منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدا واضحاً أنّ عملية طوفان الأقصى ستغيّر المشهد السياسيّ والعسكريّ في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها، وستستمرّ في التفاعل إلى سنوات عديدة مقبلة، تاركةً تداعياتٍ كبرى على مستقبل القضية الفلسطينية، وعلى الصراع الدائر على المشرق العربي وأمن منطقة الخليج والممرات المائية ومكانة العرب، وعلى تركيا، وعلى إيران وإسرائيل في الإقليم وطبيعة التفاعل بينهما، وعلى الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والعلاقة مع القوى الكبرى، وعلى دور التكنولوجيا وتغيّر طبيعة الحرب والتداعيات على الرأي العام العالمي والموقف من إسرائيل. وأخيراً، تأثير الحرب على منظومة القيم والأعراف والقوانين الدولية. كلّ هذه القضايا، وغيرها، ستكون مادّة للبحث والدراسة خلال الأشهر والسنوات القادمة. لكنّ الموضوع الذي يطرح نفسه حالياً بقوّة، بوصفه أحد أبرز تداعيات الحرب على غزّة، هو التغيير الكبير الذي طرأ على علاقة إيران بإسرائيل منذ 7 أكتوبر، واحتمال انتقال حرب الظلّ بينهما إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ، خاصة بعد الهجمات الواسعة التي شنّتها إسرائيل في أسبوع على أهداف إيرانية أو مرتبطة بها في سورية: دير الزور وريفها (26 مارس/ آذار)، وشرق حلب (29 مارس)، وأخيراً الهجوم المدوّي على القنصلية الإيرانية في دمشق (1 إبريل/ نيسان).
خلال عقد (2013-2023)، شنّت إسرائيل مئات الهجمات (جوية في معظمها) داخل الأراضي السورية، مستفيدة من حالة الفوضى فيها لمنع نقل أسلحة من إيران إلى حزب الله، تعتبرها إسرائيل كاسرةً للتوازن. ومنذ سبتمبر/ أيلول 2015، جرى التوصل إلى صيغة تحكم هذه الهجمات بين روسيا وإسرائيل، مفادها عدم تدخّل إسرائيل في الحرب في سورية بين النظام والمعارضة، في مقابل إطلاق يدها ضد شحنات الأسلحة الإيرانية المتّجهة إلى حزب الله. على الهامش، جرى التوصّل إلى تفاهم آخر بين إسرائيل وحزب الله، التزم به الطرفان إلى حد كبير حتى 7 أكتوبر، مفاده تحييد لبنان عن الصراع في سورية، وامتناع إسرائيل عن استهداف عناصر حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سورية، باعتبار أنّ وجودهم هناك لا يستهدف إسرائيل، بل قوات المعارضة السورية. الخرق الوحيد بهذا الشأن حصل عام 2015 عندما قتلت إسرائيل جهاد مغنيّة (نجل القيادي السابق في حزب الله عماد مغنيّة) وخمسة من رفاقه نتيجة وجودهما في منطقة حدودية قريبة من الجولان السوريّ المحتلّ، وردّ حزب الله يومها باستهداف دورية إسرائيلية على الحدود مع لبنان أسفرت عن قتل جنديين، وطويت الصفحة.
بعد 7 أكتوبر انهارت كلّ هذه التفاهمات، إذ لم تعد إسرائيل تُطْلِعُ روسيا على هجماتها في سورية قبل وقوعها بوقتٍ كافٍ، بل صارت تفعل ذلك في طريق العودة، كما أطلقت إسرائيل العنان لأجهزتها الأمنية والعسكرية لاستهداف ضبّاط الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، والمليشيات الحليفة على امتداد الأراضي السورية. وقد تكاثفت هذه الهجمات، خلال الأسبوع الماضي، وفق تقديرات إسرائيلية مفادها إخراج إيران من مخبئها، ووضع حدّ لحرب الوكالة التي تمارسها باستخدام المليشيات التي تتمترس وراءها، بحيث تُلحق أضراراً بخصومها من دون أن تتكبّد هي أي خسائر. يبدو هذا الأمر أنّه انتهى الآن. وكانت واشنطن أوّل من دفع نحو مقاربة تحميل إيران مسؤولية تصرّفات حلفائها عندما قتلت قاسم سليماني في مطار بغداد عام 2020، لكن إسرائيل رفضت الانضمام إليها حينها التزاماً منها بتفاهماتها مع حزب الله، وهو ما كشف عنه الرئيس ترامب أخيراً. في هذا السياق، جاء استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل قائد عمليات فيلق القدس في سورية ولبنان ونائبه، ردّاً على سقوط طائرة مسيّرة في القاعدة البحرية في إيلات، انطلقت على الأرجح من العراق. استهداف إيران بشكل مباشر قد يدفعها، كما تعتقد إسرائيل، إلى ضبط هجمات حلفائها في سورية ولبنان، كما فعلتْ في العراق إثر الهجوم الأميركي الواسع عقب استهداف قاعدة البرج 22 في الأردن، في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. هذا يعني أنّ إيران باتت أمام خيارين أحلاهما مرّ: السكوت والانكفاء أو الردّ والمواجهة، وفي كليهما انتحارٌ لها، ما يُفسّر تَحفّظ المرشد الإيراني على “طوفان الأقصى” وعدم حماسته لها.