكثر السياسيين عن وعودهم السابقة بإجراء الإصلاح المنشود وعادوا يتحدثون عن دور لهم في حكومة التكنوقراط المقترحة، ويتساءلون كيف يمكن هذه الحكومة أن تحكم من دون تفويض شعبي عبر صناديق الاقتراع.
مشكلة الكثير من الأحزاب السياسية أن وجودها قد تعزز بسبب مشاركتها في الحكومة وهي تخشى أن تختفي سياسياً إن خرجت منها الآن وتولت حكومة غير سياسية مقاليد الأمور. بل إن غياب الأحزاب الحالية كلياً عن مسرح الأحداث سيكون اكثر احتمالاً في ما لو نجحت حكومة التكنوقراط وتمكنت من انتشال البلاد من مشكلاتها الحالية المستعصية.
معظم المرشحين لتولي مناصب في الحكومة الجديدة يمتلك خبرة واسعة في المجالات التي اختير لها. وأبرز المرشحين علي علاوي، المرشح لأهم منصب في الدولة هو وزارة المالية والتخطيط. ويمتلك علاوي، وهو خريج كلية الاقتصاد المرموقة في جامعة لندن، أل أس إيه، خبرة طويلة في الشؤون المالية والاقتصادية الدولية، إضافة إلى معرفته الواسعة في الشؤون السياسية والثقافية التي اتضحت في كتبه المتعددة التي تعد الآن مراجع مهمة عن العراق وتاريخه وثقافته في الجامعات الغربية. وتضاف إلى ذلك خبرته في العمل الحكومي إذ تولى إدارة ثلاث وزارات خلال 2003-2006، وهي التجارة والدفاع والمالية، ونجح فيها، ولديه رؤية واقعية عن الاقتصاد العراقي وبإمكانه أن ينتشله من الفشل الحالي لو مُنح الصلاحيات المطلوبة.
والمرشح البارز الآخر هو الخبير الدولي في شوؤن المياه والزراعة الدكتور حسن الجنابي الذي عمل في هذا المجال لعشرات السنين وكان سفيراً في منظمة الغذاء والزراعة الدولية (فاو)، وسيضطلع بمهمة تنشيط قطاع الزراعة المهم لكنْ المهمل حالياً.
هل سيصطف السياسيون وراء هذه الحكومة التي ينظرون إليها بعين الريبة باعتبارها «خطفت» حقهم في الحكم لأنهم «منتخبون» بينما التكنوقراط معيَّنون اختارهم رئيس الوزراء؟ نجاح حكومة التكنوقراط لن يكون في مصلحة الأحزاب الإسلامية تحديداً لأن الناخبين سيطالبون حينها باستمرار التكنوقراط بدلاً من السياسيين في إدارة البلد. السؤال المهم: هو كيف ستستمر الحكومة من دون تفويض شعبي خصوصاً أن التكنوقراط لن يرشحوا في الانتخابات لأنهم ليسوا سياسيين؟ هل ستتبنى الأحزاب في برامجها الانتخابية ترشيح وزراء تكنوقراط لشغل المناصب الوزارية؟ وكيف يمكن الأحزاب أن تدعو الناخبين إلى التصويت لها بينما تعدهم بتشكيل حكومة مكونة من مستقلين؟
إنه مأزق حقيقي تواجهه الأحزاب لكن بإمكانها تجاوزه إن تبنت برنامجاً مدروساً يضع أولوية للبناء والإعمار ومكافحة الفساد. لقد انشغل السياسيون في الفترة السابقة عن بناء الدولة واستغرقوا في بناء كياناتهم وتوسيع قواعدهم الشعبية على حساب الدولة، واعتبروا المشاركة في الحكومة وسيلة للتغلب على الآخرين وكسب المال والتفرد بالسلطة. الاحتجاجات الشعبية الأخيرة التي أيدتها المرجعية الدينية بقوة ارسلت رسالة إلى السياسيين مفادها أن فترة استغلال المناصب وتوزيع المغانم على الأتباع والأقارب قد انتهت وأن الناخب العراقي لن يقبل مستقبلاً بأقل من دولة عادلة تقدم فرصاً متكافئة لجميع مواطنيها من دون تمييز.
من المتوقع أن يستمر الجدل خلال الأيام المقبلة حول المرشحين، وقد بدأت حملات التشكيك بهم بهدف دفعهم للإنسحاب من أجل فسح المجال لآخرين يمكن أن يقدموا تنازلات للأحزاب السياسية أو يعقدوا صفقات معها. المرشح الذي أثار استغراب الجميع هو الشريف علي الذي اختاره العبادي لتولي وزارة الخارجية. ومبعث الإستغراب أنه لم يمارس العمل الديبلوماسي أو الحكومي يوماً، إضافة إلى كونه سياسياً يدعو إلى إعادة الحكم الملكي. لقد واجه ترشيحه اعتراضات كثيرة أولها من لجنة العلاقات الخارجية البرلمانية التي قالت إنه غير مناسب، وثانيها من كتلة اتحاد القوى العراقية.
وهناك أسماء بازرة تمتلك الخبرة والمقبولية العالمية لتولي هذا المنصب، وشخصيات مستقلة أخرى يمكن أن تتولى مناصب وزارية، وشخصيات ناجحة ومستقلة سياسياً وغير محسوبة على طائفة معينة ومقبولة وطنياً وعربياً ودولياً.
ويبقى أنه لن تمضي عملية المصادقة على الحكومة المقترحة بسلاسة، بل ستحاول الأحزاب أن تجد الأعذار لعرقلتها كي تأتي بحكومة تلائم توجهاتها ولا تهدد مستقبلها السياسي. أكثر الأحزاب تخشى من بقاء حيدر العبادي في رئاسة الحكومة بينما تغيب هي عن المشهد، فقد يتمكن العبادي من التمدد سياسياً خلال العامين المقبلين خصوصاً مع النجاح المحتمل لحكومة التكنوقراط. ومهما كانت المصاعب التي ستواجهها هذه الحكومة فإن مجرد وجودها سيرسل رسالة إلى موظفي الدولة بأن عهد الفساد انتهى وبدأ عصر العمل ومحاسبة المقصرين، وأن الحكومة جادة في بناء دولة جديدة ناجحة تخدم مواطنيها جميعاً وليس المنتمين للأحزاب فقط. لقد أعرب مرشحون للوزارة عن مخاوفهم من الفشل في مهمتهم الجديدة خصوصاً مع شح الأموال المخصصة للمشاريع الضرورية، وقد تكون مخاوفهم في محلها، لكن النصر المعنوي الذي سيتحقق لكل العراقيين بإدارتهم الكفوءة للدولة سيكون كافياً لأن يحدِث تقدماً يؤسس لدولة ناجحة. فمعظم موظفي الدولة سيتصرفون في شكل مختلف لأنهم لن يتمتعوا بحماية الأحزاب إن أخفقوا في وظائفهم أو مارسوا الفساد، وسيبقى في الوظيفة من يعمل بكفاءة ومهنية فقط. فإن رأت حكومة التكنوقراط النور وحظيت بمساندة سياسية كافية فإنها ستشكل فرصة جديدة للعراق ربما تكون الأخيرة.
حميد كفائي
صحيفة الحياة اللندنية