مرّة أخرى وأخرى، تأتي بغداد في آخر القائمة تماماً بين مدن العالم الصالحة للحياة البشرية، على وفق تصنيف ميرسر (MERCER) الأميركي الذي يتقصّى الأوضاع في 450 مدينة.
هذا التصنيف علمي، أي موضوعي، إلى حد كبير، يعتمد جملة من العوامل كالبيئة السياسية (الاستقرار السياسي والتزام القانون)، والبيئة الاقتصادية والمالية (النظام المالي ونظام صرف العملات)، والبيئة الاجتماعية والثقافية وتوفّر وسائل الإعلام والرقابة عليها والقيود على الحرية الشخصية، إضافة الى أنه يأخذ في الاعتبار الجوانب الطبية والصحية من ناحية توفّر الخدمات الطبية وانتشار الأمراض المعدية وأنظمة الصرف الصحي والتخلص من النفايات وتلوّث الهواء. ويكترث التصنيف أيضاً بمستوى التعليم والخدمات العامة كالكهرباء ومياه الشرب والنقل العام وزحام حركة المرور.
بالطبع، نحن قبل “ميرسر” أو أيّ مؤسسة أخرى نقول إنَّ الخدمات في عاصمتنا صفر على الشمال، وظروف الحياة فيها سيئة للغاية. بغداد الآن ليست فقط المدينة التي لا يتمتع سكانها بالمستوى الأوطأ للخدمات العامة ولا الحد الأدنى من الحياة الآدمية، بل هي مدينة الموت والخراب والبؤس والشقاء. هذا بفضل الإسلام السياسي المنشغل الليل والنهار بالمحاصصة، وبالمنافسة على السلطة والنفوذ والمال، والمنصرف إلى نهب ثروة الشعب العامة والخاصة بالفساد الإداري والمالي.
نعم هذا نعرفه جميعاً، ولهذا تتواصل دون كلل الاحتجاجات الشعبية الصاخبة والدعوات الملحّة للإصلاح والتغيير. لكننا مع هذا وبرغمه، نرى بغداد كما لا يراها اختصاصيو “ميرسر” الاقتصاديون والاجتماعيون والسياسيون… بغداد، بالنسبة لنا، المدينة الأحبّ التي نريد لها أن تعود كما كانت، وأفضل مما كانت من قبل، أحد أجمل مدن العالم.
ليست مستحيلة عودة بغداد كما كانت.. فقط إذا ما انزاح الإسلام السياسي سترجع لنا بغدادنا التي تغنّى بها أعاظم الشعراء.
بغدادنا هي بغداد المتنبي القائل:
بغدادُ أنتِ شفاءُ العين من رمدٍ بغدادُ أنتِ لقاءُ الله بالأممِ
بغدادُ أنتِ هوى العصفور مهجته كالريح تعزفُ ألواناً من الحلمِ
وهي بغداد ابن الرومي:
بلدٌ صحبت به الشبيبة والصبا ولبس ثوبَ العيش وهو جديدُ
فإذا تمثّل في الضمير رأيته وعليه أغصانُ الشباب تميدُ
وبغداد القاضي الجرجاني:
إذا لاح لي من نحو بغداد بارقٌ تجافت جفوني واستطير هجوعها
وبغداد إسحق الموصلي:
إذا ذكرتْ بغداد نفسي تقطّعت من الشوق أو كادت تموت لها وجدا
وهي بغداد الجواهريّ:
حيّيتُ سفحكِ عن بُعــــدٍ فحيّيني يا دجلةَ الخيرِ يا أُمَّ البســــــاتينِ
يا أُم بغداد من ظرفٍ ومن غـــنَجٍ مشى التبغددُ حتى في الدهــــــاقين
يا أُمَّ تلك التي من (ألـــفِ ليلتِها) للآنَ يعبِق عِطرٌ في التـــــــلاحين
وبغداد محمد رضا الشبيبي:
وفي الأرض ببغداد هواءٌ هو المنى وعيشٌ هو السلوى وماءٌ هو الخمر
وبغداد نزار قباني:
عيناكِ، يا بغدادُ، منذُ طفولَتي شَمسانِ نائمَتانِ في أهدابي
بغدادُ.. يا هزجَ الخلاخلِ والحلى يا مخزنَ الأضواءِ والأطيابِ
وهي بغداد علي الجارم:
يا بسمةً لمّا تزل زهراءَ في ثغر الخلود
يا موطنَ الحب المقيم ومضربَ المثل الشرود
وبغداد الأخوين الرحباني وفيروز:
بغدادُ والشعراءُ والصورُ ذهب الزمانُ وضوعُه العطرُ
يا ألفَ ليلة يا مكمّلةَ الأعراس يغسلُ وجهَكِ القمرُ
وهي بغداد أحمد الوائلي:
بغداد ساءَ بكِ الهـــــــوى أم طابا سيظلُّ وجهُك رائعاً جذّابا
قسماتُ شيخٍ بالجلال متـــــــــوجٌ وسماتُ غانية تفيضُ شبابا
وحضارةٌ تُعطي المؤملَ ما اشتهى فلكل ما طلبَ الخيالُ أصابا
فهناك صبٌّ يستزيد من الهـــــوى وهناك حبرٌ يستزيد ثوابــــا
وهنا نؤاسي تيمّـــــــــــــــم حانةً وهناك صوفي أتى محرابا
وبغداد مصطفى جمال الدين:
بغداد.. ما اشتبكتْ عليك الأعصرُ إلّا ذوتْ.. ووريقُ عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحُك مشمسٌ ودجت عليكِ ووجهُ ليلِك مقمرُ
وقستْ عليكِ الحادثاتُ فراعها أنّ احتمالَكِ من أذاها أكبرُ
نعم.. هذي هي بغدادنا التي سترجع لنا بعدما تلفظ الذين جعلوها الأسوأ في تصنيف”ميرسر”.
عدنان حسين
موقع المدى