التطورات المتسارعة في المنطقة العربية في الفترة الأخيرة تؤكد أن هناك ترتيبات جديدة لها، تستمد ملامحها الرئيسية من النتائج التي خلفتها الصراعات والنزاعات، والتي لا تزال تلقي بتداعياتها السياسية والأمنية وربما الجغرافية، لذلك فالتدقيق في المؤشرات والإجراءات التي تظهر من حين لآخر مسألة حيوية، لأنها تكشف فحوى التوجهات خلال الفترة المقبلة.
في مقاربة جديدة لتفسير سلوك إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما إزاء التطورات التي شهدتها ولا تزال دول المنطقة، توصل الباحث هشام النجار المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، إلى أن واشنطن اختارت إيران (إلى جانب إسرائيل) لحراسة مصالحها في الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة.
والمسألة في هذا السياق لا تحتاج تفسيرا معمقا لأن استحضار نتائج المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية التي تقودها الولايات المتحدة كفيل بالتأكيد على أن أميركا تسعى إلى خلق قوة موازنة أمام تركيا والعرب وهي إيران.
وجهة نظر هشام النجار يمكن أن تفسر التغيرات غير المنطقية في توجهات السياسة الأميركية بالمنطقة، والبرودة المتصاعدة في العلاقات الأميركية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وصرح النجار لـ”العرب” عقب صدور دراسته الأخيرة تحت عنوان “سوريا والتحولات الكبرى ومشكلات الوطن ومستقبل العرب”، أن واشنطن استقرت بالفعل على “التضحية بمصالح العرب في سبيل الحفاظ على أمنها وأمن إسرائيل”، مضيفا أن سياقات الأحداث في الأشهر الماضية تقود المتابعين إلى طريق واحد، وهي أن “أميركا اختارت إيران بديلا للدول العربية للقيام بمهمة حراسة مصالحها في المنطقة، وتلبية احتياجاتها المستقبلية فيها”.
واعتبر النجار أن هناك رغبة غربية واضحة في تغييب الدور العربي من خلال تدعيم حضور قوى إقليمية غير عربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل في الملفات المتعلقة بمستقبل المنطقة، وتغذية صراعات القوى المذهبية ومشاريعها التوسعية.
وفقا لهذا المفهوم بنى الباحث رؤيته للعلاقة المريبة التي ربطت واشنطن بكل من تركيا أردوغان العثمانية، وتيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفي القلب منها جماعة الإخوان، وفق تحالف وصفه النجار بالمخادع.
وفي سياق تنزيل وجهة نظره على الواقع السوري، ومنه على الواقع العربي بشكل عام، أكد النجار لـ”العرب” أن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد أقنع واشنطن بضرورة دعم ما أسماه بالمعارضة السلمية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين والفصائل المتحالفة معها داخل الأراضي السورية كبديل لنظام بشار الأسد.
لكن هذه الفصائل فشلت رغم الدعم المادي والعسكري الذي حصلت عليه من أميركا والدول الغربية في تقديم نفسها كمعارضة معتدلة، حيث تورطت في العنف والإرهاب، مثلها مثل داعش والنصرة”.
ويضيف هشام النجار في دراسته أن التحالف بين أنقرة وواشنطن قد وجد “حسب قراءتنا لتحقيق المصالح الغربية على حساب مصالح الأمة، من خلال تطويع الإسلام السياسي وجماهيريته، لتدجين فكرة الوجود العربي القوي في العالم وصرفها في اتجاهات وملفات أخرى غير الإضرار بمصالح القوى المعادية المغروسة في قلب المنطقة”.
ما تسعى إليه الرياض في سوريا لا يتعلق بإسقاط شرعية الأسد أو تثبيتها وإنما مواجهة النفوذ الإيراني وتحجيمه
مفارقات سياسية
في المقابل، مارست الجماعة دورها في الخداع حينما قدمت نفسها كتنظيم سياسي ديمقراطي سلمي بمرجعية إسلامية، يؤمن بالتعددية وتناوب على السلطة مع أيّ من الأحزاب العلمانية أو الإسلامية الأخرى، بينما تتمثل حقيقة الجماعة في أنها راديكالية وشمولية.
المفارقة كما أكد الباحث أن الأطراف الثلاثة وهي تركيا وإيران والولايات المتحدة علمت بالخدعة، واستطاعت تجاوزها من أجل هدف أكبر لدى كل منها، وهو إقناع العالم بإمكانية وجود حلف سياسي إسلامي بديل للإرهاب والتطرف، بينما كان الهدف الأسمى هو “تغييب القومية العربية بشكل نهائي، وتقسيم المنطقة مجددا وفقا لمفهوم الشرق الأوسط الجديد”. وقد حمل الحلف المريب أهدافا ضمنية، أبرزها استيعاب الجماعات الراديكالية في المنطقة، وإعادة توجيه خطرها بعيدا عن الغرب.
هذا الهدف الضمني لم يكن خافيا على العرب، وقد تفطنت إليه القوى العربية الرئيسية وردت الفعل في سياق إعادة ترتيب البيت العربي الداخلي بشكل أقوى، ويظهر ذلك من خلال الجهود السعودية الأخيرة، كما ظهرت ردة الفعل تلك في “توتر العلاقات لدى الكثير من الدول الخليجية والولايات المتحدة بدليل حالة الفتور التي أستقبل بها الرئيس باراك أوباما خلال زيارته الأخيرة للرياض” حسب تصريح الباحث لـ”العرب”.
وكشف النجار في دراسته أن أحد تجليات التحالف يتمثل في الصراع بسوريا الذي أخذ بعدا إقليميا مرتبطا بتركيا وإيران من خلال وكلاء وأذرع عسكرية سنية وشيعية، تستفيد منه في الأساس قوة إقليمية غير عربية ثالثة هي إسرائيل.
وقال الباحث “إن الهزائم المتتالية للأذرع العسكرية الموالية للولايات المتحدة وتركيا في سوريا ساهمت في تغير موقف واشنطن من الأسد ونظامه، وكان التفاوض بشأن تفكيك ترسانة سوريا من السلاح الكيميائي إيذانا بمرحلة جديدة يتم فيها قبول الأسد في المشهد والتركيز على مواجهة التنظيمات المتطرفة المسلحة”.
ولفتت الدراسة إلى أن المملكة العربية السعودية، إلى جانب حلفائها من العرب، تركز سياستها الإقليمية على إطفاء حرائق ملفات المنطقة المشتعلة بالصراعات، وإصلاح ما أفسدته إيران والولايات المتحدة الأميركية معا في بنية الواقع والمجتمعات العربية.
وفرض السيناريو الأميركي الإيراني على الرياض تحركا في المنطقة والعمق السوري على حدّ سواء لحصار الممارسات الإيرانية التي تعتبرها السعودية تهديدا مباشرا لأمنها القومي وأمن العرب.
ورأى النجار أن ما تسعى إليه الرياض في سوريا لا يتعلق بإسقاط شرعية الأسد أو تثبيتها، وإنما مواجهة النفوذ الإيراني وتحجيمه، من هنا يحدث التقاطع بين مواقف روسيا ومصر والسعودية وإيران بعضها مع بعض.
وقد أرجعت الدراسة الخلافات في الرؤى بين الدول العربية إلى اختلاف الأولويات، ما بين طرف يفضل البدء بدحر الإرهاب وقطع إمداداته الفكرية والتنظيمية والمادية، وهو حريص على الإبقاء على مؤسسات الدولة السورية وجيشها. ويعطي طرف آخر الأولوية لتحجيم نفوذ إيران وحرمانها من حلفائها في المنطقة باعتبار ذلك الخطر الأكبر، وهو ما يتطلب الانخراط في الحلف الغربي التركي حتى لو أدّى ذلك إلى إسقاط نظام الأسد.
خدع ومناورات
لفت النجار إلى أن روسيا تجد في تحجيم نفوذ إيران مع تثبيت الأسد فرصة للتقارب مع السعودية، ومصر تطل على السعودية من تلك النافذة لكونها راغبة في تماسك سوريا حرصا على مستقبل الدولة ودعما لمسيرة الحرب على الإرهاب.
وأكد الباحث في السياق أن “ما يعوق التقارب العربي الإيراني هو وصول طهران إلى مستوى متوحش من الخداع والمناورة السياسية”، وتوظيف أذرعها العسكرية لبث الفتن في العمق العربي، فضلا عن توظيفها الفج للملف الطائفي والأقليات الشيعية العربية. وأوضح أن الرادع الوحيد لإيران هو حشد العرب وتحفيزهم لممارسة دور إقليمي منافس باستخدام كل أدوات النفوذ المتاحة، سواء كانت ثقافية أو عقائدية أو اقتصادية أو عسكرية من خلال تنسيق عربي مشترك يرتقي إلى مستوى التحديات ومستوى التنافسية القائمة. وأكد النجار في تصريح لـ”العرب” أن الخطر الإيراني المحدق بأمن المنطقة العربية “يشهد تعاظما في الفترة الأخيرة، إذ أصبح يحظى برافعة أميركية”.
هذا التنسيق يمكن أن يؤدّي حال حدوثه إلى مستوى “إمبراطوري عربي” يعرقل النفوذ والمطامح الإيرانية في المنطقة بحضور مواز، له هيبته وكلمته وتأثيره بحيث يحول دون أيّ محاولة لخداعه أو ابتزازه بطائفية أو مذهبية.
وخلص الباحث المصري إلى أن عجز الجانب الأميركي عن إدارة الأزمة السورية بمفرده منح روسيا فرصتها الذهبية للعودة كشريك أساسي في رسم السياسات الدولية وإعادة عالم القطبين.
محسن عوض الله
صحيفة العرب اللندنية