في جملة الاتهامات التي وجهها زعيم الحركة الإسلامية التركية، نجم الدين أربكان، لرفاقه المتمردين عليه في «حزب الرفاه»، وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان، أنهم انتهازيون ومتعاونون مع السياسة الأمريكية. وقد قام دليلٌ من تجربة «حزب العدالة والتنمية» في حكم تركيا أن اتهامات أربكان لم تكن مضاربة سياسية منه، ولا فقط محاولة لتشويه سمعة من خذلوه، وإنما هي تعيينٌ دقيق لنوعية من النخبة السياسية يعرفها (أربكان)، ويعرف طموحاتها، مثلما يعرف كيف فتحت أمريكا خطوط الصلة بها، من وراء ظهره، كي تجندها في مشروع سياسي إقليمي تمْسِك هي – لا تركيا – بخيوطه.
ليس يعْنينا أن نقف، هنا، على وجوه من العلاقة التي نسجت بين «حزب العدالة والتنمية» والمشروع الأمريكي في «الشرق الأوسط»- فقد تناولنا ذلك سابقاً في مقالة نشرت في هذا المنبر قبل أربعة أعوام- إنما يعنينا أن نتأمل في ظاهرة جديرة بالتفكير، ولها صلة باتهامات أربكان، هي تسويغ رجب طيب أردوغان وحزبه لكل الأدوات والوسائل من أجل حيازة السلطة، واحتكارها، والبقاء فيها، حتى وإنْ كانت الأدوات والوسائل تلك عارية عن أي شرعية دينية؛ وحتى لو كان ثمنها أرواح آلاف المسلمين في تركيا وفي جوارها الإسلامي، والمستقبل السياسي ل «رفاق» في الحزب والنظام،ولعل الظاهرة هذه تطْلِعنا على نوع النخب السياسية (الجديدة) التي وجدت ضالتها في الدين فحولت الإسلام إلى رأسمال سياسي للاستثمار في المنازعة على السلطة والثورة. ولفترة نجح أردوغان في الإيحاء بأن الإسلام التركي-إسلام «حزب العدالة والتنمية»- متصالح مع العلمانية، ويخطو على درب الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا. وهو لم ينْس، في الأثناء، أن يلعب الورقة الكردية، فيبدو وكأنه أتى-باسم الإسلام- ليحل معضلة علاقة «الأخوة الإسلامية» بين الكرد والترك، من طريق إجابة بعض مطالبهم، وتشجيعهم على المشاركة في الحياة السياسية والنيابية، ووقف الحرب الدائرة بين النظام و«حزب العمال الكردستاني».
ولعب الورقة الفلسطينية – ورقة غزة و«حماس» تحديداً- لكسب الرأي العام العربي والإسلامي، والظهور بمظهر الدولة الإقليمية الكبرى التي تشكل ظهيراً للشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني من أجل التحرر، والتي تتحدى الغطرسة الصهيونية. وفي سبيل صناعة هذه الصورة، كان لا بد من حركة مسرحية من قبيل الانسحاب من منصةِ منتدى دولي عند شروع الإرهابي شمعون بيريز في الحديث في اللقاء، مثلما كان لا بد من التصعيد الإعلامي مع الدولة الصهيونية- بعد حادثة اقتحام السفينة مرمرة- قبل إعادة فتح خطوط الاتصال بها. والحق أن أردوغان أصاب حظاً من النجاح في إيهام كثيرين بأن تركيا انتقلت، في عهده، من التحالف الاستراتيجي مع «إسرائيل» إلى معاداتها، ومناصرة حقوق الشعب الفلسطيني، وبقدر ما كان هدفه من هذا كله تلميع صورته، وبناء «كاريزما» له في المحيطين العربي والإسلامي، كان يجد مسعاه هذا في بعض الإعلام العربي الموالي لخطه السياسي، صدى ومساحةً واسعة للتلميع، مثلما وجد من حركة «حماس» شرعنة فلسطينية لدوره السياسي في قضية فلسطين والصراع العربي – «الإسرائيلي»، وتعويلاً على ذلك الدور بزعم أنه وحده الممكن والمتاح أمام شعب فلسطين.
وكما لعب الورقة العثمانية، لدغدغة الشعور الجمعي التركي ومخاطبة يوتوبيا الخلافة في المخيال العربي والإسلامي، لعب الورقة الإخوانية حين اندلع ما يسمى «الربيع العربي»، فبات وصياً على «إخوان» مصر وسورية وتونس، والناطق الرسمي الإقليمي والإسلامي باسمهم وباسم «مظلوميتهم»، وما تحرج، وهو يمتطي صهوة «الإخوان»، في أن يدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية لدعمهم بالسلاح والإيواء، في البلدان التي اندلعت فيها مواجهات مسلحة مثل سوريا؛ وبالتحريض في البلدان التي انفجرت فيها احتجاجات مثل مصر؛ وبالمساندة السياسية في البلدان التي حاول «الإخوان» إحداث قلاقل فيها.
وهكذا من مغازلة الشعب الكردي، باسم الإسلام ووحدة المسلمين، إلى ضربه وتصفية مكاسبه، باسم الأمة التركية ووحدة تركيا، قطع «حزب العدالة والتنمية» شوط تناقضاته السياسية التي أوقعتْه فيها براغماتيته السياسية.
وأخيراً، ها هو يرضخ للضغوط الصهيونية فيستعيد العلاقة ب «إسرائيل» بشروطها هي، وها هو يمتثل للمطالب الروسية فيعتذر عن جريمة إسقاط طائرة سوخوي، ويذهب في اتجاه إصلاح العلاقة بروسيا.في كل هذه السياسات التي تقفز على الحبال، بانتهازية صارخة، لم يكن من هدف لحزب العدالة والتنمية وزعيمه سوى بلوغ الأهداف التي أنكرها عليه نجم الدين أربكان، لأنها غير نظيفة.
عبدالإله بلقزيز
صحيفة الخليج