أعلنت النتائج الرسمية النهائية لانتخابات رئاسة بلدية العاصمة البريطانية، فوز النائب “العُمّالي” صادق خان في رئاسة بلدية لندن، ليصبح بذلك المسلم الأول الذي يتبوأ منصب رئيس بلدية عاصمة غربية كبرى، ويتسلم مفاتيح لندن. وأظهرت النتائج التي نُشرت اليوم (السبت) ان خان (45 عاماً)، وهو ابن مهاجر باكستاني كان يعمل سائق حافلة، حصل على مليون و310 آلاف و143 صوتاً مقابل 994 ألفاً و614 صوتاً حصل عليها منافسه الأبرز المحافظ زاك غولدسميث (41 عاماً)، ابن البليونير جيمي غولدسميث. وأعلن “حزب العمال” في وقت سابق أمس، فوز مرشحه برئاسة بلدية العاصمة.
وفي الخطاب الأول له بعد صدور النتائج الرسمية للانتخابات،وعد رئيس بلدية لندن الجديد بأن يكون رئيس بلدية لجميع اللندنيين، وقال صادق خان “هذه الانتخابات لم تجر بدون سجال، وانا فخور بأن أرى أن لندن اختارت اليوم الأمل بدلا من الخوف والوحدة بدلا من الانقسام”. وأضاف “آمل أن لا نوضع مجددا أمام خيار صعب إلى هذه الدرجة. الخوف لا يجلب لنا أمنا أكثر، إنه يجعلنا أضعف، وسياسة الخوف ليست موضع ترحيب في مدينتنا”.ويقول محللون إن ماضيه المتواضع لعب دورا في انتخابه في عاصمة تميل إلى اليسار وتفاخر بتعددها الثقافي.
وقال ديفد لامي -وهو عضو بحزب العمال من أصول سوداء- إن فوز صادق بهذا المنصب الرفيع، مؤشر على عظمة هذا البلد الذي كافأ ابن المهاجر الذي هو أيضا مسلم على كده ومثابرته.وتعد لندن التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 8.6 ملايين نسمة -بينهم نحو مليون مسلم- من بين أكثر المدن تنوعا في العالم, ونادرا ما تشكل الهوية موضوعا في الحملات الانتخابية السياسية.
انتخب خان لعضوية مجلس العموم عام 2005، وعينه رئيس الوزراء السابق غوردن براون في يونيو/حزيران 2007 في منصب مستشار الحكومة لشؤون البرلمان، وكان وكيلا لوزراة شؤون الجاليات والحكومة المحلية في أكتوبر/تشرين الأول 2008، ثم وزيرا للدولة لشؤون النقل في يونيو/حزيران 2009.
شغل صادق خان منصب وزير النقل في حكومة الظل التي كونها حزب العمال في مايو/أيار 2010، وأدار حملة زعيم حزب العمال إد ميليباند، أثناء ترشحه للانتخابات الداخلية لزعامة الحزب في سبتمبر/أيلول 2010. وصفته جريدة إندبندنت بأنه “لا يخسر” وذلك بالنظر إلى مساره الناجح في الانتخابات التي خاضها خلال مسيرته السياسية.
لا يقرأ هذا الانتصار الذي يعتبر سابقة تاريخية في تاريخ المملكة المتحدة بناء على استعدادات الجيدة لخوض حزب العمال غمار للانتخابات البلدية، وإنما تأتي قراءته وفق السياق التاريخي للمملكة المتحدة إذ تتميز المملكة التي تمتلك تاريخا عريقا، بتعدد الثقافات والقوميات والاثنيات والملل، وهذا نتاج التمازج الثقافي الروماني والاغريقي والجرماني، وخلال قرون عديدة استقرت فيها اقوام متنوعة، اما من خلال عمليات الغزو والاحتلال او هربا من الاضطهاد السياسي او الديني، في نهاية القرن العاشر الميلادي تصاعدت في بريطانيا حركة التنوير والعقلانية وانتزاع القداسة من الملك ورجال الدين، واتضحت الحدود الفاصلة بين دور الملك ودور الكنيسة، انتشرت على اثر تلك الحركة المفاهيم الانسانية والحضارية المدعومة بقوانين واسس قيام الدولة الحديثة، فقد لعب الفلاسفة والمفكرون أمثال “جونستيورات ميل” و”جون لوك” دورا في ترسيخ النظام الليبرالي،في القرن التاسع عشر غدت بريطانيا الدولة التجارية والصناعية الاولى في العالم الحديث، ادت سياسة الدولة لا سيما في توسع الحريات العامة واحترام المواثيق الدولية وقيم حقوق الانسان، الى ارتفاع عدد طالبي اللجوء في بريطانيا، واخذت الجاليات المتنوعة تندمج تدريجيا في المجتمع البريطاني بدرجات متباينة، واصبح لها دور متزايد في التفاعل الحضاري.
والذي شجع على ترسيخ فكرة الاندماج لدى الجاليات غير البريطانية التي قدمت إلى المملكة المتحدة من مختلف القارات، هي إيمان المجتمع البريطاني بالقيم الإنسانية ولعل أهم تلك القيم قيمتا التسامح والتسامح الديني إذ تعتبرا هاتين القيمتين القوة الاجتماعية الرئيسة التي يتسم بها المجتمع البريطاني، على أساس أن الحياة المتميزة للجميع يمكن حمايتها في إطار السماح بحرية التعبير لكل الآراء، وفتح المجال أمام الجميع في الوصول إلى السلطة، ففي الحالة البريطانية تتناغم القيم تتمازج مع الواقعية الاجتماعية والسياسية، وما أدل على هذا التناغم فوز صادق خان بمنصب رئيس بلدية لندن، إذ يرتبط هذا الفوز بقيمة التسامح الديني التي تؤكد على حرية العقيدة الدينية للأفراد على اعتبار أن معتقدات الدينية تعتبر من صميم الحريات الشخصية.
تقدم التجربة البريطانية في فوز صادق خان بمنصب رئيس بلدية لندن درساً عملياً في إعلاء القيم الإنسانية المرتكزة على مبدأ التسامح والتعددية الثقافية باعتبارها أحد أهم مقومات السلم الاجتماعي، فقد شكلت نتائج انتخابات بلدية لندن التفاعل الحقيقي بين تلك القيم. هذا التفاعل ساهم بشكل جدي بأن يصبح صادق خان البريطاني من أصول باكستانية من الناحية القومية والمسلم من الناحية الدينية رئيساً لبلدية دولة أوروبية تعتنق المذهب الإنجليكاني من الدين المسيحي كمذهب رسمي للدولة، فهذا يعني إنجازاً ملحوظاً على المستوى الإنساني، الذي يعد بالنسبة للبريطانيين مصدر قوة وإثراء للهوية البريطانية الجامعة وعليه نؤسس لنقول أي مستقبل تتحفز بريطانيا لاتباعه في القرن الحادي والعشرين.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية