أياً كان ما وراء تحركات روسيا الأخيرة في سوريا، أي سحب بعض القوات ولكن إضافة قوات أخرى في الوقت نفسه، فأمام موسكو الآن خيارات عسكرية كثيرة لتكملة دبلوماسيتها في المرحلة السياسية التي يدخلها الصراع. وفي المقابل، طرحت واشنطن كافة أوراقها بشأن الشق الدبلوماسي، وقد تؤخذ على حين غرة مرة أخرى من خلال العمليات العسكرية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
نظراً إلى المنهجية التي يعتمدها الكرملين في مقاربة الصراعات الأخرى الجارية مؤخراً، لا غرابة إذن ألا يكون الانسحاب من سوريا انسحاباً حقيقياً. فكما أشار غاريت كامبل في مقاله الذي أصدرته “مؤسسة بروكنغز” في 18 آذار/مارس، لا تزال الأسلحة الروسية لمنع الوصول/منع دخول المنطقة قائمة في مكانها ويمكن أن تعقّد أي جهود أمريكية لإنشاء منطقة حظر جوي. كما دعمت القوات الروسية آخر عمليات نظام الأسد لاستعادة مدينة تدمر من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). وعلى نطاق أوسع، أعرب بوتين علناً عن استعداده لإعادة تعزيز الوجود الروسي في سوريا في أي وقت. و تشكّل أوجه الغموض والتناقضات الظاهرة في سياسة موسكو عوامل تثير تساؤلات حول الطريقة التي ستؤثر فيها أحدث التطورات على الولايات المتحدة وباقي “المجموعة الدولية لدعم سوريا”، فضلاً عن إيران وسوريا نفسها.
دوافع بوتين
إنّ النجاح العسكري الروسي أمر لا يرقى إليه الشك، فكما أشار الخبير في الشؤون السورية فريد هوف في 16 آذار/مارس في مقال له صدر عن موقع “هافينغتون بوست”، فقد تم صد قوى المعارضة بشدة منذ بدء التدخل الروسي في أواخر العام الماضي. وعلى الرغم من أن هذه المعارضة لا تزال تسيطر على مناطق استراتيجية، إلا أنها لم تعد تهدد بقاء النظام. وكما هو الحال في جورجيا وشرق أوكرانيا، يبدو أن بوتين اختار “تسديد عدة ضربات” خفيفة في سوريا بدلاً من ضربة قاضية كالتي أحرزها في الشيشان وشبه جزيرة القرم. ويعني ذلك عملياً إنقاذ بشار الأسد وتوسيع الوجود العسكري الروسي والمضي قدماً في أجندة موسكو الاستراتيجية. فالضغط من أجل تحقيق النصر الكامل قد يكون خطراً نظراً إلى تهديدات الولايات المتحدة بـ “خطة بديلة” لدعم الثوار، وإلى تأكيد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في الشهادة التي أدلى بها في 23 شباط/فبراير أمام مجلس الشيوخ بأن روسيا لا تستطيع أن تهزم المعارضة بشكل تام. كما من شأن تحقيق المزيد من التقدم أن يؤدي إلى تدفق المزيد من اللاجئين نحو أوروبا التي تعاني من وضع يائس، الأمر الذي يمكن أن يؤثر تأثيراً عكسياً على روسيا.
والسؤال إذاً ما هي الخطوة التالية؟ لتقييم خيارات بوتين، لا بد من دراسة دوافعه. فتاريخياً، كان اهتمام موسكو بإقامة علاقات مع الشرق الأوسط أقل من الأهمية التي أولتها لاستخدام المنطقة كورقة ضغط ضد الغرب أو وسيلة لتحسين الوضع الداخلي، ونهج بوتين لا يختلف عن ذلك. ويقيناً، أن روسيا لم تعد “القوة العظمى” نفسها التي كانت عليها في “الحرب الباردة”، عندما حافظت على حضور إقليمي قوي. بيد، إن الوضع في الشرق الأوسط هش بشكل استثنائي في هذه الأيام، لذلك لا يحتاج بوتين إلى بذل الكثير من الجهود لتأكيد النفوذ الروسي، لا سيما في ظل تراجع الغرب المُلاحَظ من المنطقة. وإلى جانب التدخل في سوريا، ركز الرئيس الروسي بشكل أساسي على التجارة ومبيعات الطاقة وتقديم الدعم الدبلوماسي لحلفائه الرئيسيين في المنطقة.
وبشكل مماثل، يُعتبر الأمر حاسماً أيضاً في السياق المحلي الروسي. إذ يبدو أن بوتين يعتقد بصدق أن الدعم الغربي للديمقراطية في سوريا وغيرها من الدول ليس سوى تمويه لإسقاط الأنظمة، بما في ذلك نظامه. وفي رأيه، يقف الغرب وراء معظم الاحتجاجات الدولية الكبيرة، بدءً من “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا وصولاً إلى “الربيع العربي”. ولا يمكنه أن يتصور أن الشعب نفسه يطلب التغيير. وبالمثل، فإنه يعتقد أن تشجيع الناس على الالتفاف حول الراية الوطنية سيصرف انتباههم عن عجز حكومته في الداخل. فقد ضمّ شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في وقت كانت شعبيته قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها وكان الاقتصاد الروسي في ركود عميق، وبالتالي، فإن المغامرة التي يخوضها في سوريا متجذرة في العقلية نفسها.
وهكذا، ففي حين أن مبيعات الأسلحة والعوامل العسكرية مهمة لعلاقة بوتين مع سوريا، تعتبر الأهداف السياسية ذات أهمية قصوى: وعلى وجه التحديد، فَضْحْ الغرب وتصويره على أنه ضعيف وغير كفء، واستعادة مكانة روسيا كـ “قوة عظمى”، والإشارة إلى الدول الصغيرة المجاورة لها مباشرة إلى أن الغرب لن يدعمها إذا حاولت الفرار من الفلك الروسي، كما فعلت جورجيا. فحماية الأسد لا تتعلق بالزعيم نفسه بقدر ما ترتبط بزيادة قدرة روسيا على التأثير في الأحداث في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق.
وفي هذا السياق، قدّم قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال لويد أوستن تقييماً مماثلاً في 8 آذار/مارس قائلاً: “من خلال عرض كافة قدرتهم العسكرية في سوريا، يأمل الروس بالتأثير على الأطراف الإقليمية والتأكيد على قوتهم العالمية. ففي النهاية، يريد الروس تعزيز نفوذهم الإقليمي لمواجهة الولايات المتحدة كطرف قوي لا غنى عنه في الشرق الأوسط”. كما حذر الجنرال الأمريكي من “شراكة استراتيجية ناشئة” بين إيران وروسيا.
خيارات بوتين
في سياق انتصاراته المحدودة، بل الهامة حتى الآن، ودوافعه الموضحة أعلاه، تُتاح أمام بوتين أربعة خيارات عسكرية وسياسية على الأقل في سوريا:
الخيار الأول: تحقيق المكاسب. كما أشار محللون آخرون، ينطوي هذا السيناريو على إظهار مرونة تكتيكية، بما في ذلك إظهار بُعد شكلي عن مقاربة الأسد الوحشية في كثير من الأحيان، وفي الوقت نفسه ضمان بقاء المعارضة تحت ضغط عسكري. وهذا يعني أيضاً إبقاء الأسد في السرج السياسي، وهو أمر هام لإيران بشكل خاص، كما وصفته رندة سليم في مقالها المنشور في موقع “هافينغتون بوست” في 17 تشرين الثاني/نوفمبر. وقد يتطلب هذا الأمر التهديد بشن ضربات جوية روسية، أو شنها بالفعل، ضد عناصر الثوار إذا ما تمردوا في المفاوضات، لكنّه لن يتطلب أي تغيير عسكري كبير.
الخيار الثاني: هجمات جديدة ضد المعارضة. مع تواجد الطائرات حالياً في سوريا، والتي يمكن تعزيزها إذا لزم الأمر، بإمكان بوتين أن يدعم قوات النظام والعناصر الإيرانية في حملة جديدة للتضييق فعلياً على المعارضة، بما في ذلك منطقة أعزاز السورية التي تشكل شريان حياة استراتيجي لتركيا. وحتى التهديد بشن مثل هذه الهجمات من شأنه أن يعزز من القوة الدبلوماسية المتوفرة بين يديه.
الخيار الثالث: النصر مهما كلف الأمر. على الرغم من أن هذا السيناريو ممكن عسكرياً (على الأقل في شمال غرب سوريا في البداية)، إلا أن محاولة تدمير المعارضة ستكون مكلفةً. وكما ذُكر أعلاه، يمكن أن يؤدي ذلك إلى دفع الولايات المتحدة والحكومات العربية والعالم السني الأوسع إلى اتخاذ مواقف مضادة فضلاً عن مواقف أكثر صرامة من الاتحاد الأوروبي حول مختلف القضايا التي تؤثر على المصالح الروسية. وبالتالي فهذا السيناريو هو الأقل احتمالاً.
الخيار الرابع: مناورة تنظيم «الدولة الإسلامية». يحمل هذا السيناريو متوسط المخاطر إمكانات لتحقيق مكاسب كبيرة. فنظراً إلى خطاب بوتين حول تنظيم «داعش» والفوز الأخير الذي تم تحقيقه في تدمر، قد يعلن الرئيس الروسي شن هجوم جديد ضد التنظيم بالتعاون مع الأسد وإيران. وبمساعدة من القوة الجوية وربما بعض قوات النخبة البرية الروسية، ربما يمكن لقوة مشتركة من الإيرانيين و «حزب الله» ووحدات سورية موثوق بها أن تبلي بلاءً حسناً ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، تماماً كما فعلت “قوات سوريا الديمقراطية” القوية، وهي قوات سورية بقيادة كردية تتألف من 6000 مقاتل سيطرت مؤخراً على مدينة الشدادي ذات الموقع الاستراتيجي.
ولن تؤدي هذه الحملة إلى هزيمة تنظيم «داعش» بالكامل، لكنّ ذلك قد لا يكون هدف بوتين الحقيقي؛ فهو سيتطلع على الأرجح إلى تعزيز هيمنة روسيا في المنطقة. وفي الواقع، قد يحقق فوزاً جيوسياسياً كبيراً من خلال إبراز التباين ما بين تقدم روسيا في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» والمخاطر التي تخوضها لذلك، وبين الحملة البطيئة “الخالية من أي مخاطر” التي أطلقها الرئيس الأمريكي باراك أوباما وائتلافه، وكل ذلك من دون تعريض مفاوضات السلام السورية للخطر.
أما التحول الأكثر جرأة، فيتعلق بالأسد، وذلك بأن يقترن الهجوم بالمطالبة بقيام الائتلاف بإنهاء عملياته “غير المنسقة” في سوريا إلا إذا تم إخضاعها لحملته المشتركة مع روسيا. وواشنطن ضعيفة في هذا الأمر. إذ إن حملة الائتلاف ضد تنظيم «داعش» لا تتمتع سوى بشرعية رثة في القانون الدولي، فقرارا مجلس الأمن الدولي رقم 2170 و 2249 صادقا على العمل ضد التنظيم، إلا أن الحكومة السورية لم تأذن مباشرة بمثل هذا الإجراء على أراضيها كما فعلت الحكومة العراقية. أضِف إلى ذلك أن الركائز الأخرى التي كانت تدعم الحملة أصبحت أكثر اضطراباً، فالتسامح الدولي مع الهجمات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» قد لا يستمر إلى أجل غير مسمى، ويمكن لردود الأفعال البكماء لنظام الأسد أن تزداد حدة بسرعة إذا وعد بوتين ببديل أكثر نجاحاً من الحملة التي تقودها الولايات المتحدة. وفي هذه الحالة، قد تحتج دمشق على “انتهاك سيادتها” أمام الأمم المتحدة، ويمكن للجنرالات الروس أن يطالبوا باتخاذ إجراءات لتسوية الصراع تبعد قوات الولايات المتحدة عن أهداف كبرى لـ تنظيم «داعش». وحتى لو كانت واشنطن قادرة على درء إجراءات مجلس الأمن، فإن الوضع القانوني لعمليات الائتلاف في سوريا سيكون موضع شك، ما قد يتسبب بانعزال الولايات المتحدة إذا بدأ الحلفاء بالتخلي عن الحملة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل ستخاطر واشنطن بمواجهة عسكرية مع روسيا في ظل هذه الظروف القانونية الغامضة؟
الخاتمة
لاستباق العواقب السلبية لهذه السيناريوهات، ينبغي أن تبدأ الإدارة الأمريكية محاكاة مجموعة من الخيارات العسكرية والدبلوماسية التي يتخذها بوتين. ويعني ذلك تحقيق انتصارات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» باستخدام نفس الدرجة من القوة التي كانت روسيا على استعداد لاستخدامها، ولكن، من دون إلحاق الخسائر بصفوف المدنيين. ويعني ذلك أيضاً الحفاظ على إمكانية اعتماد “خطة بديلة” لتعزيز موقف المعارضة، وإصلاح العلاقات مع تركيا والدول العربية، وتجنب تقديم تنازلات عسكرية عملياتية لقادة بوتين في أي مكان في المنطقة. ولكن، قبل كل شيء، يجب على واشنطن تجنب اعتماد منهجية “منسقة” لهزيمة تنظيم «داعش»، لأن ذلك من شأنه تمكين موسكو وطهران ودمشق، وبالتالي استبدال تهديد إقليمي بتهديد آخر حتى لو ثبت أنه فعّال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». أما إذا سُمح لروسيا بالبروز كقوة مهيمنة بشكل متزايد في منطقة الشرق الأوسط من خلال مجموعة من الخيارات المذكورة أعلاه، فإن تهديد تنظيم «داعش» سيبقى لمدة أطول، كما ستتضاعف المخاطر التي تهدد الأمن الدولي، وسيكون الضرر الذي سيلحق بمصالح الولايات المتحدة ومصداقيتها شديداً.
آنا بورشفسكايا
معهد واشنطن