بينما كنا نحتسي القهوة في مقهى في أحد الفنادق هنا في تونس الشهر الماضي، قال سعيد فرجاني، أحد قادة الجناح التقدمي في النهضة؛ الحزب الإسلامي الرئيسي في تونس: “الإسلام السياسي مات”. وكان السيد فرجاني، المتشدد السابق الذي كان قد خطط لانقلاب ضد نظام الرئيس زين العابدين بن علي، متفائلاً بينما يصف التحوُّل التاريخي الذي يوشك حزبه على إنجازه.
وكان جناحه توحد مع قيادة الحزب من أجل تمرير مجموعة كبيرة من القرارات التي لن تكتفي بتغيير العلامة التجارية لحزب النهضة فحسب، وإنما ستجعله يفترق عن تقليد الإسلام السياسي الذي بدأ مع جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تأسست في مصر في أواخر عشرينيات القرن الماضي. ووفق السيد فرجاني، فقد كان الإسلام السياسي مفيداً في ظل دكتاتورية زين الدين بن علي، عندما “كانت هويتنا وإحساسنا بالغاية” تحت تهديد دولة استبدادية. والآن وقد انخرطت حركة النهضة في ممارسة سياسة حزب مشروع مفتوح بموجب دستور جديد ساعدت في صياغته، وتنافس من أجل القيادة الوطنية، فإن الماركة الإسلامية أصبحت عبئاً عليها أكثر منها ميزة.
لكن المؤسس المشارك وزعيم الحزب، رشيد غنوشي، كان أكثر تحفظاً عندما أجريت مقابلة معه في بيته. وتحرك بغير ارتياح عندما سألته عما إذا كان الإسلام السياسي قد مات.
وقد علق بالقول: “لا أميل إلى وصف الأمر بهذه الطريقة”. لكنه رفض العلامة فعلاً، وقال: “إننا لا نرى أي سبب لتمييز أنفسنا عن المسلمين الآخرين”. وتجدر الإشارة إلى أن السيدين الغنوشي وفرجاني يفضلان استخدام مصطلح “الديمقراطيون المسلمون” -الذي يقيم عن قصد تناظُراً مع الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا الغربية- لوصف هويتهم الجديدة لما بعد الإسلاموية.
وبشكل خاص، ربما يجعل التزام السيد فرجاني الصريح بمبادئ الحرية والمساواة منه الشخصية السياسية الطليعية لما بعد الإسلام السياسي في العالم العربي السني. وبينما يصف نفسه بأنه محافظ ويمجد “قيم العائلة”، يقول السيد فرجاني إنه يعتبر مسائل الجنسانية والتوجه الجنسي وهوية الجندر -بما في ذلك المتحولون جنسياً التي تشغل بال الولايات المتحدة- شأناً خاصاً وشخصياً، وليست مسائل يترتب على الدولة أو السلطات القانونية فرضها.
كما يتمسك السيد فرجاني أيضاً بحيادية الدولة فيما يتعلق بالمسائل الدينية. وهو يساوي بين الحرية الدينية وحرية الضمير، ويعتقد بأنه يجب أن يتمتع اللاأدريون والملحدون بالحقوق المدنية نفسها مثل الموحدين.
مرة أخرى، وفي المقابلة، كان السيد الغنوشي أكثر حذراً على نحو متوقع. فقد دافع عن المساواة بين المسلمين من المذاهب كافة، موسعاً ذلك بامتعاض بعض الشيء ليشمل المسيحيين واليهود. كما أشار من الناحية القانونية إلى “الحماية الدستورية” للملحدين واللاأدريين.
تجدر الإشارة إلى أنه في مؤتمر حزب النهضة في الشهر الماضي، أقر المندوبون الـ1200 في المؤتمر معظم التغييرات الكاسحة لبرنامج الحزب، والتي كان فصيل فرجاني وقيادة الغنوشي قد دعيا إليها. وكان أهم إجراء هو قيام الحزب بإسقاط التزامه بـ”الدعوة”، التبشير بالقيم الإسلامية. ومن شأن هذا الإجراء أن يجعل الحزب تنظيماً سياسياً صرفاً من دون مهمة دينية صريحة -في كسر راديكالي لتقليد جماعة الإخوان المسلمين التي انبثق عنها حزب النهضة.
في تونس وعبر العالم العربي، ما يزال الليبراليون والعلمانيون ومنتقدو الإسلام السياسي متحفظين. وفي أكثر من مناسبة هنا في العاصمة، شاهدت فكرة الموقف الجديد لحزب النهضة وهي تثير جلجلة من الضحكات التي أطلقها معارضون سياسيون مرموقون. فهم يدعمون الحوار والتعاون، وحتى الشراكة الائتلافية مع النهضة، لكنهم وجدوا أن من المستحيل أخذ هذا الإعلان الـ”ما بعد إسلاموي” على محمل الجد.
صحيح أن العديد من قادة الحركة لم يتصالحوا تماماً مع فكرة التحرك وراء رؤية الإخوان المسلمين. وبعد ثورة العام 2011 التي ساعدت في ارتقاء النهضة إلى سدة الحكم، بدا الحزب وكأنه مصمم على التمسك بالسلطة مهما بلغت التكاليف -إلى أن حلت لحظة حاسمة في العام 2013 عندما تم خلع الرئيس الإخواني محمد مرسي عن الرئاسة في مصر بانتفاضة مدعومة عسكرياً. وبعد رؤية سقوط نظيرتها المصرية، كافحت حركة النهضة لحماية نفسها من خلال التنحي والموافقة على سلسلة من التسويات.
تلك الخبرة، مصحوبة بواقعية جديدة حول افتقار معظم التونسيين للتعاطف مع حكومة إسلامية صريحة، هما اللتان تسببتا بصعود هذا المشروع لتغيير الماركة. وما من شك في أن ذلك كله يجيء جزءا من خطة النهضة طويلة الأمد للعودة إلى السلطة.
لكن مدى إخلاص الحزب يبدو بالكاد ذا صلة. فلم تعد النهضة حركة سرية أو مجتمعاً سرياً. إنها حزب سياسي علني ينافس على السلطة في النظام الدستوري والديمقراطي التونسي المتبرعم.
كانت هذه دائماً هي الكيفية التي يرجح أن يتحول بها الإسلام السياسي التطور في الممارسة. ولن يكون هناك تجلٍ يتحول فيه الإسلاميون السلطويون من المدرسة القديمة في الحال وفي لحظة تبصر عالٍ إلى محافظين ديمقراطيين اشتراكيين. إنه بالضرورة انتقال مضطرب سياقي مدفوع بشكل رئيسي بدافع البحث عن السلطة في عالم عربي حيث معظم الناس مسلمون ورعون، لكنهم يظلون متشككين في محركات دوافع السياسي.
ما يجب على منتقدي النهضة وداعميه على حد سواء فهمه هو أن مقاصد قيادته لا تهم -ففي بلد ديمقراطي، يكون ما يهم هو الأقوال والأفعال المعلنة، وليس الأفكار السرية. وحتى لو كان تغيير الشاخصة “مسلمون ديمقراطيون” هو مجرد خدعة، فإن على الحزب أن يعبر من خلالها لنيل السلطة في مجتمع تونسي لن يقبل الإسلام السياسي قديم الطراز. وسيكون المسلمون الديمقراطيون المسلمون هو ما يجب أن يكون حزب النهضة عليه.
سوف يرتبط مستقبل الإسلام السياسي في البلدان المسلمة في كل مكان وبشكل عميق بالتقدم الذي يحققه حزب النهضة في نسخته الجديدة. كما أن مصيره سيكون بذلك مرتبطاً بنجاة وديمومة تونس الجديدة.
فيما يجيء في جزء منه مناقضاً لميوله الخاصة، أصبح حزب النهضة أول حزب سياسي لما بعد الإسلاموية في العالم العربي. ولا شك أن الرهانات، بالنسبة للمنطقة وللعالم، على تجربة تونس الهشة قد ازدادت تواً بما لا يقاس.
حسين إيبش
صحيفة الغد الأردنية