المعنيون بشئون البشر وأحوالهم نوعان. أحد النوعين يرى التاريخ كنزا ينهل من تجاربه، ويتعلم من خبراته، ويعتبر بدروسه. أما النوع الآخر، فهو لا يرى في التاريخ إلا أحداثا متفرقة، وقصصا متناثرة لا تعني شيئا في غير سياقها.
كما أن من يعنون بالتاريخ نوعان. أول النوعين لا يعبأ إلا بتاريخ الحكام، وأصحاب السلطة، والقوة، والنفوذ. أما النوع الآخر، فهو من يهتم أكثر بتاريخ الناس، وتطور حياتهم ومجتمعاتهم. ولابد أن يكون في مقدمة اهتمام المعنيين بتاريخ الشعوب، ونضالها، وكفاحها، وثوراتها من أجل التحرر في مختلف العصور، خاصة في العصر الحديث، حين بدأت شمس الحرية تبزغ في سماء العالم.
ومن الطبيعي أن يختلف من يعنون بالتاريخ، خاصة تاريخ الناس وكفاحهم، عن أولئك الذين لا يهتمون به في نظرتهم إلي الحاضر، والمستقبل. فشتان بين من ينطلقون من التاريخ لفهم الحاضر، واستشراف المستقبل، خاصة حين يتسلحون بمنهجية علمية تمكنهم من استخلاص قوانين التطور، ومن يحاولون عبثا تفسير ما يحصل في عصرهم وكأنه بداية التاريخ، وليس مجرد فصل من فصوله.
والفرق بين هؤلاء وأولئك أكثر من كبير، إنه فرق بين من تحلق أفكارهم في آفاق رحبة، ومن تبقي عقولهم حبيسة مقيدة. الأولون هم في الغالب تقدميون بمعني أنهم يؤمنون بأن التاريخ يتحرك إلي الأمام، ولكن حركته لا تسير في خط واحد صاعد، بل متعرج متذبذب. والأخيرون هم، في الأغلب الأعم، محافظون يظنون أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، أو رجعيون يعتقدون أن الأبدع دائما هو ما كان، لا ما سيكون.
وهذا هو بعض أهم ما يفصل بين فريقين في النظر إلي الثورات الشعبية العربية التي تحل هذه الأيام ذكراها الرابعة، حيث بدأت في تونس في 17 ديسمبر 2010، وانتقلت إلى مصر في 25 يناير 2011، ثم إلى اليمن في 11 فبراير، وليبيا في 17 من الشهر نفسه، وإلى سوريا في منتصف مارس من العام نفسه.
يشتمل الفريق الأول على من يعتقدون في أن الثورات، التي أطلق عليها الربيع العربي، تمثل أهم تطور في تاريخ منطقة الشرق الأوسط منذ أن بدأت طريقها المتعثر إلي العصر الحديث، وأنها هي التي ستكمل هذا الطريق في النهاية، رغم تعثرها في البداية. أما الفريق الآخر، فهو يضم من يظنون أن هذه الثورات ليست إلا صرخات في أودية سحيقة يضيع فيها الصوت تدريجيا، فلا يسمع له صدى. ولا يتضمن هذا التصنيف من يبذلون المال والإعلام لتشويه تلك الثورات، ومحاولة إهالة التراب عليها. فهؤلاء يعبرون عن مصالح كبري غير مشروعة، كان استشراؤها من أسباب اندلاع الثورات التي يشوهونها. ولذلك، فهم يقعون خارج نطاق التحليل، كون سلوكهم الذي يعبر عن مصالح القوي المضادة للثورات مفهوما ومتكررا منذ الثورة الأم لكل ثورات العصر الحديث، وهي الثورة الفرنسية عام .1789
فالقوي المضادة هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الثورات في أجيالها المتوالية منذ الثورة الفرنسية، وحتي الثورات العربية التي لا يبدو أن الجيل الراهن مقصور عليها. فقد اندلعت “ثورة المظلات” الشعبية في مطلع أكتوبر الماضي في هونج كونج التي استقبلت بعض ساحاتها ثوارا مفعمين بالأمل، معظمهم من الشباب. وقد جاءت هذه الثورة مبكرة قياسا إلي ظروف هونج كونج، بخلاف انتفاضة بوركينا فاسو في نهاية أكتوبر، التي تأخرت كثيرا.
ويقدم المقال قراءة للثورات العربية في ضوء تاريخ هذا النوع من الثورات الشعبية التحررية في العالم، انطلاقا من أنها هي التطور الأهم حتي الآن في مسار هذه المنطقة نحو العصر الحديث، وأن اختلاط بعضها بحروب أهلية في بلادها، وفي بلاد أخري، قد يكون هو المخاض الأخير في عملية الانتقال الصعب والمتعثر من العصور الوسطي التي لم يغادرها أي من بلاد هذه المنطقة بشكل كامل، بما فيها تلك التي قطعت خطوات أبعد من غيرها في هذا الانتقال.
وتعتمد هذه القراءة علي ما يبدو أنه مسار عام متكرر في مختلف ثورات العصر الحديث الشعبية، أو في أغلبيتها الساحقة علي الأقل. وهذا مسار لابد أن يتعثر في بدايته، ولكنه لا يلبث أن يصحح نفسه بأشكال مختلفة من بلد إلي آخر، ومن مرحلة زمنية إلي غيرها، ويتقدم ليفتح طريق الإصلاح الذي كان غلقه هو الدافع إلي الثورة منذ البداية.
ولذلك، نبدأ بإطلالة سريعة، بل عابرة، في حدود ما يسمح به المجال، علي الملامح الرئيسية للمسار الثوري في العالم، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وننتقل منها إلي السمات العامة لهذا المسار في الثورات العربية، واختلاطه بصراعات وحروب أهلية ساخنة تغطي مساحات ممتدة في المنطقة، وأخري باردة لم تتحول إلي قتال، وإن كان بعضها يحمل نذر هذا التحول في فترة لاحقة. فالمخاض الراهن سيطول أمده علي الأرجح في وضع معقد، يجمع في طياته ملامح مختلطة تعود أصولها إلي حقب زمنية عدة في التاريخ.
أولا- الملامح العامة لمسار الثورات الشعبية في العالم:
يجمع الثورات الشعبية في العالم علي مدي أكثر من قرنين، علي اختلاف تفاصيلها، بضعة ملامح عامة تمثل قواسم مشتركة بينها علي مدي أجيالها الستة، منذ جيلها الأول الذي افتتحته الثورة الفرنسية عام 1789، وحتي جيل الثورات العربية. فهذه القواسم لا تقتصر علي الجيل الثاني في أوروبا 1848 (اثنتا عشرة ثورة، أهمها الموجة الكبري الثانية للثورة الفرنسية) بخلاف ما ذهب إليه فرانسيس فوكوياما في كتابه الجديد “النظام السياسي والأفول السياسي: من الثورة الصناعية إلي العولمة الديمقراطية”. فقد توقف في هذا الكتاب أمام الربيع العربي، وقارنه بثورات 1848 فقط، في إطار ما لاحظه من تشابه بين أوروبا في ذلك الوقت والعالم العربي الآن. غير أن ربيع أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر والربيع العربي الراهن ليسا إلا جيلين في تاريخ ثورات العصر الحديث التي تجمعها قواسم مشتركة في مختلف أجيالها. ولكن ما لاحظه فوكوياما، عبر هذه المقارنة الجزئية، صحيح، ويعرفه كل من قرأ تاريخ هذه الثورات، وهو أنها تتعثر في البداية، وتنجح في النهاية.
1- لماذا تتعثر الثورات في بدايتها؟
الثورات الشعبية جزء من حركة التاريخ التي تتقدم في مسارات متعرجة تشهد خطوات إلي الأمام، وأخري إلي الوراء، وتطورات تقدمية، وأخري ارتدادية، وصعودا لقوي ثورية، يعقبه تكتل قوي مضادة لها تحاصر المد الثوري في البداية، وتوقفه في كثير من الأحيان، ولكن لوقت يطول أو يقصر ، إذ تتحقق أهداف الثورات في النهاية.
وهذا هو ما نستخلصه من قراءة تاريخها عبر مختلف أجيالها، وما تنطوي عليه من قواسم مشتركة في ملامحها العامة، رغم الاختلاف الهائل في تفاصيل كل منها. فلا تختلف هذه الأجيال في خطوطها العريضة، منذ الثورة الأم في فرنسا 1789، وما تبعها من انتفاضات في عدد محدود من الدول الأوروبية التي اختمر في اثنتي عشرة منها جيل ثان في منتصف القرن التاسع عشر. فكان عام 1848 هو الأكثر ثورية في التاريخ الحديث، حتي لحق به عاما 1989 في الجيل الرابع (شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية)، ثم عام 2011 في الجيل السادس الراهن. أما الجيل الثالث، فقد غلب عليه طابع التحرر الوطني ضد الاستعمار، فيما تمركز الجيل الخامس (الثورات الملونة) حول قضية الحرية.
ومن أهم الملامح العامة لهذه الأجيال كلها أن الثورة تحدث عادة نتيجة غلق طريق الإصلاح التدريجي في إطار النظام الذي تندلع ضده. فالثورة ليست اختيارا، بل اضطرار. وهي، كأي عمل اضطراري، ليست مفضلة، ولا مرغوبة، وإلا كانت اختيارا، فالمرغوب دائما هو الإصلاح. وحين يستعصي تحقيقه، ويتوافر يقين في هذا الاستعصاء، تكون الثورة ملجأ أخيرا لقطاعات واسعة من الشعب، تجد نفسها في قلب الفعل الثوري، قبل أن تدرك طابعه. ويحدث ذلك نتيجة تراكمات مستمرة علي مدي فترات من الزمن، يبدو فيها سطح المجتمع ساكنا في الظاهر، بينما أعماقه تتحرك، وربما تغلي كما لو أنها بركان غضب يختمر تحت السطح، قبل أن ينفجر بشكل تلقائي علي نحو يحول دون توقعه.
فمن سمات الثورات الشعبية، في الأغلب الأعم، أن مقدماتها لا تسمح بتوقعها، إذ يبدو أن المجتمع تعود علي حالة استسلام طويل لهيمنة سلطوية طاغية. وتصعب في معظم الأحيان ملاحظة اختمار الثورات علي الطريقة البركانية في طبقات عميقة اجتماعية وسياسية من وجدان وعقول قطاعات أساسية من هذا الشعب أو ذاك. وإذا كان توقع نشوب هذه الثورات متعذرا، فمن الطبيعي ألا يكون من يجدون أنفسهم في قلبها مستعدين بخطة لليوم التالي لها، أو حتي برؤية عامة، بمن فيهم أولئك الذين حرثوا الأرض لها بنضالهم الديمقراطي والاجتماعي عبر سنوات أو عقود.
فالاحتجاجات التي تسبق نشوب الثورة، وتحدث التراكم الإيجابي التدريجي الذي ينهل من خزان المظالم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، لا تتضمن بطابعها ما يشير إلي مدي زمني معين يمكن أن يبلغ فيه هذا التراكم ذروته. ولا يعرف أنه بلغ هذا المبلغ إلا عندما يحدث، ويجد الناس أنفسهم في قلبه، فتكون هذه هي اللحظة التي ينطبق فيها القانون الطبيعي المجتمعي القائل إن التراكم الكمي يؤدي إلي تحول نوعي أو تغير كيفي.
ويبدأ المسار الثوري، علي هذا النحو، وكقاعدة عامة، باحتجاجات شعبية صغيرة، بل بالغة الصغر في بعض الأحيان، وتتطور بسرعات متفاوتة من حالة إلي أخري، وفقا لحجم التراكمات السلبية ونوعها. وكلما كانت هذه التراكمات أثقل، وأثرها علي فئات واسعة في المجتمع أكبر، كانت قوة الدفع المترتبة عليها أشد، واحتمالات العنف المدني فيها أعلي. فمن الملامح العامة للمسار الثوري في قاعدته العامة أنه يبدأ سلميا، ولكن العنف قد يتخلله بدرجات مختلفة في اندفاعاته الأولي. ورغم أن هذا العنف ينحصر بمعدلات سريعة، ولكنها متفاوتة أيضا، فهو قابل لأن يتجدد دفاعا عن الثورة، حين تبادر القوي المضادة لها باستخدامه، اعتقادا في أنها تستطيع إعادة عجلة التاريخ إلي الوراء، أو عندما تسعي إحدي القوي التي شاركت في الثورة، أو أرادت القفز عليها، للاستئثار بها، والانفراد بالسلطة.
ويعد التعثر في البداية من الملامح العامة للمسار الثوري، منذ جيله الأول في نهاية القرن الثامن عشر، وحتي جيله الأخير حتي الآن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ويبدو هذا التعثر من طبائع الأمور في ثورات تنفجر نتيجة غلق باب الإصلاح بدون خطة توجهها، وقيادة تقوم عليها. فثورات، هذا طابعها، تعتمد علي التجريب. وينطوي أي تجريب، بطابعه أيضا، علي أخطاء لا يمكن تفاديها في أي عمل يحدث للمرة الأولي، ولا يملك القائمون به خبرة سابقة فيه.
وبكثير من التبسيط، تبدو الثورة الشعبية مثل محاولة لمعالجة جسم مريض بواسطة من لم يدرسوا الطب، ويتمرسوا فيه. فالثورة تحدث بعد أن تتكالب الأمراض علي المجتمع (الجسد)، ويرفض من أمرضوه (حكامه) بطريقتهم في معاملته وسياساتهم التي جرفته، وأفقرته، وأضعفته، الإصلاحات اللازمة لمعالجته، أو يستهينون بحالته. ولذلك، تتدهور حالة هذا الجسد (المجتمع)، ويشتد عليه المرض.
غير أن الثوار الذين يتدافعون لإنقاذ المريض (المجتمع)، ويتمنون له صحة وافرة (الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية في حالة الثورات العربية) لا يعرفون في البداية الطريقة الملائمة لعلاجه، وهل يحتاج إلي أدوية أم لا؟، وما هي؟، أو جراحة؟ وما نوعها؟، فضلا عن أنهم يختلفون في هذا المجال ويتصارعون، فتزداد آلام هذا المريض (المجتمع) الناتجة عن أمراضه الأصلية التي لم يتسببوا فيها، بل تطوعوا لإنقاذه منها.
وعندئذ، تزداد فرص من أمرضوا المجتمع، أو بعضهم في العودة، مدعين أنهم هم الذين يستطيعون معالجته، الأمر الذي يجعل القوي المضادة للثورة، أو ما يسميه البعض “الثورة المضادة”، جزءا لا يتجزأ من ملامح أي مسار ثوري. وهم يعودون فعلا في معظم الحالات، سواء كانوا أشخاصا، أو سياسات، أو توجهات، إما عبر إعادة إنتاج الماضي، أو من خلال إضفاء شكل جديدNew Look عليه، كما يحدث في بعض بلاد الربيع العربي في الذكري الرابعة لثوراتها، أو ينجرف المجتمع إلي صدام عنيف يقود إلي حروب أهلية متفاوتة، كما في البعض الآخر من هذه البلاد.
2- لهذا يكون الارتداد مؤقتا:
في حالة إعادة إنتاج القديم، أو إلباسه شكلا جديدا، أو البقاء في إطار الصندوق القديم بوجه عام، تكون هذه مرحلة مؤقتة بطابعها. فالقادمون من الماضي لا يمكن أن ينجحوا فيما فشل فيه الحالمون بالمستقبل. ولو أن العائدين قادرون علي معالجة المريض (المجتمع)، ما كانت أمراضه قد تفاقمت تحت حكمهم أصلا، سواء بأشخاصهم، أو بمنهجهم القديم، أو لكانوا قد عالجوه قبل أن يهب غيرهم لإنقاذه. وقد يبدو في بداية عودتهم، في بعض الحالات، أنهم جاءوا بالعلاج الشافي هذه المرة. غير أن هذا العلاج يكون إما مسكنا لفترة تشتد بعدها الآلام أكثر، أو وهما يتخيله من أحبطهم فشل الثوار، فصاروا كمن يتعلق بقشة، قبل أن يجدوا أنفسهم غرقي مرة أخري.
ولذلك، يأتي بعدهم جيل آخر من الثوار الذين يسعون إلي معالجة المريض (المجتمع). وقد لا ينجحون هذه المرة أيضا، أو ربما يحققون نجاحا جزئيا لا يمنحهم الشرعية الكافية. وهكذا، يشهد المجتمع الذي تندلع فيه ثورة خطوات إلي الأمام، وأخري إلي الوراء، لأن هذه هي طبيعة الثورات الشعبية، وأحد ملامحها العامة، علي نحو يؤدي إلي عدم استقرار مصحوب باضطرابات متفاوتة من حالة إلي أخري، لسنوات أو لعقود، وفقا لظروف كل حالة.
وهذا هو ما نستخلصه من قراءة تاريخ الأجيال المتعاقبة من ثورات العالم. فقد استمر المسار الثوري متعرجا في فرنسا منذ 1789، وحتي 1870، حيث كانت الخطوات الارتدادية أكثر وأشد حدة، مقارنة بالخطوات التقدمية، إلي أن فتحت الثورة الطريق إلي التقدم باتجاه تحقيق أهدافها التي ظلت ممنوعة فعليا من الصرف معظم الوقت علي مدي نحو ثمانية عقود.
وكان اضطراب مسار تلك الثورة، وعنفها أيضا، أشد من أقصي ما يمكن أن يذهب إليه خيال من لم يقرءوا تاريخها في تفاصيله، واقتصرت معرفتهم بها علي أهدافها الرائعة، وأهمها الحرية والمواطنة (الإخاء)، والمساواة التي تحققت في النهاية. ولكن الطريق إلي إنجازها كان طويلا وصعبا، منذ أن بلغت مقدماتها مرحلة متقدمة في مطلع يوليو 1789، بعد تدهور طال أمده، وتسارعت معدلاته بشدة في العام السابق عليها، الأمر الذي جعل انفجارها نتيجة طبيعية لمقدمات قادت إليها علي النحو الذي تكرر بأشكال مختلفة في جميع الثورات الشعبية أو معظمها.
ولم تخرج هذه الثورات، علي مدي أكثر من قرنين، عن الملامح العامة للثورة الفرنسية التي اختلطت سلميتها بعنفها في بدايتها، عندما تدفقت جماهير غاضبة للتظاهر في ساحات وحدائق شتي، أبرزها حديقة “باليه رويال”، وممراتها التي كانت أهم مراكز التنزه فيها، واندفع آخرون لاقتحام سجون، أهمها سجن الباستيل الرهيب، وقلعته المحصنة بأسوار وصل ارتفاعها إلي ثلاثين مترا، وخندق مائي طوله 25 مترا.
ولكن إعلان وثيقة حقوق الإنسان والمواطن في 26 أغسطس 1789، التي ننظر إليها الآن بحسبانها نقطة تحول كبري في تاريخ العالم، لم يُحدث ذلك التحول في فرنسا نفسها إلا بعد عقود طويلة. فقد امتد الصراع بين الثورة والقوي المضادة لها في جولات متوالية، واختلطت الأوراق في مجري هذا الصراع مرات، كان أبرزها عندما دخلت الطبقة العاملة علي خطه، وفُرضت المسألة الطبقية عليه عبر جولة 1848 الثورية الكبري التي تزامنت مع إحدي عشرة ثورة أوروبية في العام نفسه.
وكانت الطبقة العاملة هي الفاعل الرئيسي في ذلك الجيل (الثاني) من الثورات الشعبية، إلي جانب الطبقة الوسطي التي لم تكن وحدها في مقدمة الصفوف، بخلاف ما ذهب إليه فوكوياما في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه. فما قاله فوكوياما ينطبق علي الجيل الأول للثورات الأوروبية أكثر من الجيل الثاني.
وأدت محاولة الشيوعيين استغلال دخول الطبقة العاملة علي خط الثورة للقفز عليها في فرنسا، وبضع دول أوروبية في ذلك العام (1848)، إلي نتائج لا تختلف في جوهرها عن تلك التي ترتبت علي استغلال قوي الإسلام السياسي تنظيماتها الحديدية، وشبكاتها الاجتماعية للقفز علي الثورات الشعبية العربية. ومثلما كان الجزر الثوري المترتب علي خلط الشيوعيين الأوراق في أوروبا مؤقتا، سيكون تراجع مد الثورات العربية بسبب قفز الإسلاميين عليها، ثم تنامي الإرهاب، وازدياد طلب الشعوب الخائفة علي الأمن مرحلة مؤقتة أيضا في طريق التحرر.
ويوضح هذا الملمح البسيط من ملامح الثورة الشعبية الأم، قبل قرنين وربع قرن، أن التعثر في البداية والمسار المتعرج، تقدما وتراجعا، أو صعودا وهبوطا، وعدم الاستقرار والاضطراب، هي ملامح عامة متكررة بأشكال مختلفة، وتفاصيل متفاوتة في مختلف الثورات منذ ذلك الوقت. وسيجد المتابع أشكالا عدة، وتفاصيل مختلفة لهذه الملامح منذ جيل الثورة الفرنسية الأولي الذي تركز في أوروبا، وحتي الجيل الراهن المتمركز في العالم العربي، مرورا بأربعة أجيال أخري لا يزال الجيل قبل الأخير فيها (جيل الثورات الملونة في العقد الماضي) مضطربا.
ولا يعد الصراع الدولي والإقليمي الذي خلط الأوراق في الثورة الأوكرانية حالة فريدة، أو ملمحا خاصا بهذه الثورة، فقد حدث مثله في قرينتها الجورجية، ولا يزال مستمرا، ولكن بدرجة أقل، نتيجة الأهمية الخاصة جدا لموقع أوكرانيا في الاستراتيجية الروسية.
والحال أن اختلاط أوراق خارجية بأخري داخلية هو ملمح آخر من ملامح الثورات الشعبية، منذ الثورة الفرنسية التي تشكل تحالف من الملكيات الأوروبية المحافظة لدعم القوي المضادة لها، وإعادة الملكية إلي فرنسا، وحتي الثورات العربية التي أثارت قلق دول في منطقتها.
ثانيا- موقع الثورات العربية في المسار الثوري العالمي:
لم تكن الثورات الشعبية العربية هي الأولي التي يستخدم تعبير “الربيع” للإشارة إليها، أو الدلالة عليها، فقد استخدم هذا التعبير لوصف الثورة التي اندلعت في تشيكوسلوفاكيا للمطالبة بالحرية، والخروج من وراء الستار الحديدي السوفيتي عام 1968، حيث أطلق عليها “ربيع براج”. واستخدم هذا التعبير منذ ذلك الوقت للدلالة علي أي تغير إيجابي يحدث أو يراد، وبـ “أثر رجعي”، في بعض الأحيان، للدلالة علي ثورات وانتفاضات سابقة.
وما هذا إلا تعبير مجازي لا يستحق المعركة التي يخوضها بعض أنصار القوي المضادة للثورات الشعبية العربية لحجبه عنها. فمن شأن التعبيرات المجازية أن أغوارها لا تُسبر، بخلاف المفاهيم العلمية. ولو أن تعبير الربيع أُخضع لدراسة موضوعية للسياق الذي يستخدم فيه، لظهر تناقض كامن في هذا التعبير الذي ينطوي، في الأغلب، علي معني اعتدال الطقس لوصف ثورات هي بطابعها عاصفة، كونها تهدف إلي تغيير جذري (راديكالي).
1- الثورة نتيجة لاستعصاء الإصلاح:
تبدو الدلالة المقصودة باستخدام تعبير الربيع أقرب إلي الإصلاح منه إلي الثورة. غير أنه، بطريقة أخري في التفكير، ربما يقل هذا التناقض من زاوية أن الثورة تمثل الملجأ الأخير، بعد إحباط كل محاولات الإصلاح، وغلق المنافذ، والسبل، والقنوات التي تؤدي إليه. وقد أشرت من قبل إلي أن الثورة، من حيث هي فعل استثنائي في التاريخ، ليست هي الطريق الأفضل إلي التغيير للأفضل. فالفعل الثوري هو اضطرار، وليس اختيارا. ولذلك، تنتفي الحاجة إليه حين يكون التطور في المجتمع طبيعيا، أو عندما تدرك السلطة القائمة أن هناك من الأخطاء والاختلالات ما يستدعي إصلاحا، أو تستجيب لمن ينبهونها إلي ذلك.
ولذلك، تبدو بلا معني أيضا المعركة التي يخوضها بعض أنصار القوي المضادة للثورات الشعبية العربية، سعيا إلي نفي كونها ثورات. فالثورة ليست عملا عظيما في ذاتها، وإلا ما كانت فعلا اضطراريا استثنائيا يحدث حين يوصد باب الإصلاح بشكل نهائي.
ولو أن هذا الباب كان مفتوحا، ما تداعت الاحتجاجات باتجاه الثورات بكل ما تنطوي عليه من اضطراب، وقلاقل، وانفلات الصراع في أشكال تختلف من حالة إلي أخري، وفقا لتاريخ كل مجتمع وتكوينه، ومستوي تطوره، ونسقه، أو أنساقه القيمية، وأنماط التفاعلات بين فئاته وغيرها. وكان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704) قد نبه إلي ذلك بشكل غير مباشر، قبل قرن كامل علي الثورة الفرنسية. ففي “رسالة في التسامح”، المنشورة طبعتها الأولي عام 1689، قبل وفاته بخمس سنوات، تطرق لوك إلي ضرورة أن يبذل الإنسان قصاري جهده للمحافظة علي السلام في المجتمع، وربط ضمان تحقيق ذلك بعدالة الحكم التي قد يلجأ الناس في غيابها إلي القوة، ووضع المسئولية في هذه الحالة علي الحاكم الذي يؤدي ظلمه إلي إلحاق الضرر بهذا السلام. ونقتبس من لوك: (ربما لا يتحمل كثير من الناس الصمت، بينما الحاكم يلحق الضرر بالسلام في المجتمع عندما يجعل كل شيء فيه صحراء مقفرة. إن هناك طريقين دائما، هما العدالة والقوة. ومن طبائع الأمور أن أحد الطريقين يبدأ حيث ينتهي الآخر).
وهذه قاعدة عامة تمثل قاسما مشتركا بين الثورات، منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتي بداية القرن الحادي والعشرين. فالمشترك في المسار الثوري العالمي هو أن الثورات لا تنشب إلا حين تُوصد أبواب الإصلاح، ويعم اليأس من إمكان فتحها، وتظن السلطات الحاكمة أنها امتلكت الأرض ومن عليها.
وقد حدث ذلك في الثورات الشعبية العربية التي تمثل الجيل الأخير في المسار الثوري العالمي حتي الآن، كما في مختلف الثورات، منذ الثورة الفرنسية التي افتتحت الجيل الأول في هذا المسار.
فقد أُغلقت أبواب الإصلاح في العالم العربي، حين أخذت الحاجة إليه تشتد في العقد الأخير في القرن الماضي. وكان هذا واضحا في مصر، كما في معظم بلاد العرب التي أصاب عددا متزايدا من المثقفين والمتخصصين في قضية التطور الديمقراطي في المنطقة والعالم يأس من إمكان أن يجد الإصلاح إليها سبيلا.
ولم يكن تعبير “الاستثناء العربي”، الذي عبر عن اعتقاد في أن البلاد العربية تمثل استثناء من موجات التطور الديمقراطي المتلاحقة في العالم، منذ سبعينيات القرن العشرين، إلا تعبيرا عن تردي أوضاع هذه البلاد، وبؤس أحوال شعوبها، وقلة حيلة دعاة الإصلاح فيها. فقد بذل بعضهم أقصي الجهد في تبيان أخطار غلق أبواب الإصلاح، وقدم عدد منهم تصورات متكاملة لتحقيقه بشكل تدريجي علي مدي فترة طويلة، من الزمن علي نحو يطمئن حكاما استعبدتهم كراسي السلطة، فاستعبدوا بدورهم الشعوب، وورث أحد من كان مفترضا أنهم رؤساء جمهوريات هذه السلطة إلي ابنه، في الوقت الذي كان فيه خمسة آخرون علي الأقل يستعدون لأن يفعلوا مثل ذلك، إن لم يكن لابن فلأخ، أو لزوج ابنة. وربما لم تكن مصادفة أن الثورات الشعبية اندلعت ضد أربعة من هؤلاء في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وآخر كان قد ورث السلطة بالفعل في سوريا.
ويذكر كاتب السطور أنه، وآخرين في مصر وهذه البلاد وغيرها، نبهوا منذ وقت مبكر إلي أخطار غلق أبواب الإصلاح. فقد ختمت -علي سبيل المثال- كتابي (التغيير طريق مصر إلي النهضة)، الصادر عن (دار مصر المحروسة) في صيف 2005 بالتنبيه إلي أن النار تحت الرماد: (لقد خلق الجمود السياسي، جنبا إلي جنب غلق أبواب الإصلاح، جمرا تحت الرماد بدأ يتأجج تدريجيا في السنوات الأولي من العقد الجاري. هذا الجمر يمكن أن يتقد، ويمكن أن يطفأ، وليس غير الإصلاح سبيلا لإطفائه).
وكثيرة كانت الأصوات التي تنبه إلي ذلك في مصر وبلاد عربية أخري، ولكنها وجدت آذانا صماء لدي حكام أعمتهم السلطة المطلقة، وأعوانا لهم استباحوا معهم حقوق الشعوب ومواردها، وليست فقط حرياتها. ولذلك، ظلت الاختلالات تتفاقم إلي أن انفجرت خمس ثورات شعبية في غضون أربعة أشهر بين ديسمبر 2010 ومارس 2011، بعد أن اتقد الجمر الذي تحدثت عنه في خاتمة كتابي الذي سبقت الإشارة إليه.
كان العفن قد استشري في سلطات الحكم، كما في المجتمعات التي جرفتها سياسات هذه السلطات، علي نحو زاد في ظله تعقيد الظروف التي انفجرت فيها الثورات، ولذلك سيكون مسار هذه الثورات العربية أكثر صعوبة من كثير من ثورات الأجيال السابقة عليها في العالم، رغم أن الملامح العامة لهذا المسار لا تختلف، سواء فيما مضي منه، أو فيما هو قادم فيه.
فقد بلغ ذلك العفن حينها مبلغا خطيرا تحدث عنه كاتب السطور أيضا في مقالته “عفن في الدولة”، المنشورة في صحيفة “المصري اليوم” في عددها الصادر في 3 نوفمبر .2004
فقد كتبت في هذا المقال: (لقد وُضعت مصر في “الفريزر” لفترة تجاوزت إمكانات جهاز التبريد في مقاومة البكتيريا، وفاقت قدرة النظام علي الاحتفاظ بصلاحيته. فانتشرت البكتيريا حاملة الميكروبات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وأدت إلي تعفن داخل “الفريزر”). وعندما يوضع أي شيء داخل “الفريزر”، وُيترك زمنا، فيتسلل العفن إليه وهو مجمد، يصبح شديد الهشاشة علي نحو يؤدي إلي تفتته، حين يخرج من هذا “الفريزر” دفعة واحدة، وبدون حذر في التعامل معه.
2- المسار المتعرج سمة ملازمة للثورات:
وهذا هو ما حدث، ويحدث، في البلاد العربية التي جمدت حتي تعفنت، ورفض من تركوها في هذا الوضع معالجته بحذر، من خلال إصلاح تدريجي، طرحتُ في تلك المقالة نفسها، وكتابات أخري، ضرورته، مؤكدا أن الأمل كان قائما في ذلك الوقت (عام 2004)، إذا بدأنا فيما سميته (حزمة متكاملة من الإصلاحات التدريجية، السياسية والاجتماعية، من خلال جدول زمني يتم الاتفاق عليه، والالتزام به. ولا يهم عندئذ المدي الزمني للتدرج، وما ينطوي عليه من مراحل. فليأخذ التدرج مداه كاملا دون استعجال، ولكن بشرط أن يحدث ذلك في إطار جدول زمني واضح ومحدد).
ولكن ما حدث في بعض البلاد العربية، التي بدا لوهلة -أو لوهم- أن سلطات الحكم فيها مستعدة لإصلاح غير واضح المعالم، هو أن التدهور لم يلبث أن تسارع. فقد تبين بسرعة فائقة أن ما بدا من استعداد لإصلاح كان وهما، كما حدث -علي سبيل المثال- في مصر بين الانتخابات البرلمانية عامي 2005 و.2010 فإذا كانت انتخابات 2005 قد أعطت مسحة أمل، مع ما سبقها من تعديل طريقة اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء إلي “الانتخاب”، رغم أنها أقيمت علي أساس صفقة أخري من الصفقات المتوالية بين سلطة الحكم وجماعة “الإخوان المسلمين”، فقد قضت انتخابات 2010 علي آخر خيط من أمل، وأحكمت غلق باب الإصلاح بشكل نهائي. فكانت الثورة نتيجة طبيعية، كما حدث في بلاد عربية أخري في هذا الجيل من الثورات الشعبية في العالم، كما في مختلف أجيالها السابقة.
وكان واضحا أن مسار الثورات العربية سيكون أصعب، مقارنة بمعظم ثورات الأجيال السابقة، لأن التجريف الذي تعرضت له المجتمعات كان مهولا، بسبب حدة الانقسام السياسي والمجتمعي، فضلا عن البيئة الإقليمية المضطربة، والتدخلات الأمريكية العمياء، الأمر الذي جعل الحروب الأهلية كامنة في مواقع قريبة من السطح السياسي في بعض البلاد العربية. ولذلك، سيطول المسار الذي خلقته الثورات العربية في البلاد التي نشبت فيها، وفي بلاد أخري لم تنفجر ثوراتها بعد.
وإذا كانت بلاد الجيل الأسبق للثورات العربية، أي تلك التي شهدت ثورات مخملية في وسط وشرق أوروبا في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، لا يزال معظمها متعثرا، وفي حالة عدم استقرار، رغم الدعم المالي، والاستثماري، والتكنولوجي، والمعرفي الهائل الذي تلقته من أمريكا والاتحاد الأوروبي، فما بالنا ببلاد الجيل الحالي للثورات العربية التي اندلعت في ظروف صعبة، زادتها أطماع قوي الإسلام السياسي صعوبة، ودفعها الإرهاب إلي الوراء بسرعة قياسية، ويفاقم التدخل الأمريكي الأعمي ضد هذا الإرهاب مشاكلها.
فلم يحقق أي من بلاد الجيل الأسبق أهدافه بعد ربع قرن، رغم أنها تحسب ضمن الأسعد حظا علي الإطلاق في تاريخ المسار الثوري الحديث في العالم. كما أن أكثر من نصف هذه البلاد لا يزال مساره متعرجا يتقدم خطوة، ويتراجع أخري، سواء في مجال بناء الديمقراطية، أو علي مستوي التقدم الاقتصادي، أو علي صعيد العدالة الاجتماعية.
فالمجر، علي سبيل المثال، تعود إلي الوراء مجددا هذه الأيام، بعد مراحل صعود وهبوط عدة. فقد أسفرت انتخاباتها البرلمانية الأخيرة في أبريل 2014 عن أغلبية كبيرة لحزب “فيد يسز”، أغرت زعيمه ورئيس الوزراء، فيكتور أوربان، بالشروع فورا في إقامة ديكتاتورية أغلبية ذات طابع غوغائي، خاصة بعد أن حصد الأغلبية أيضا في الانتخابات الأوروبية في مايو 2014، ثم في الانتخابات المحلية في بلاده في أكتوبر من العام نفسه. وكانت صدمة عنيفة للاتحاد الأوروبي، الذي صارت المجر ضمن أعضائه، عندما أفصح أوربان عن إعجابه الشديد بنماذج سياسية لا تختلف في جوهرها عن النظام الذي أسقطته الثورة قبل ربع قرن، مثل روسيا بوتين، وتركيا أردوغان، وفنزويلا شافيز.
كما أن بلغاريا، في مثال آخر، لا تكاد تخرج من أزمة حتي تلتهمها أخري أكبر وأكثر تعقيدا في بعض الحالات. ولذلك، لم تتوقف الاحتجاجات الشعبية فيها منذ 1989 إلا لتعود مجددا بعد بضع سنوات، وأحيانا بعد شهور في مسار مضطرب، لا يبدو أن الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في 5 أكتوبر 2014 (وهي الرابعة خلال سنتين) ستضع حدا له في وقت قريب.
ويبدو تاريخ المسار الثوري العالمي الذي يتسم بالتعرج والتذبذب تعبيرا عن حاجة المجتمع، كل مجتمع، إلي وقت لكي يتنامي الوعي فيه، أو ينضج، ويتنور بالمعني الذي تبناه الفيلسوف الألماني عمانويل كانط (1724 – 1804)، عمدة فلاسفة عصر التنوير في كتابه (رد علي سؤال ما هو التنوير)، الصادر عام .1784 فقد كتب قبيل أن تفتتح الثورة الفرنسية هذا المسار أنه (إذا كانت ثورة ما كافية لإنهاء اضطهاد يمارسه طاغية، فإن المجتمع لا يتنور ويتحرر إلا تدريجيا، وبشكل بطئ. فما لم يتعود الناس علي أن يفكروا بأنفسهم ولأنفسهم، فسيبقون كالدمي في أيدي حكام جدد يحلون محل الطاغية المخلوع. ولذلك، فالمهم هو ترسيخ الحرية التي تعد أكثر الحريات براءة، وهي حرية أن يعقل الإنسان الأمور في رأسه).
ثالثا- المسار الثوري والإرهاب والحروب الأهلية:
لا تمضي الثورة الشعبية، وفق القواعد المستخلصة من أجيالها المتوالية في العالم، علي مدي قرنين ونيف، في مسار تتحقق فيه بسهولة الأهداف التي منعها غلق أبواب الإصلاح، لأنه مسار اضطراري استثنائي.
وهذا مسار صعب بطابعه، ولكنه يبدو أكثر، وربما الأكثر، صعوبة في حالة ثورات الجيل الراهن العربية التي اندلعت في مرحلة تجمع بين تجريف مهول للمجتمعات، وتناقضات هائلة تراكمت تحت السطح فيها، وعوامل تعرية تؤدي إلي تفتيت بعضها، وتفكيك بعض آخر سياسيا، ودينيا، ومذهبيا، وعرقيا. كما تقع هذه الثورات بين مطرقة إرهاب خلقته عوامل عدة، في مقدمتها ممارسات سلطات الحكم التي أوصدت أبواب الإصلاح، وجرفت المجتمعات، وسندان تعثر عملية بناء الدولة الحديثة في البلاد العربية جميعها بدرجات متفاوتة.
وليس هناك مؤشر علي مدي صعوبة الظروف التي اندلعت فيها الثورات العربية أقوي من الأوضاع المعقدة التي اختصرت مرحلة المد الثوري الأولي، وأدخلتها في حالة جزر بسرعة قياسية، الأمر الذي أدي -ضمن ما ترتب عليه حتي الآن- إلي إعادة الروح للإرهاب الذي كانت هذه الثورات قد حاصرته، وحملت بشري انتهائه، بعد أن فقد أهم ذرائعه، وهي استحالة التغيير السلمي في بلاد بدت “استثناء” علي المستوي الدولي.
1- بين إحباط الثورات العربية وتنامي الإرهاب:
ولذلك، يصعب التفكير في مآلات المسار الثوري العربي في البلاد التي بدأ فيها، والبلاد التي سيجد طريقه إليها لاحقا، بمعزل عن المشهد العام في منطقة تموج بالاضطرابات المرتبطة بحروب أهلية عنيفة، وقابلة للتمدد، حيث بلغ اليمن مشارف الحالة المؤدية لها، عند كتابة هذه المقالة. وتقترن هذه الاضطرابات بإرهاب أعاد إليه الروح ارتداد المسار الثوري في معظم بلاده إلي الوراء بسرعة.
فالدلالة الأكثر بروزا لهذا الارتداد السريع، الذي لا يدرك كثيرون أنه مؤقت في مسار طويل، هي ما يبدو علي السطح، كما لو أنه إخفاق للتغيير السلمي أو فشله، باستثناء حالة تونس التي حققت تطورا أوليا باتجاه التداول علي السلطة. وتكمن أهمية هذا التطور الذي تحقق بصعوبة بالغة في دلالته علي إمكان انتقال تونس إلي مرحلة ثالثة في مسار ثورتها (بعد مرحلة المد الثوري، ثم مرحلة تراجع هذا المد، وتنامي الصراع العلماني – الإسلامي، وصعود القوي المضادة للثورة في ثنايا هذا الصراع)، إذا تأكد أن التداول الذي تحقق في انتخابات 2014 سيضع أساسا لممارسة ديمقراطية، ولن يؤدي إلي محاولة إقامة ديكتاتورية أغلبية جديدة.
غير أنه في كل الأحوال، يظل الوعي العام لدي الشعوب بتعرجات المسار الثوري، علي هذا النحو، محدودا. ويبقي الاعتقاد السائد هو أن الأوضاع ترتد إلي ما كانت عليه. ومن شأن هذا الاعتقاد أن يعيد إلي دعوة التغيير العنيف بوسائل الإرهاب حضورا كانت فقدته في اللحظة “الربيعية” الأولي. فقد حملت تلك اللحظة البشري بانحسار الإرهاب بمقدار ما انطوت علي أمل في نجاح التغيير السلمي، إلي حد أن قيادة تنظيم “القاعدة” بدت مستسلمة في أوائل عام 2011 لواقع جديد. فكان الاعتقاد قويا في أن الإرهاب عموما، وتنظيم “القاعدة” بصفة خاصة، دخل مرحلة العد العكسي بسبب افتقاده مبرر استمراره ومقوماته، عندما أصبح التغيير السلمي ممكنا.
فقد اعتمدت “القاعدة”، خاصة بين سبتمبر 2001، ونشوب ثورات الربيع العربي، علي ملء المواقع الإلكترونية المتعاطفة معها بكل ما يمكن أن يسلب لب شباب غاضبين أو يائسين، ودفعهم صوب الإرهاب. وكان مفترضا أن يقل استعداد هؤلاء الشباب للتفاعل مع تحريض “القاعدة” لهم، بعد أن اختلف المشهد في بلاد عربية عدة، وصار التغيير السلمي مخرجا من الإحباط والغضب اللذين استغلهما الإرهاب لتجنيد أنصار وأتباع. وازداد الاعتقاد في ذلك، عقب مقتل مؤسس “القاعدة”، أسامة بن لادن، في أول مايو .2011 غير أن هذا الاعتقاد كان قويا قبل موته إلي حد أن هناك من رأي أنه مات سياسيا، قبل أن يصفي جسديا.
وإذا كان لذلك الاعتقاد أساس، فثمة سند، من ثم، للقول إن صعود قوي الثورة المضادة في البلاد، التي حدث تغيير سلمي فيها عام 2011، يجعل دعوة العنف جاذبة لبعض الشباب الذي لامست أحلامه السماء في اللحظة “الربيعية” الأولي، قبل أن تحدث الاضطرابات. فلا يعرف إلا أقل القليل من هؤلاء الشباب أن تراجع الثورات، وصعود القوي المضادة لها ليسا إلا مرحلة في مسار طويل يشهد مدا وجزرا، فيما يعتقد أغلبهم أن الارتداد الذي حدث هو نهاية المطاف.
ولذلك، يمكن أن يؤدي الإحباط المترتب علي الاعتقاد في ديمومة هذا الارتداد إلي استعداد لدي بعض الشباب للجوء إلي العنف. كما أن إمعان بعض خصوم الثورات العربية، خاصة أكثرهم عداء لها، وفُجرا في الخصومة معها، في محاولة إنكار طابعها السلمي، يسهم -دون قصد منهم بطبيعة الحال- في دفع بعض الشباب المحبط نحو العنف. فهذا الإنكار ينطوي علي إسقاط الخط الفاصل بين ثورة سلمية، وعنف إرهابي، وبين الاحتجاج المدني، والعمل المسلح.
ومع ذلك، لم يخرج مسار الثورات العربية حتي الآن عن القواعد العامة التي تجمع هذا النوع من الثورات، في الأغلب الأعم، منذ الثورة الفرنسية عام .1789 فقد أحدثت الثورات العربية من الاضطراب ما هو معتاد ومتكرر، وإن اختلفت تفاصيله، وفق ظروف كل حالة. وهي تراوح الآن بين جديد يتعثر، وقديم يتشبث في وضع إقليمي صار مختلفا كثيرا عما كان عليه قبل أربع سنوات.
فما آلت إليه الثورات العربية حتي الآن ليس إلا بداية في مسار يتسم في هذا النوع من الثورات بالتذبذب والتعرج، حيث تتوالي خطوات إلي الأمام، وأخري إلي الوراء. ولذلك، يصبح الحكم عليها -أو علي معظمها- بالفشل، وهي في مرحلة أولي ضمن مسار ممتد، حكما قيميا محبوسا في سجن النظرة المحافظة الضيقة، أو مدفوعا بمصالح القوي المضادة لهذه الثورات، أو مزيجا من هذا وذاك.
فإذا عدنا إلي تاريخ هذا النوع من الثورات، فسنجد أن الاضطرابات التي تحدثها هي إحدي أهم خصائصها علي النحو الذي سبق شرحه في الجزء الأول من هذه المقالة. ولأن الاضطراب غير مرغوب، بطبيعة الحال، فهو يحكم علي الثورات التي تحدثه بالفشل دون إدراك عدم إمكان تجنبه في حالة التحريك الثوري لأوضاع تجمدت، وتيبست، وضربها العفن، حتي صارت شديدة الهشاشة.
ويطول عادة الاضطراب الذي تحدثه الثورة الشعبية، ويستمر في مرحلتها الثانية التي يبدو الأمر فيها كما لو أنها فشلت، حيث تصعد القوي المضادة لها، وتملأ الدنيا صخبا احتفاليا، أو انتقاميا، رغم ظهور ما يدل علي بعض ملامح الاستقرار في بداية هذه المرحلة (الثانية). غير أنه لا يمضي بعض الوقت الذي يتفاوت من حالة إلي أخري، حتي يتبين أن ما بدا أنه طريق إلي الاستقرار إنما هو مرحلة في طريق طويلة شاقة، يصل الاضطراب فيها إلي حد الفوضي في بعض الحالات.
غير أن هذه المرحلة (الثانية) ليست إلا تطورا طبيعيا في الأغلب الأعم. ومن الطبيعي أنه عندما يعم الاضطراب، فضلا عن حدوث الفوضي، يزداد الحنين في المجتمع إلي الأمن والاستقرار علي أي نحو يتحقق بهما، وبغض النظر عن إنجاز أهداف الثورة من عدمه. ولا غرابة في ذلك، لأن من يتطلع إلي حرية تتيح له أن يتنفس بدون رقيب أو جلاد، لا يتصور أن يتحقق ذلك علي حساب الأمن. وقد يكون الاضطراب دافعا إلي اعتقاد بعض من شاركوا في ثورة ما ضد سلطة ضاقوا ذرعا بها أن الأوضاع في ظل تلك السلطة كانت أفضل، أو أقل سوءا، مما آلت إليه في المرحلة الأولي للثورة.
ولذلك، فمن الطبيعي أن يحدث انتقال إلي مرحلة ثانية تتراجع فيها الأهداف التي تبنتها الثورة، سعيا إلي استقرار يتيح حل المشاكل القديمة المتراكمة، مضافا إليها تلك المترتبة علي اضطرابات المرحلة الأولي. ولكن الاستقرار الذي يصبح هو غاية المني، في بداية المرحلة الثانية، يظل بعيد المنال. فمن سمات هذه المرحلة إعطاء أولوية مطلقة، أو قصوي علي الأقل، لاستعادة الأمن. ويحدث ذلك في كثير من الحالات بطريقة فجة وفظة لا توفر المقومات اللازمة لعبور حالة الاضطراب والارتباك، بل يؤدي إلي تفاقمها، الأمر الذي يقود إلي مرحلة ثالثة، اختلفت ملامحها من حالة إلي أخري في تاريخ الثورات.
2- أهو المخاض الأخير قبل تفتح زهور الربيع؟
يصعب التكهن بما ستكون عليه المرحلة الثالثة في حالات الثورات العربية، ربما باستثناء حالة تونس، إذا لم ينتكس تطورها الديمقراطي مجددا. كما يتعذر التفكير فيما ستكون عليه هذه المرحلة بمعزل عن الحالة العامة في منطقة ينتشر فيها الإرهاب، وترتبط الأوضاع الداخلية في كل من بلادها بخيوط تفاعلات إقليمية، باتت أكثر تعقيدا من أي وقت مضي. فقد اختلطت المرحلة الثانية في ثورات “الربيع” العربي بانفجار حروب أهلية متفاوتة في حدتها، ومتنقلة من بلد إلي آخر، بالتزامن مع صعود الجيل الثالث من الإرهاب، الذي يعد تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف بالأحرف الأولي من اسمه السابق “داعش”، أبرز تنظيماته.
وتزداد صعوبة التكهن بما ستكون عليه المرحلة الثالثة في الربيع العربي، في ضوء احتمال نشوب ثورات في بلاد أخري، قبل أن تكمل البلاد التي بدأ فيها مرحلتها الثانية، أو مع دخول إحداها (تونس) مرحلة ثالثة، وفي ظل توقع امتداد الحروب الأهلية لسنوات طويلة، إن لم يكن لعقود.
ولنتخيل الوضع في العراق، والمدي الزمني الذي تستغرقه مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وما تقترن به هذه المواجهة من تفاعلات داخلية وإقليمية. فإذا افترضنا إمكان إلحاق هزيمة كبيرة بهذا التنظيم بعد سنوات، وهو افتراض محل نظر، أفلا يسهل تصور اندلاع حرب أكثر ضراوة بين القوات الكردية، التي تقوم بالدور الرئيسي في مواجهة “داعش”، وقد تسيطر علي قسم كبير من الموصل في حالة طرده منها، وقوات العشائر السنية، والميليشيات الشيعية، فضلا عن الحرب بين هذه الميليشيات، وتلك العشائر.
وليس متوقعا أن يكون الوضع في بلاد عربية أخري دخلت مرحلة الحرب الأهلية، وأخري مرشحة لبلوغها، أفضل كثيرا. ويتوقع خبراء غربيون أن تستغرق الحرب الأهلية في سوريا ما بين سبع وعشر سنوات، وفق النمط المعتاد لـ “الحروب غير المتماثلة”. وربما يكون هذا تقديرا متفائلا لا يحسب حساب الانقسامات المذهبية، والعرقية، وحالة الاضطراب التي تعم المنطقة.
وتعبر هذه الحالة عن فشل متراكم علي مدي عقود، ولم تحدثه الثورات، رغم أنها تخلق بطابعها اضطرابات متفاوتة. فيدل المشهد العام في المنطقة علي أن سلطات الحكم التي أعاقت بتسلطها، وفسادها، واحتكارها بناء الدولة هي أكثر هشاشة مما كان معتقدا، وأن مجتمعاتها لا تقل وهنا، وأن التطرف والتعصب، دينيا، ومذهبيا، وعرقيا، وسياسيا، وأيديولوجيا، هو أكثر ما تنتجه البيئة العربية، وما يدفع العالم إلي الاهتمام بها.
ولذلك، يرتبط مستقبل الثورات العربية بالتحولات الجارية في منطقة تشهد مزيجا من تمدد الإرهاب، وتوسع الحروب الأهلية، علي نحو يجعل هذه الثورات هي المصابيح الوحيدة التي يمكن أن تنير وسط ظلمة حالكة تخيم علي المنطقة، التي تبدو كما لو أنها تجمع ثلاث حقب تاريخية مختلفة تماما. فبينما تجعل الثورات جزءا من المشهد في المنطقة قريبا مما كان عليه جانب من الوضع في أوروبا، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحيلنا الحروب الأهلية إلي ما كانت عليه أوروبا أيضا، ولكن في النصف الأول من القرن السابع عشر، حيث حروب الثلاثين عاما الدينية والمذهبية (1618 – 1648)، في الوقت الذي تعود فيه مرجعية حروب منطقتنا الراهنة، في أحد أهم جوانبها، إلي النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي.
ولذلك، ستبقي ثورات التغيير من أجل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ما بدأ منها، وما سيبدأ لاحقا، هي مصدر الأمل في أن تكون مرحلة الآلام الرهيبة المقترنة بالحروب الأهلية، والإرهاب هي المخاض الأخير الذي تُولد عبره دول حديثة لم تعرفها منطقتنا بعد. فهل تدخل هذه المنطقة العصر الحديث عبر ذلك المخاض الذي قد تزداد أهواله، وتشتد آلامه لسنوات قادمة، يصعب تقدير عددها؟.
السؤال لا يزال صعبا، ولكن المشترك العام بين شعوب العالم هو أنها تصل في النهاية، بعد صراعات متفاوتة ينطوي بعضها علي حروب أهلية، إلي إدراك أنه لا سبيل أمامها إلا التعايش بين مكوناتها السياسية، والاجتماعية، والفكرية، من خلال نظام يجمعها، ويوفر لها الحرية، والكرامة، ويسعي إلي تحقيق العدالة. وهذا هو حلم ربيع العرب الذي يظل باقيا، رغم اشتداد صراعاتهم، وحروبهم الداخلية.
د. وحيد عبد المجيد
مجلة السياسة الدولية