لم تعد المساعدات الإنسانية التي توجهها الدول الغربية والقوى الإقليمية والمؤسسات الأممية والمنظمات الإغاثية الدولية غير الحكومية والشركات الخاصة للاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين في منطقة الشرق الأوسط ذات أبعاد مالية تقليدية تتعلق بتوفير المأكل والملبس والمأوى لهم، بل باتت تحمل أبعادًا تنموية واقتصادية وعمالية وثقافية وفكرية ونفسية على نحو يفيد المجتمعات المضيفة واللاجئين والدول المانحة في آنٍ واحد، بما يُحوّل التأثيرات السلبية للتحركات البشرية العابرة للحدود إلى قيم مضافة إيجابية، لا سيما بعد أن تسببت موجة عدم الاستقرار الإقليمي في تفكير المانحين Donors في بلورة استراتيجيات “فوق تقليدية” تستفيد من أزمة اللاجئين باعتبارها فرصة لمعالجة المشاكل التي تسبق الصراع.
ووفقًا للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فإن واحدًا من بين كل 113 شخصًا على سطح الأرض لاجئ أو طالب لجوء أو نازح في بلاده، حيث ساهم القتال في سوريا وأفغانستان والعراق وجنوب السودان في ازدياد تدفق اللاجئين الذي بلغ 65,3 مليون شخص في عام 2015.
أبعاد إيجابية
وفي هذا السياق، تتمثل الأبعاد الإيجابية الجديدة لما يمكن تسميته بـ”اقتصاديات اللجوء” أو “اقتصاديات الإغاثة الإنسانية” الناتجة عن استقبال دول غربية أو عربية أو شرق أوسطية للمهاجرين أو اللاجئين، وفقًا لرؤية المحللين والمسئولين الحكوميين، فيما يلي:
1- فرصة لدفع عجلة التنمية الوطنية: تدرك بعض الجهات المانحة الدولية ودول متضررة من تدفقات اللاجئين أهمية دعم التنمية الوطنية بالتوازي مع تقديم المساعدات الإنسانية الدولية، وهو ما تحاول الأردن القيام به بعد تفاقم تأثير الأزمة السورية على أوضاعها الداخلية عبر لفت أنظار الجهات المانحة الدولية إلى التحديات الوطنية التي تواجهها، لا سيما مع افتقارها إلى الموارد الاقتصادية ومحدودية الإيرادات الداخلية.
وقد أصدرت المفوضية السامية لشئون اللاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في ديسمبر 2014، “الخطة الإقليمية للاجئين والقدرة على التحمل” بهدف توسيع مصادر التمويل التقليدية المتاحة في مجال المساعدة الإنسانية لمواجهة تداعيات الصراعات الداخلية المسلحة كي تصبح موارد تنموية على المدى الطويل، وهو ما تخطط له كل من تركيا ولبنان بعد تزايد استقبالهما للاجئين السوريين منذ تفاقم الأزمة في عام 2011.
2- المساعدة في الوصول إلى موارد للدخل: يقود استمرار الصراعات الداخلية المسلحة في المنطقة العربية تباعًا إلى تزايد تدفقات اللاجئين إلى دول الجوار الإقليمي على نحو يفرض على الجهات الدولية والإقليمية المانحة التحول في سياسات الاستجابة من نهج طارئ إلى آخر مستدام على المدى الزمني الطويل، وهو ما يستلزم بدوره مساعدة اللاجئين في توفير سبل العيش بما يخفف معاناة اللاجئين.
وهنا تجدر الإشارة إلى الدعم الذي تقوم به شركة “أورندة” لعالم الأزياء بالولايات المتحدة الأمريكية من خلال الاهتمام بإبداع أطفال اللاجئين الفلسطينيين في مخيم “جرش” بالأردن عبر إمساكهم بأقلام ملونة ورسمهم أشكالا فنية يتم طباعتها على قمصان جديدة بحيث يتم توفير “مصدر رزق” للاجئين، وتُخصص نسبة من أرباح مبيعات تلك القمصان للمساعدة في تطوير المجتمعات التي تخرج منها الرسوم التي تحملها. كما تأسست في مصر شركات ومؤسسات مثل “فرد” خلال عامى 2013 و2015 بهدف التدريب المهني للاجئات السوريات والعراقيات والسودانيات على إعداد وجبات مطهوة في البيت لإدخالهن إلى سوق العمل، وتوفير وسائل عيش لهن ولأسرهن.
بناء قدرات
3- تعزيز دور مؤسسات الحكم المحلي: يؤدي تدفق اللاجئين إلى زيادة المنافسة على فرص العمل مع المواطنين، وإرهاق الخدمات الاجتماعية (مثل الرعاية الصحية، والتعليم)، وهو ما يستلزم بلورة برامج خاصة ببناء القدرات التي تعزز من أدوار المؤسسات المحلية المرتبطة بتقديم الخدمات الموجهة إلى المواطنين واللاجئين على حد سواء. ونظرًا إلى أن الأردن يستضيف ثاني أكبر نسبة في العالم من اللاجئين مقارنة بعدد السكان وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، تحول اللاجئون إلى أزمة ممتدة في الأردن، ووفقًا للتصريحات الرسمية الأردنية، تبلغ التكلفة التي تحملتها الأردن نتيجة الأزمة السورية ما يقرب من 6,6 مليارات دولار منذ اندلاع الأزمة السورية، وتحتاج الأردن إلى ثمانية مليارات إضافية للتعامل مع الأزمة حتى عام 2018، وهو ما حذر منه الملك عبد الله الثاني في حوار مع تلفزيون “بي بي سي”، في 22 فبراير 2016، بقوله: “سد سينفجر عاجلا أو آجلا” جراء التكلفة الاقتصادية والأمنية للاجئين السوريين في الأردن، بشكل انعكس في دعم مؤتمر المانحين بلندن للاقتصاد الأردني.
إغاثة إنسانية
4- توجيه مخصصات مالية لتثقيف اللاجئين: أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس الوزراء حاكم دبى، في يونيو 2016، عن حملة لتوفير خمسة ملايين كتاب للطلاب المحتاجين في مخيمات اللاجئين وحول العالم الإسلامي، وهو نمط جديد يطلق عليه “الإغاثة الثقافية” يختلف عن التبرعات النقدية أو المساعدات الغذائية. وقد عبر الشيخ محمد بن راشد عن ذلك قائلا: “ستنتقل الإمارات في رمضان هذا العام من إطعام الجائع وسقيا الماء إلى سقيا العقول وتغذية الأرواح”.
وقد تمثّل الهدف من تلك الحملة في تقليص حرمان الأطفال اللاجئين من البرامج التعليمية والكتب الدراسية عبر تشكيل لجنة تضم جهات حكومية وإعلامية ومؤسسات إنسانية برئاسة الأمين العام لمبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية محمد عبدالله القرقاوي. وفي هذا السياق، نظمت وزارة التربية والتعليم فعاليات لحث الطلاب على التبرع لأقرانهم بالكتب، كما توافرت طيلة فترة الحملة مراكز للتسوق يتمكن الأفراد من خلالها من التبرع بالمبالغ المالية وكتابة إهداءات شخصية للأطفال المستفيدين في مخيمات اللاجئين، وشاركت وسائل الإعلام الإماراتية أيضًا في الحملة عبر تغطيتها للفعاليات والأنشطة التي تقيمها المؤسسات الحكومية والخاصة.
5- إزالة نزعات التطرف في مخيمات اللاجئين: وذلك عبر توجيه مساعدات مالية تُخصص لقطاعات الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و25 عامًا باعتبارهم الأكثر عرضة للتطرف، لا سيما مع التجارب المريرة التي تعرضوا لها، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التنمية السائدة داخل المجتمعات المحلية المحيطة باللاجئين بحيث لا تكون مهملة بشأن تقديم المساعدات للاجئين، وتجنب حشد آلاف اللاجئين في مكان واحد. وفي هذا السياق، قد يتم تخصيص برامج مساعدات لمواجهة تحالف العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية التي تتخذ من اللاجئين مدخلا للاتجار بالبشر.
6- إدماج اللاجئين اقتصاديًّا في المجتمعات المضيفة: وهو ما تخطط له ألمانيا في استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط للتعامل مع طوفان اللاجئين القادم إليها، حيث كانت ألمانيا في مؤتمر لندن، الذي عُقد في فبراير 2016، أكثر دول العالم سخاء في تقديم مساعدات مالية لبرنامج الغذاء العالمي ووكالة غوث اللاجئين لتحسين أوضاع اللاجئين في دول الجوار السوري.
وتهدف الاستراتيجية الألمانية -والتي يُطلق عليها “مارشال الجديدة”- إلى تحقيق هدفين رئيسيين هما: خفض أعداد اللاجئين إليها، وتحقيق طفرة في تنمية اقتصاديات هذه الدول عبر الاستثمار في بنيتها الأساسية، وتقديم مساعدات لها لإنشاء مصانع وورش لتشغيل اللاجئين، والتوسع في نقل برامج التأهيل الفني للشباب وفق نماذج الإدارة الألمانية. فضلا عن البرامج الدراسية التي تضع محاورها ألمانيا للاجئين السوريين والعراقيين عبر تخصيص منح لهم في الجامعات الألمانية بحيث تتشكل نخبة عربية مرتبطة بألمانيا.
لاجئون اقتصاديون
7- استقطاب الأيدي العاملة والكفاءات النادرة للمجتمعات الغربية: تسعى بعض الدول الغربية إلى الاستفادة من بعض اللاجئين الشرق أوسطيين، حيث دعا وزير الاقتصاد الالماني زيغمار غابرييل في خطاب موجه، في بداية عام 2016، إلى الرؤساء التنفيذيين لأكبر 30 شركة مدرجة في ألمانيا إضافة إلى غرفة التجارة والصناعة، إلى توظيف المزيد من اللاجئين الفارين من الصراعات في سوريا والعراق وأفغانستان، لا سيما أن شركات ألمانية كثيرة تواجه صعوبات في العثور على العمالة المدربة.
وقد قام مركز “بورش”، وهو فرع من شركة “فولكسفاغن” إحدى أهم شركات السيارات الألمانية، بإجراء تجربة علمية في هذا السياق، عبر السماح لبعض اللاجئين إلى ألمانيا في العام الماضي بالاستقرار بعد ضم 13 مشاركًا، تتراوح أعمارهم بين 16 و38 عامًا، وينحدرون من العراق وسوريا وإيران وأفغانستان وتركيا. وتلقّى المتدربون على مدى خمسة أشهر دروسًا في اللغة الألمانية، وتم تعريفهم بثقافة البلاد والتعاليم الفنية وطريقة عمل الشركات، وتقاضى كل منهم 250 يورو. ويأتي هذا البرنامج التدريبي لتلبية حاجة متزايدة إلى الأيدي العاملة المتخصصة في بعض القطاعات في ألمانيا، ومنها صناعة السيارات، وتشير الشركة إلى أنها سوف تطبق برنامجًا مماثلا لمدة عشرة أشهر وبمشاركة 15 لاجئًا.
8- تعزيز مبادرات السلام بين الشعوب: بدأت بعض المهرجانات الفنية في الدول الغربية تهتم ببعض القضايا الشرق أوسطية. فعلى سبيل المثال، نظم مهرجان برلين في دورته الستين، في فبراير 2016، مبادرات لصالح اللاجئين تشمل عروض أفلام وحملات تبرع ودورات تدريبية. وفي هذا الإطار، قال ديتر كوسليك رئيس المهرجان في تصريحات صحفية: “نحن بحاجة إلى مواجهة الواقع حولنا وليس الاستمتاع على السجاد الأحمر”.
اقتصاديات الصحة النفسية
9- توجيه مساعدات مالية لمعالجة الأمراض النفسية للاجئين: وفقًا لما أوردته دوريات طبية عالمية، فإن بعض اللاجئين السوريين والأفغان يعانون مما يطلق عليه “اضطراب ما بعد الصدمة” لا سيما إذا كانت الصدمة متعددة مثل الحرب والاغتصاب والتعذيب. فقد تصل تلك الأمراض إلى ما يعرف بـ”مرض الذهان” أو “الهوس”، وهو اضطراب يتسم المصاب به باختلال الصلة بالواقع، خاصة بعد نوبات الذكريات المرعبة التي يتعرض لها اللاجئون أثناء وجودهم في ساحات الصراع، مثل الحرق بالمياه المغلية، والتعرض لإطلاق النار، والضرب بالأسلاك الكهربائية.
وفي هذا السياق، تنسق بعض المؤسسات الدولية الإغاثية مع حكومات الدول التي تستقبل اللاجئين في وضع خطط تمكنهم من التعامل مع أعداد كبيرة من المرضى النفسيين، وبدأ الأطباء النفسيون في الدول الأوروبية في تطوير مهارات جديدة للتعامل مع وسائل العلاج النفسي الخاص باللاجئين، حيث أن استخدام الوسائل العلاجية المتعارف عليها لضحايا الصدمة الواحدة في ظروف مستقرة، مثل الجنود العائدين من القتال أو الناجين من حوادث السيارات، لن يعالج أزمة الصحة النفسية لدى اللاجئين بنفس الفاعلية.
10- توسيع الشراكة الدولية لمحاربة عمالة الأطفال: وهو ما بدا جليًّا في دعم مؤسسات دولية لدول اللجوء لرعاية الأطفال القادمين من بؤرتي الصراع في سوريا واليمن. فعلى سبيل المثال، تدعم كل من وزارة العمل الأمريكية ومنظمة العمل الدولية مشروعًا أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية بالتعاون مع وزارة العمل الأردنية ودائرة الإحصاءات العامة الأردنية تحت مسمى “التحرك نحو أردن خال من عمل الأطفال” بعد وصول الأطفال العاملين إلى ما يزيد عن 69 ألف طفل.
وحسب المسح في المشروع، فإن نسبة العمالة بين الأطفال إلى السكان هى الأعلى بين الأطفال السوريين، وأن الأطفال معرضون لعدد من المخاطر كالغبار والدخان، بالإضافة لتعرضهم للإساءة الجسدية والنفسية. ويهدف هذا المشروع إلى توفير قاعدة بيانات حديثة وشاملة، لدعم بيئة تمكينية لمكافحة عمالة الأطفال، ومواصلة استكمال مبادرات أخرى من الحكومة الأردنية والمجتمع المدني الهادفة إلى الحد من تسرب الطلاب من التعليم الأساسي.
الاستثمار في اللاجئين
خلاصة القول، لقد تصاعد اتجاهٌ في الأدبيات الغربية مفاده الاستثمار في اللاجئين بما يفيد أطراف المنظومة الثلاثة، وهى دول الإرسال، ودول الاستقبال، واللاجئون، حتى لا يظل اللاجئون في مؤخرة أولويات دول الإقليم التي لا تزال المصدر الأكبر للاجئين وهى نفسها من أكبر الدول المستوعبة للملايين منهم. فقد تكون العقبة هى الحل كما تشير إليه أوضاع اللاجئين في عدد من الدول الشرق أوسطية، مع الأخذ في الاعتبار أن مقاربة نهج واحد مناسب للجميع لن تفرض تداعيات إيجابية ملحوظة.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة