ما زال النقاش حول “النهاية” الممكنة في الثورة السورية ناشطاً، رغم أن جموع الشعب باتت تريد حلاً بعد أن تشردت وعاشت أسوأ أزمة اقتصادية، وحالة رعب مستمر وقتل وتدمير واعتقال.
بمعنى أن الوضع الشعبي وصل إلى حالة من السوء دفعت إلى القول بأن “الشعب بات يرضى بأي حل”، خصوصاً مع شعور عام بالعجز عن انتصار أي من الطرفين: الثورة والسلطة.
وهو شعور واسع نتج عن الدعم غير المحدود للسلطة من قبل روسيا وإيران (وأتباعها)، واللعب بالثورة من قبل “أصدقائها”، وعدم تقديم سوى ما يضرّها. فأصبحت حالة الاستعصاء هي القائمة منذ ما يقارب العامين. وأصبحت إمكانية انتصار طرف مستحيلة، وما يمكن أن ينتج في أقصى الاحتمالات هو حالة انهيار عام.
هذا الأمر فرض التعلق بأمل الوصول إلى حل، لكن في المقابل هناك من يعتقد أن التحولات العالمية سوف تفرض دعم الثورة من قبل “أصدقائها” لكي تنتصر. ولهذا نلمس أن بعض الانتصارات على الأرض تعلي من هذا الصوت، وكذلك حماس بعض الدول الإقليمية أو الدولية لـ”دعم” الثورة يزيد بروزه.
الممكنات منذ بدء الثورة
حتى يتضح الوضع الآن؛ يمكننا العودة إلى الاحتمالات الممكنة منذ بداية الثورة، هل كان لها أن تنتصر؟ أي أن تسقط النظام كما كُرّر في الشعار؟
هذا سؤال بدهي على ضوء نتائج الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، حيث شهدنا ثلاثة أشكال من المصير، فإما انقلاب السلطة على ذاتها وإبعاد الرئيس، أو التدخل “الدولي”، أو السحق كما في البحرين من قبل السعودية، أو المناورة ومن ثم إبعاد الرئيس كما في اليمن، تحت ضغط دول إقليمية وعظمى.
“إن مقدرة الثورة تتمثل في خلق تفكك في السلطة يدفع إلى تحويل “ديمقراطي” على أمل إعادة السيطرة، لكن واقع الثورة السورية لم يكن يسمح بأكثر من ذلك نتيجة غياب القوى السياسية التي تنظمها”
بمعنى أنه لم يحدث أن وصلت الثورة -في هذه الحالات جميعا- إلى لحظة أن يفرض الشعب سلطته. والسبب في ذلك أن انتصار الثورة يحتاج إلى قوى سياسية لديها رؤيتها وبديلها وتكتيكاتها التي تدفع الثورة نحو الانتصار، وهذا لم يكن قائماً في كل تلك البلدان، وكذلك في سوريا. ولهذا كانت الخيارات المطروحة تتمثل في: إما تحوّل من داخل السلطة يفتح على مرحلة انتقالية كما في تونس ومصر، أو التدخل “الخارجي”.
إن مقدرة الثورة -كما ظهر في البلدان الأخرى- تتمثل في خلق تفكك في السلطة يدفع إلى تحويل “ديمقراطي” على أمل إعادة السيطرة، لكن واقع الثورة لم يكن يسمح بأكثر من ذلك نتيجة غياب القوى السياسية التي تنظمها وتحدد شعاراتها، وتضع الرؤية التي توصل إلى انتصارها وتفرض البديل الذي يحمل مطالب الشعب.
وهو الأمر الذي كان يدفع إلى انتظار حدوث كسر في السلطة. هذا وضع ثورات تونس ومصر واليمن خصوصاً. وهو الوضع ذاته الذي كان يحكم حالة سوريا، بعد أن أدى الاستبداد وتكلس الأحزاب إلى الانقطاع عن “الشارع”، والقطيعة معه في المطالب والشعارات كذلك.
في سوريا؛ كان الخيار لدى أطراف المعارضة يتمثّل في: إما الضغط المحلي والدولي على السلطة لكي تقبل الدخول في مرحلة انتقالية لنقل سوريا “من الاستبداد إلى الديمقراطية”، أو الاندفاع نحو الدعوة إلى تدخل “خارجي”، خصوصاً بعد أن ظهر تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا.
لكن الخيار الأول كان يصطدم بتشبث السلطة وحسمها “القتال إلى النهاية”، وبالتالي لم يفد تدخل الجامعة العربية ثم مجلس الأمن الذي عيّن كوفي أنان ممثلاً له وللجامعة العربية لتطبيق المبادرة العربية الدولية. ولم تفد العلاقات مع إيران وروسيا والصين لتحقيق هذا الغرض.
وكان الخيار الثاني يبدو مستحيلاً -منذ البدء- لأسباب كثيرة، منها وضع أميركا “الانكفائي” الذي جعلها تعيد بناء إستراتيجيتها بعيداً عن المنطقة، وأن تحاول التقارب مع روسيا (والآن أيضاً مع إيران)، وكذلك لأن التدخل سيتحوّل إلى حرب إقليمية لم ولن تكون أميركا مستعدة لها، كما يبدو إلى الآن.
من كان يقبل التدخل هو تركيا وفرنسا عبر الحلف الأطلسي، لكن كانت أميركا تلجم هذا الميل، وفي الأخير “باعت” سوريا لروسيا. بمعنى أن الوضع الدولي لم يكن يشير إلى أيّ إمكانية للتدخل العسكري، ولهذا أصبح هذا الخيار نفلاً.
ولهذا كان “الشغل السياسي” يفترض التركيز على تفكيك السلطة، وكان ذلك يعني تسهيل حدوث شرخ فيها يسمح بانتقال إلى “الديمقراطية”. لكن كل السياسة التي جرى اتباعها قامت على عكس ذلك؛ بدءا من التعامل مع “المنشقين”، إلى تحويل مجمل الجيش وأجهزة الدولة إلى عدو، إلى التحريض الطائفي الذي كان يتوافق مع ما تريده السلطة ويؤكد خطابها، إلى الاستهانة بالمسألة الوطنية، وغيرها كثير.
“لقد كانت إستراتيجية المعارضة خاطئة، وبعضها ألحق أبلغ الضرر بالثورة فهي لم تشتغل من أجل حدوث كسر في بنية السلطة يفتح الطريق لتحقيق مرحلة انتقالية، بل إنها اشتغلت على تكريس تماسك السلطة”
لقد كانت إستراتيجية المعارضة خاطئة، وبعضها ألحق أبلغ الضرر بالثورة (وهنا تمكن الإشارة إلى الإخوان المسلمين والمجلس الوطني الذي تشكّل تحت هيمنتهم، ثم أغلبية معارضة الخارج)، فهي ليس فقط لم تشتغل من أجل حدوث كسر في بنية السلطة يفتح الطريق لتحقيق مرحلة انتقالية -وهذا ما هو ممكن كذلك نتيجة مجمل وضع الثورة- بل اشتغلت على تكريس تماسك السلطة.
حيث اعتمدت على دور دول خارجية، وهي هنا كانت ما زالت تعيش عصر “الحرب الباردة” في عالم شهد تغيّراً كبيراً كان أصلاً في أساس نشوب الثورات (الأزمة المالية العالمية سنة 2008). إضافة إلى تراجع القدرة الأميركية على التدخل، حيث إنها الوحيدة القادرة في الإطار الإمبريالي والمحدِّد كذلك، فقد باتت معنية بمواجهة موجة ثورية بدأت في تونس وتوسعت إلى كل المنطقة، في عالم بات يتحفّز لنشوب الثورات.
دور الخارج
بمعنى أن الثورة السورية باتت عُرضة لتدخلات معاكسة، سواء بشكل صريح مثل دور روسيا وإيران، أو مموه مثل دور “أصدقاء سوريا”.
وبالتالي كان التدخل الخارجي يهدف إلى حماية السلطة ومنع سقوطها، وتشويه الثورة وتفتيتها على أساس طائفي وأصولي ومناطقي من طرف آخر. والسيطرة على مسارها بما لا يسمح لها بأن تتطور إلى الحدّ الذي يهدد السلطة.
هذه العملية جعلت السلطة تعتمد كلياً على إيران/روسيا، وباتت -نتيجة الدور العسكري الكبير الذي قدمته- تقاتل الشعب بقوى خارجية (حزب الله، والمليشيات الطائفية العراقية، والحرس الثوري الإيراني، وخبراء من روسيا وإيران، وحشد من اليمن وباكستان وأفغانستان وروسيا) بعد أن تضعضع الجيش وفقد قوته الرئيسية.
لكن هذه العملية جعلت الكتائب المسلحة المعارِضة تتأسلم إرضاءً للممول، وتتشظى بتعدد مصادر التمويل، وجرى إدخال “الجهاديين” بتضافر بين السلطة وإيران ودول إقليمية (السعودية)، حيث أصبحت القوى الأصولية متمكنة والكتائب الأخرى مشتتة ومطاردة من القوى الأصولية. وباتت حدود الثورة -وفق إستراتيجية الدول الخارجية- هي خلق توازن يتيح الوصول إلى حل تفاوضي. أو كما تكرر “طائف سوري”، أو وفق مبادئ “جنيف 1”.
وبهذا لم يعد الحل قائماً على فعل داخلي محض، حيث باتت الدول الخارجية هي التي يجب أن تتوافق للوصول إلى حل، في ظل مروحة واسعة من المسائل العالقة بينها.
“تقوم المناورة الآن على أن يتم الحل ببقاء بشار الأسد كما يريد ذلك الروس والإيرانيون، بينما تضغط دول أخرى من أجل تنحيته. لكن في كل الأحوال ليس من حل سياسي بوجود بشار الأسد”
ولكن يبدو الميل هنا نحو توافق أميركي/روسي -كما كان في “جنيف 1”- ومن ثم إيراني سعودي، مع موافقة دول إقليمية أخرى (مصر، قطر). لكن يبقى الموقف التركي مربكاً، لأن تركيا لن تحصل على ما كانت قد حصلت عليه من بشار الأسد في أي حل قادم، ولهذا تدفع نحو تعزيز الدور العسكري، وتريد موافقة أميركية على منطقة حظر جوي لكي تفرض بديلها، الذي بات هو الائتلاف الوطني بعد أن سيطرت عليه تماماً.
وهذا ما يمكن أن يعقد الأمر ويؤخر الحل، لكنه لن يغير من أمر التوافق بين البلدان المشار إليها.
ما حاولت قوله هو أن الحل سياسي كان -منذ البدء- لا مخرج غيره. ولقد قادت شراسة السلطة وتعنتها والتدخلات المضادة للثورة إلى أن يصبح الحل السياسي بأيدي دول أخرى.
وتقوم المناورة الآن على أن يتم الحل ببقاء بشار الأسد كما يريد ذلك الروس والإيرانيون، بينما تضغط دول أخرى من أجل تنحيته. لكن في كل الأحوال ليس من حل سياسي بوجود بشار الأسد، ليس نتيجة رفض المعارضة أو أي من الدول الأخرى، بل لأن الحل يهدف إلى إنهاء الصراع وبقاء بشار الأسد لن يسمح بذلك، حيث لن تنخرط القوى المقاتلة على الأرض فيه، ولن تقبل فئات الشعب -بما في ذلك قطاع كبير من الذين يحسبون عليه- بحل دون تنحيته.
وهو الأمر الذي سيُبقي الصراع محتدماً إلى أن تتم القناعة الدولية بتنحي الأسد، خصوصاً من كل من روسيا وإيران. وهما الدولتان اللتان باتتا تعانيان من أزمات اقتصادية صعبة، ولن تستطيعا (نتيجة وضعهما الهش) تجاوز قبول المساومة مع أميركا. خصوصاً أن هذه الأخيرة تقدّم لهما تنازلات في سياق الوصول إلى توافق دولي.
وفي الأخير، الأمر يتطلب حدوث كسر في السلطة كان يجب أن تحدثه الثورة، لكن خطايا المعارضة والتدخلات الخارجية منعت ذلك. الآن لا بد لروسيا وإيران أن تحدثا هذا الكسر من أجل الوصول إلى حل، أو سيستمر الصراع لفترة أخرى. وربما تحدث تغيرات كبيرة في العالم (خصوصاً في روسيا وإيران) تفتح الأفق لهذا الحل.
وهذا يقتضي التركيز على هذا الحل وليس الغرق في أوهام الحسم كما يجري لدى قوى المعارضة التي ستكون خارج اللعبة، أو لدى تركيا التي لن تحصل على ما تريده. طبعاً دون تجاهل تطوير القوى على الأرض، وإعادة بناء الثورة بقدر ما يسمح به الوضع، فربما تسمح أزمات الدول وحدوث نهوض ثوري جديد في أكثر من منطقة، بفتح أفق آخر للثورة يجعلها تنتصر.
سلامة كيلة
الجزيرة