أول مرة سألتُ هذا السؤال عام 1998، ووقتَها اتهمني أبطحي، مساعد الرئيس خاتمي، بالتعصب. فقد كانت وجهة نظره أنّ الجهات المحافظة في إيران إنما تريد تمكين سيطرتها بالداخل، ومشكلتها الحقيقية مع الرئيس خاتمي وليس مع السعودية أو مصر أو باكستان! وعندما ذكّرتُه بـ«حزب الله» والأحزاب الأخرى التي تدعمها إيران، قال: هذه الأحزاب والحركات تحظى بشعبية في إيران لأن لها علاقةً بفلسطين. وكان الخميني مؤمناً بذلك، أما مَنْ بعده فيريدون بقاءها على سبيل الدعاية، فيزعجون أميركا وإسرائيل، ويعيّرون العرب أنهم مهتمون أكثر منهم بفلسطين! لكن أبطحي نفسه وفي عام 2002، عاد فقال لي: إنّ أذرُع إيران في الخارج ليست شكلية وليست للدعاية، بل جزءٌ من التفكير الاستراتيجي للمتدينين والقوميين معاً، وأظنّ ( كما قال) أنه ستكون لها عواقب خطيرة على العرب والأميركيين وعلى إصلاحيي الداخل. قلتُ له: من تقصد بإصلاحيي الداخل؟ فأجاب: كل القوى التي ليس لها كراسي في منتدى الحرس الثوري!
بعد احتلال العراق من جانب الأميركيين، ودخول إيران عليه، ثم تمكين قبضتها على سوريا ولبنان، ما عاد سؤال العقل والمصلحة وارداً كثيراً. فقد استخدمت إيران القوى الميليشياوية في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا.. والبحرين واليمن، أدوات في سياساتها الخارجية، سواء تجاه العرب أو تجاه أميركا وإسرائيل. وبعد الاتفاق النووي الإيراني الأميركي 2013 –2014 تكرر شكر سياسيي وزارة الخارجية والرئيس الإيراني لـ«حزب الله» والحركات الفلسطينية الموالية، باعتبار أنها أسهمت إسهاماً بارزاً في إنجاح الاتفاق، من خلال تحديها للولايات المتحدة وإسرائيل بالتنسيق مع إيران خلال المفاوضات واتفاقاتها! وبالطبع فما دامت تلك الحركات والميليشيات قد خدمت وظائفها، فلن تكونَ لها أهمية كما في السابق؛ إذ لا حرب بعد الآن بين «حزب الله» وإسرائيل. لكنّ خبيراً إيرانياً ببريطانيا اعتبرني مخطئاً، ونبّهني إلى اهتمام إيران بإعادة منظمة «الجهاد الإسلامي» إلى أحضان الحرس الثوري أخيراً بعد تحييدٍ استمر لأكثر من ثلاث سنوات بسبب الموقف من نظام الأسد. وقال: بالطبع «الجهاد» ليست في أهمية «حماس»، لكنها تستطيع التحرش بإسرائيل، والإشراف على تنظيمات المتطرفين الصغيرة التي تتلقى الدعم الإيراني، فضلاً عن كتيبة «صابرون» وهم متشيعة غزة. وقال لي أحد منظِّري منظمة «الجهاد» إنّ هؤلاء إنما تشيعوا بسبب دعم إيران للمجاهدين في فلسطين منذ عقدين وأكثر!
والسؤال بشأن العقل والمصلحة في الجهود الإيرانية لاختراق البلدان العربية يتناول أمرين: القتال في سوريا والعراق، والإصرار على نشر حركة للتشييع في أوساط فقراء السنة في كل مكان. فالقتال في العراق الذي يقوده ضباط إيرانيون على رأس كتائب: «الحشد الشعبي» بتنظيماته المتعددة، هجَّر خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، زهاء الثلاثة ملايين ونيف، معظمهم إلى المنطقة الكردية. وقتل الحشد والإيرانيون في 2016 ما لا يقل عن العشرين ألفاً بتهمة مُخامرة «داعش»! فإذا كانت إيران مهتمة بقيام دولة مستقرة بالعراق؛ فإنّ هذه التصرفات ستجعل من العرب السنة (كما كانوا حتى الآن) صواعق مفجِّرة وبخاصةٍ الشبان منهم. والوضع في سوريا أصعب بكثير. فالجيش والحرس الثوري لديهما كتائب مقاتلة، إضافةً لـ«حزب الله» والميليشيات الأُخرى العراقية والأفغانية والباكستانية. وهؤلاء جميعاً يقتلون ويهجّرون منذ ثلاث سنوات ونيِّف. لكنْ ماذا يفيد ذلك غير بعث الأحقاد الطويلة الأمد لدى كثرة كاثرة من الشعب السوري؟!
أما الأمر الآخر غير المفهوم، فهو الإصرار على إقناع عوائل سنية في كل البلدان على اعتناق المذهب الشيعي الإثني عشري. بل إنّ بعض علماء الزيدية شكوا لي من الظاهرة ذاتِها في اليمن وتجاه الزيدية. إذ إنّ هذه الجهود والأموال ستخلق مؤقتاً أقليات صغيرة في البلدان الإسلامية أو في المهاجر، ثم لا تلبث تلك الأقليات بعد جيلٍ أن تزول، مخلِّفةً ذكريات سيئة عن أولئك الذين شروا دينهم بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودات. وأعرف كهولاً علويين قالوا لي إنهم ارتاحوا نسبياً من جهود التشييع بالتدخل الروسي!
الأمر الثالث الأكثر أهميةً وخطورة، هو استقطاب المجموعات الشيعية في البلدان العربية والإسلامية وصنع تنظيمات سرية مسلحة أو غير مسلحة فيها، تقودها الأجهزة الإيرانية، لصُنْع الاضطراب في دول الجوار السنية. إنّ هذه التنظيمات إمّا أن تخرب نظام هذا البلد أو ذاك وانتظامه، أو تحاول فرض غلبة بالسلاح. وكل ذلك لا استمرار له وعواقبه وخيمة.
د.رضوان السيد
صحيفة الاتحاد