بعد الحرب العالمية الثانية، دربت أميركا الطليان والألمان المهزومين على اللعبة الديمقراطية. فأرادوا أن يطعِّموها بنكهة أوروبية. فأعلنوا إيمانهم ورغبتهم في الذهاب إلى الجنة. وشكلوا أحزابا يمينية مسيحية وديمقراطية.
أحزاب «السمك. لبن. تمر هندي» هذه حكمت أوروبا خمسين سنة. الحزب المسيحي الديمقراطي ما زال يحكم ألمانيا بهمّة المستشارة «القديسة» أنغيلا ميركل، التي تربت في قفص شيوعي أقامه ستالين في ألمانيا الشرقية.
أما الطليان، فابتذلوا كالعرب اللعبة والديمقراطية فخسروا جنة الحكم. وخرجوا منها ليتركوها لعازف غيتار وصاحب فرقة موسيقية، اسمه سلفيو برلسكوني. سيطر برلسكوني على الإعلام. فعلق مع قضاة مشاغبين يتهمهم بأنهم ولدوا وقلوبهم على اليسار. وليس على اليمين.
خرج الشيخ راشد الغنوشي من فردوس زين العابدين، ليعيش في أوروبا ما يكفي من سنين، ليشاهد فصول اللعبة الديمقراطية. فعاد إلى تونس ليزاوج بين الدين والتعددية.
والشيخ الغنوشي من أذكى زعماء الإسلام السياسي في العالم العربي. فقد تمكن من حكم «تونس الانتفاضة»، على رأس ائتلاف حكومي مع أحزاب علمانية. فكان أكثر ليبرالية من الشيخ محمد مرسي، الذي حكم مصر بفتوى من مكتب الإرشاد (الإخواني) فانتهى.
لكن حركة «النهضة» الغنوشية لم تستطع البقاء طويلا في الحكم. فقد عاد من بقي حيا من زعماء البورقيبية من صحراء السياسة ملبين «نداء تونس». وأثبت البورقيبي المخضرم الباجي قايد السبسي (88 سنة) لندِّه الغنوشي (71 سنة) أنه لا يقل ذكاء وحرفة سياسية عنه وقدرة على العيش على القمة في زمهرير المرحلة الأخيرة من العمر.
كان التعايش السلمي بين الرجلين في الحكومة المشتركة وليد الحاجة الوطنية الملحة، التي فرضتها اللعبة الديمقراطية على مسرح لا يؤمن كل اللاعبين على سطحه بسلمية العراك السياسي. ومع انقسام حزب «نداء تونس»، باتت حركة «النهضة» الجناح الأقوى في الحكومة والبرلمان.
أعترف بأني وجدت صعوبة بالغة في فهم المفردات الغنوشية المستعملة في لغة التغيير، للخلع بين الحركي والحزبي. وبين الدعوي والسياسي. وبين الديني والعلماني. لا شك أن فكر الغنوشي قد تجاوز بمراحل أفكار وأساليب عمل الأحزاب الدينية التي لا تزاول العنف.
الإسلام التونسي تجاوز أيضا إسلام «المخزن» المغربي. هل هو يقترب من الإسلام التركي الذي يعمل من خارج مساجد ما زالت تحتكره وتنطلق منه الحركات «الإخوانية» في سوريا، والأردن، وفلسطين المحتلة، وفلسطين الضفة وغزة؟ بل ما يطرحه الغنوشي اليوم يفرض على «إخوان» مصر إنهاء صراعهم الدعوي مع نظام السيسي. فلم تعد هناك حاجة للغيرة على الدعوة «الإخوانية»، إذا كان الحزب الديني قادرا على مغادرة المسجد إلى مسرح السياسة.
لا شك أن إسلام إردوغان أكثر تعقيدا وفهما لحاجات العصر من «الإخوان» الذين يؤويهم لديه. وهو لا شك ينظر بتعاطف – ربما من دون أن يقول – إلى ما يفعله الغنوشي بحركته في هذه الأيام. فقد آن الأوان للإسلام العربي أن يجتاز صحراء التقشف الدعوي، ليستخدم مفردات العصر، كالديمقراطية، والتعددية، والحزب، والبرلمان، والفصل بين السلطات.
كان لا بد من أن أقرأ ما قاله الغنوشي لـ«لوموند» الفرنسية يوم الجمعة الماضي، فقد كان أكثر مباشرة في الشرح والتفسير أمام الفكر الغربي. فهو يريد حزبا عصريا يعالج «المشاكل اليومية والعائلية، بلا استغلال للعقيدة من أجل غايات سياسية». وكي لا يكون الدين رهينة للسياسة. ويستغله الدينيون المتسيسون.
ويمضي الغنوشي قائلا إنه لم تعد هناك ذريعة للإسلام السياسي في تونس الذي شوهته وابتذلته «القاعدة» و«داعش». «إننا نخرج من الإسلام السياسي، لندخل في الديمقراطية الإسلامية. فلن ندعي منذ الآن فصاعدا احتكار الإسلام السياسي».
لكن عندما سألته الصحيفة عن اقتسام الميراث بين الرجل والمرأة في الإسلام، تفادى الغنوشي حرج الإجابة، قائلا إن هذا الموضوع لم يعد أوليا. فكل الأحزاب التونسية السياسية والدينية ملتزمة بما أوجبته الشريعة المقدسة على المسلمين. وعندما سألته عن مشاركته حزب «نداء تونس» في الحكومة والسلطة، قال بدهاء إنه مع التعايش مع الآخر.
لدي تفسير للانقلاب الذي يقوده الغنوشي على نفسه. وعلى حركته. وعلى الإسلام السياسي، ويقتضي مني المغامرة بتقديمه، حتى لو اضطررت إلى إزعاج وإحراج الغنوشي، الذي بات أكثر تقديرا لفكره وتحركه، وإن كنت مازلت غير مؤيد له، تماما، كما كنت صديقا ومعارضا لأستاذي عصام العطار المراقب العام الأسبق لـ«الإخوان» في سوريا.
مع توجه الرئيس السبسي إلى العروبة الخليجية، بعد إخفاق رهان «البورقيبية» على أوروبا في تبني الاستثمار في تونس. فكلي أمل أن تستثمر قطر في تونس، بعد زيارة السبسي الدوحة. وسبق لي أن دعوت تونس، على صفحات «الشرق الأوسط»، لتجربة حظها الاستثماري والتنموي مع العرب. خوفا عليها من الغرق في السباحة المتوسطية.
في التخلي عن التوجه الدعوي الديني، أظن أن الغنوشي يغامر في تقديم أول حزب للديمقراطية الإسلامية المعاصرة في العالم العربي. حزب قوي ومنظم، قادر على أن يخلف «البورقيبية المتوسطية»، بتوجهه العربي وهويته الإسلامية، بحيث لا يثير اعتراض أحزاب اليسار القومي والوسطية الليبرالية التي ساهمت سابقا في الضغط عليه للتنحي عن الحكم.
هل يستطيع حزب النهضة تأمين أغلبية انتخابية تؤمن له الانفراد بالسلطة؟ وهل يستطيع الغنوشي أن يغدو «إردوغان» تونسيا؟ الغنوشي في مرحلة عمرية متساوية البعد الزمني عن كل من السبسي وإردوغان. لكن لم يظهر طموحا لتولي منصب سياسي. كان كل همه احتواء «النهضة» بلا منازع. ويبدو أنه وفر الأغلبية الحزبية المؤيدة له.
مع تقدم الصحة الوقائية، تؤهل الصحة الجسدية والذهنية الغنوشي لتولي الحكم في تونس. أو على الأقل، التحكم عبر «الريموت كونترول» في النخبة الحزبية التي ستتولى السلطة والحكم تحت إشرافه وتوجيهه.
ليس معروفا، بعد، ما إذا كان حزب سياسي ذو غلالة دينية شفافة، ويقوده «ديمقراطيون إسلاميون» كما يسميهم الغنوشي، قادرا على تأمين قاعدة انتخابية عريضة له. وليس معروفا، بعد، ما إذا كانت الأحزاب والتيارات الدينية المعتدلة والعنفية في العالمين العربي والإسلامي ستترك له حرية الحركة، أم ستكفره، وتزندقه، وتخرجه من الجنة؟
قد ينفي الغنوشي التفسير الذي أقدمه لانقلابه الفكري والتنظيمي. فينفي طموحه السلطوي، وغرضه السياسي، وقد يكون تفسيري لانقلابه ليس صحيحا. لكن لا ننسى أن السياسة كانت دائما ستارا، سواء للفكر، أو للسياسات التي يمارسها الساسة. وأتذكر هنا الفيلسوف الفرنسي فوكو، الذي قال إن السلطة هي الحقيقة الثابتة دائما وأبدا.
غسان الإمام
صحيفة الشرق الأوسط