بعد حرب استمرت أكثر من سنة في بلاد فقيرة وبشر يحتاجون في معظمهم إلى الحد الأدنى من التنمية، التأم في الكويت الفريقان الخصمان. لم تكن الكويت تسعى في دعوتها للفريقين، كما قال النائب الأول لرئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد، أن تزيد من رأسمالها الدبلوماسي، فهي غنية عن ذلك، كان هدفها أكبر من ذلك بكثير، وهو حقن الدماء اليمنية، وتقليل زيادة النزف العبثي الذي جرى ويجري على أرض اليمن، وإنقاذها من تردي أوضاع الشعب اليمني في كل مُدنه وُقراه، ذلك هو الهدف ولا يزال. فريقا اليمن المتحاربان في ورطة حقيقية، فهم بعيدان عن بعضهما في الأولويات، ويعرفان في نفس الوقت أن البديل عن الوفاق هو بديل مُر عَلقم، أي ترك اليمن في حرب عبثية ومنسية تزيد التخلف تخلفًا والحرمان حرمانًا، أي القضاء على أية بارقة أمل على الأقل حتى خمسين عامًا قادمة، في أن يقوم اليمن من وهدته.
المطالب بين الاثنين هي (هرمان متعاكسان) أولويات الفريق الأول (الدولة) في هرم، و أولويات (الحوثي/ صالح) في هرم معاكس. مما ظهر حتى الآن من خلال اللقاءات المتعددة، أن الدولة اليمنية الشرعية ترى أن الأولويات هي تطبيق قرارات مجلس الأمن والقرارات اليمنية والخليجية ذات الصلة، وهي بشكل عام تسليم السلاح الثقيل الذي بحوزة (الحوثي/ صالح)، وخروج الميليشيات من المدن، وتسليم المباني والمؤسسات الرسمية للسلطة الشرعية، ومن ثم تشكيل حكومة (توافقية)، وبعدها بزمن يُتفق عليه، الذهاب إلى انتخابات عامة شفافة تظهر فيها قوة المكونات المختلفة في الساحة اليمنية على حقيقتها. الحوثي/ صالح، رغم اعترافهم علنًا بقرارات الأمم المتحدة وما تفرع عنها يمنيًا وخليجيًا، فإن أولوياتهم معاكسة، وهي (تشكيل حكومة ائتلافية) ومن ثم الذهاب إلى النقاط الأخرى بتسلسل معاكس، وهي تسليم السلاح والانسحاب من المدن، إلى آخر القائمة المعروفة.. تكمن الأزمة في حقيقة الأمر في أنها (أزمة ثقة) لا الحكومة الشرعية بقادرة على تلبية التسلسل في الخطوات التي يطالب بها (الحوثي/ صالح) لأن تشكيل حكومة ائتلافية أولاً يعني في كثير منه نقل السلاح من يد (الحوثي/ صالح) إلى يد أخرى هي أيضًا يد (الحوثي/ صالح)، ومن ثم خسارة المبادرة في الإصلاح الشامل، لأنه سيكون تحت (عين ورغبة) تحالف (الحوثي/ صالح). كما أن فريق (الحوثي/ صالح) لا يثق، بعد أن يسلموا السلاح ويخرجوا من المدن، أن تشكل حكومة لهم فيها قول وازن !! أزمة الثقة هذا تحتاج إلى ما يعرف بـ(الوسيط الموثوق) بين الطرفين أي Honest broker ولكن هذا الوسيط الموثوق حتى الآن غير موجود أو غير ظاهر. خليجيًا لا يهم كثيرًا من يحكم اليمن، المهم أن يكون اليمن (مستقلاً وغير تابع لأي قوة إقليمية) ما دام اليمنيون متوافقين ومستقلين. إلا أن الحوثي ما زال يحلم بإقامة نوع ما من حكم الإمامة، ربما على شاكلة (ولاية الفقيه) أو نسخة معدلة أخرى منه، أو على الأقل الحصول على (الثلث المعطل) كما في حكومة حزب الله في لبنان، وحتى ذلك الوقت الذي تقتنع فيه القيادة الحوثية أن ما تحلم به أولاً (غير تاريخي) أي خارج عن سياق التاريخ، وثانيًا غير مقبول من النخب اليمنية المختلفة والكثيرة، لأنها لا ترغب في العودة إلى العيش تحت (نظام إمامة معدل أو منقح)، أو تحت شكل من حكم (ولاية الفقيه)، وحتى تصل مجموعة الحوثي إلى تلك القناعة سوف يبقى الأمر (محلك راوح).
ومن جهة أخرى، فإن علي صالح يرغب في تحقيق (ثورة مضادة) لها مجموعة من الأولويات، وهي على الترتيب الحفاظ على ثروته الطائلة وتخليصها من المتابعة والحجر الدولي، وأن تكون له سلطة ما في اليمن القادم، ويا حبذا أن يكون ابنه أحمد في القيادة مع رجال الأمس الموثوقين، وأيضًا أن يبقى في اليمن كمرجعية تاريخية لا يستغنى عنها. تلك (قائمة) ينبغيات علي صالح، ويمكن التنازل عن بعضها بدءًا من آخر المطالب، ولكن لا يمكن التنازل عن رأس المطالب الأولى والثانية على الأقل، وحتى يصل علي صالح ومؤيدوه إلى أن جُل كل تلك المطالب لا يمكن تحقيقها، وأن (عصره) قد انتهى بخروج اليمنيين منذ سنوات إلى الشوارع مطالبين برحيله.. حتى يصل إلى تلك القناعة سوف يبقى الأمر (محلك راوح).
حصول المفاوضات على شاكلتها الحالية هي في نظر (الحوثي/ صالح) أنهم قد حققوا الاعتراف بوجودهم والاعتراف بمطالبهم، أي أنه نصر تكتيكي في حد ذاته، يحتاج إلى نصر استراتيجي، وهو فهم يحتاج إلى تقويم واضح، فوجودهم ليس لأن الآخرين قد قبلوا بمطالبهم.. وجودهم على الطاولة هو لغرض آخر، والغرض أن يُنقذ الشعب اليمني من حرب طويلة وضروس وعبثية في الوقت نفسه، أو أن يُلحق كتابع لدولة إقليمية، أي أن وجودهم من أجل عيون شباب وشابات اليمن الذي يتطلعون بحسرة إلى الفرص القليلة التي تمر بهم دون أن يستفيدوا منها. عدم فهم واضح لسبب وجودهم، هو الذي يجعل من المفاوضات الصعبة أصعب. المجتمع الدولي ليس راغبًا في مكان ما وغير قادر على أن يتدخل في (المستنقع اليمني). هو لم يتدخل في المستنقع السوري أو الليبي قبل ذلك، على أهمية المكان الاستراتيجي لسوريا وأهمية المكان الاقتصادي لليبيا، فكيف يتدخل في اليمن المنسي! أما التدخل الخليجي فهو يرغب في أن يجنب أولاً شعب اليمن ويلات الحرب والدمار، كما يرغب أن يجنبه الوقوع في براثن قوى إقليمية لا تريد إلا أن تستخدمه كمخلب قط إن أمكن، أو مكان للمناورة والابتزاز واستمرار التوتر، وآخر ما تفكر فيه تلك القوة (إيران) هي أن تجعل اليمن آمنا مستقرًا، يلتحق أبناؤه بالمدارس بدلاً من انخراط الأطفال في الحرب والموت الرخيص!
إذن اليمن اليوم ليس أمامه سوى طريقين؛ الأول الذهاب إلى حرب منسية ودولة فاشلة تنتعش فيها الميليشيات ويتخم تجار السلاح من كل نوع بالمال الحرام، وتأتي له قطعان الإرهاب من كل صوب، أو إقامة دولة مدنية حديثة وطنية. التاريخ في تقديري لا يعود إلى الوراء، علينا التفكير في ضم الهرمين أو المثلثين المتعاكسين إلى بعضهما من أجل تكوين مستطيل متوازن، به من الرؤية والحكمة ما يجعل الجميع في نهاية المطاف يحتكم إلى رأي الناس من خلال صناديق الانتخاب، التي يجب أن تكون هي الفيصل وتجرى حرة وغير مقيدة وشفافة، وليس لليمنيين إلا إخوتهم في الخليج كي يعتمدوا عليهم في الوصول إلى هناك، قبل أن ينفرط العقد، ولا يجد اليمنيون من يكلمهم، فينكبون على قتل بعضهم حتى آخر طلقة، وآخر رجل على أنقاض مدن وقرى اليمن الذي كان سعيدًا!
آخر الكلام:
الوضع اليمني هو جزء من موضوع أكبر وأخطر عنوانه «هجوم إيراني على العرب باستخدام بعض العرب»، لن تحل المشكلة الأصغر إلا بمواجهة المشكلة الأكبر.
*نقلا عن “الشرق الأوسط”