على مدى السنوات القليلة الماضية، ظل أحد عناصر تكوين “داعش” يلوح بقوة في مخيلة الجمهور: قدرة التنظيم على استقطاب المقاتلين الأجانب. ويبدو أن هذا الانتباه كان منطقياً؛ فهناك شيء مرعب بشكل خاص في فكرة تحشيد إرهابيين قساة لا يرحمون من كل زوايا العالم لإهلاك السكان المحليين في العراق وسورية، ولمساعدة “داعش” على كسب المزيد من الأرض بسرعة كبيرة. كما شغل المقاتلون الأجانب أيضاً بال الحكومات الغربية التي وجدت نفسها في مواجهة احتمال عودة الجهاديين الذين عركهم القتال إلى الديار. أما الآن، بعد ثلاث سنوات من حرب “داعش”، فقد أصبح سلاحه الذي كان هائلاً ذات مرة يهدد بقطع اليد نفسها التي تطعمه؛ وأصبح المقاتلون الأجانب يتحولون سريعاً إلى واحدة من أكبر العقبات التي يواجهها التنظيم.
كان ينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية أن المقاتلين المحليين والمقاتلين الأجانب ينطوون على أهداف مختلفة. وكان موقف “داعش” الرسمي هو أن كل المقاتلين متساوين، لكن التوترات بين الجماعات لم تذهب دون أن يلاحظها أحد. ومع ذلك، ظلت الديناميات الداخلية للمجموعة مستقرة نسبياً لأنها كانت تحقق النجاح في ساحة المعركة وفي إنتاج النفط. أما الآن، بعد أن لم يعد “داعش” غنياً وقوياً كما كان ذات يوم، فإنه لم يعد قادراً على شراء ولاء الجميع. وقد تكوّن انقسام داخلي كبير في صفوف المجموعة مسبقاً، والذي يلحق ضرراً بالغاً بأدائها العسكري. وفي العراق وحده، خسر “داعش” كل المعارك الثلاث التي خاضها، إلى جانب فقدان السيطرة على بلدتين وأكثر من 30 قرية.
وفقاً لمقاتلي “داعش” المحليين، فإن المقاتلين الأجانب يسببون من المتاعب أكثر مما يفيدون في الواقع. وقد أسفرت عدم قدرة -أو عدم رغبة المقاتلين الأجانب في التعاون مع المقاتلين المحليين عن تكوين سباقات قاتلة من أجل المال والسلطة. وفي تموز (يوليو) 2015، على سبيل المثال، قام متشددون ألبان وروس من “داعش” بقتل ثلاثة مقاتلين محليين وجرح عدة مقاتلين آخرين في حقل علاس النفطي جنوب كركوك، وهو نقطة عبور لعمليات تهريب نفط “داعش”. وذكر مقاتلون محليون من “داعش” أن الجماعتين تقاتلتا بسبب خلاف حول الاستراتيجيات العسكرية المفترضة على خط الجبهة بالقرب من ناحية العلَم، وأن المقاتلين المحليين رفضوا إطاعة أوامر ضابط أجنبي. لكن السكان المحليين في المنطقة لا يقبلون بهذا التوصيف. ويعتقد معظم المحليين أن الصراع كان على نقود النفط. وقال مزهر عباس، من بلدة العباسية التي يسيطر عليها “داعش”، والذي كان يعمل سائقاً لشاحنة صهريج لنقل النفط في المنطقة: “إحدى المجموعتين، والمكونة من المتشددين العراقيين، باعت النفط لسائقي شاحنات الصهاريج الذاهبين إلى سورية عبر الموصل، وأخذت مجموعة أخرى رشاوى لجعل هؤلاء السائقين يذهبون، لكن المقاتلين الأجانب حاولوا وقف الشاحنات لإجراء تدقيق إضافي. لقد تقاتلوا فقط على المصالح التجارية”.
وفي حادثة أخرى، والتي وصل فيها النزاع بين المقاتلين الأجانب ونظرائهم المحليين فعلياً إلى محاكم “داعش”، ضغط المقاتلون الأجانب على القضاة لإصدار أحكام قاسية (مثل عقوبة الإعدام) في حق المقاتلين المحليين الذين يختلفون معهم.
كما أنه ليس سراً أن “داعش” مارس لفترة طويلة سياسة التمييز المؤسسي في مراتبه العسكرية: فقد اعتمد المركز الذي يشغله المقاتل في التنظيم الهرمي على جنسيته. وشغل الأميركيون والأوروبيون والشرق أوروبيون (بمن فيهم الروس والشيشان) مراكز إدارية متوسطة في مصانع العبوات الناسفة ومعسكرات التدريب والقواعد العسكرية على خطوط الجبهة؛ بينما تم استخدام المقاتلين “الصينيين” (أي القادمين من آسيا الوسطى) لتنفيذ العمليات الانتحارية بشكل أساسي. وتم تقسيم العرب الأصليين إلى مجموعتين -أولئك الذين يحتلون مراتب القيادة العليا، وأولئك الذين يشغلون أدنى المراتب الممكنة في الهرم.
دام هذا التسلسل الهرمي نحو سنتين، لكن معركتين وقعتا مؤخراً أفضتا إلى تغيير هذا الترتيب بشكل كبير. ففي المعارك التي جرت في سنجار والبشير، تمكن الجنود الأجانب من إقناع قيادة “داعش” بأنهم مؤهلون لتنظيم وقيادة القتال. (كانوا يدركون بالتأكيد أن من شأن ذلك أن يساعدهم في كسب المكانة العسكرية والحصول على غنائم الحرب -بما فيها النساء والسيارات والمواد الغذائية). ووافقت قيادة “داعش” على جعل الجنود الأجانب يديرون المعركتين، لكنهما لم تكونا أقل من كارثتين كاملتين.
يوم 10 نيسان (أبريل) 2016، عمد المقاتلون الأجانب (الروس، والقوقاز، والصينيون والشيشان)، والذين كان يفترض أن يقودوا القتال في البشير، إلى الهرب قبل أربع ساعات من دخول قوات البشمرغة وميليشيات الحشد الشعبي الشيعية إلى القرية. وترك هؤلاء المقاتلون الأجانب رفاقهم من المقاتلين المحليين بلا ذخيرة، ولا إمدادات، ولا أسلحة متقدمة يواجهون بها الهجوم البري. وكانت المعركة فشلاً ذريعاً –حيث قُتل العشرات من مقاتلي “داعش”، وفقد التنظيم أكثر من أربع قرى استراتيجية بالقرب من مدينة كركوك الغنية بالنفط.
وكانت المعركة في سنجار، التي قادها مقاتلو “داعش” الفرنسيون والروس والأميركيون، أكثر سوءا. فقبل أيام عدة من بدء المعركة، سرق أحد مقاتلي “داعش” الأوروبيين مبلغ 70.000 دولار واختفى، تاركاً بقية أفراد الميليشيا مع القليل من الذخيرة والإمدادات الغذائية وقوات الدعم الاحتياطية. ولم يصمد المقاتلون هناك يوماً واحداً. وقال أحد مقاتلي “داعش” المحليين، والذي كان يقود شاحنة صغيرة “بك-أب” خلال تلك المعركة: “إنهم (المقاتلون الأجانب) لم يخسروا سنجار؛ لقد باعوا سنجار بدلاً من الدفاع عنها”.
يعزز هذا السلوك الجبان للمقاتلين الأجانب الشكوك العميقة بين المقاتلين والسكان المدنيين المحليين، وقد أصبحت نظريات المؤامرة وفيرة. فقد اعتقد المقاتلون المحليون ذات مرة أن المقاتلين الغربيين كانوا مؤمنين حقيقيين، وعلى درجة عالية من الحِرفية، ومتعلمين حتى النخاع. لكن السكان المحليين أصبحوا ينظرون الآن إلى هؤلاء المقاتلين الأجانب كلصوص وبلطجية؛ والتفسير “العقلاني” الوحيد هو أن هؤلاء المقاتلين الأجانب يعملون في الحقيقة لدى حكوماتهم. ويشرح ضابط سابق في الجيش العراقي: “هناك الكثير من الإشاعات الدائرة في الحويجة، والتي تقول إن أعلام المقاتلين الأجانب تحتوي على مادة فسفورية تقوم بإرسال إشارات إلى طائرات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. ولذلك، لا تقوم هذه الطائرات بقصف القواعد التي يعملون فيها”.
في نهاية المطاف، كانت المعارك في البشير وسنجار عذراً مثالياً حتى يشرع المقاتلون المحليون في استعادة المناصب الإدارية والعسكرية الحساسة في الخطوط الأمامية في محافظة نينوى (بما فيها الموصل). لكن المقاتلين الأجانب لم يكونوا على استعداد للتخلي عن هذه المناصب. وفي آب (أغسطس)، أفضى نزاع بين جماعات محلية ومجموعة فرنسية من مقاتلي “داعش”، والتى أرادت كل منها تولي إدارة المكاتب الإدارية في منطقة باب الطوب، إلى تبادل لإطلاق النار في سوق مزدحم في الموصل.
في النهاية، أضفى قادة “داعش” الاستقرار على الوضع في العراق عن طريق إزالة المقاتلين الأجانب تماماً من المناصب الإدارية والسياسية، وتحويلهم إلى الأعمال المتصلة بالاستخبارات، ومصانع العبوات الناسفة، والمهام الفنية. وفي بعض المناطق، لجأوا حتى إلى إسكان المقاتلين الأجانب في القرى الريفية البعيدة من أجل الإبقاء على تفاعلهم مع السكان المحليين في أدنى حد ممكن. وفي الرد على ذلك، لجأ المقاتلون الأجانب المحرومون من الامتيازات إلى تنفيذ أعمال صغيرة من التخريب. وفي أيلول (سبتمبر)، قام عضو سعودي من “داعش” بتفكيك نفق رئيسي كان يصل وسط بلدة الشرقاط بمنطقة شقرة. وكان ذلك النفق طريقاً لهروب مسلحي “داعش”، لكنه دمره بعد أن عبر منه هو نفسه، جاعلاً من الهوة بين الأجانب والمحليين أكثر اتساعاً.
ليست المنافسة على السلطة بين المحليين والمهاجرين شيئاً جديداً في الشرق الأوسط. فعندما توفي النبي محمد في العام 632 الميلادي، شرع المحاربون المسلمون من مكة والسكان المحليون من المدينة في التصارع على قيادة الدولة الإسلامية الناشئة حديثاً. وفي نهاية المطاف، فرض المقاتلون الأجانب من مكة إرادتهم وعينوا أبا بكر الصديق خليفة.
وعلى الرغم من أن التاريخ ربما يخدم اليوم في إلهام المقاتلين الأجانب وتحفيزهم، يبدو أن الصراع الراهن سيتكشف عن شيء مختلف تماماً. فعلى الأرجح، سوف يستمر المقاتلون الأجانب في فقدان السلطة. وبينما ينحدرون بمستوى القتال، فإنهم سيأخذون “الدولة الإسلامية” معهم في ذلك الطريق.
فيرا مونوروفا
صحيفة الغد