بعد أن تم مؤخراً تحرير مدينتي منبج وجرابلس السوريتين من قبضة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، بدأ المراقبون يركزون على الباب، التي تشكل آخر مدينة كبرى تقع تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» غربي الرقة، التي أعلنها التنظيم عاصمة لدولته. يُذكر أن عدة جهات تتمركز ضمن نطاق قريب من المدينة، وبالتالي، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا من التي ستحاول الاستيلاء عليها أولاً؟ وفقاً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يجب على المتمردين السوريين تحرير الباب بمساعدة الجيش التركي الذي دخل بالفعل الأراضي السورية وهو على بعد ثلاثين كيلومتراً فقط عن المدينة. بيد أن التطورات العسكرية على الأرض تشير إلى سيناريو مختلف. ففي 3 تشرين الأول/ أكتوبر، استولت «قوّات سوريا الديمقراطية» [أو «القوى الديمقراطية السورية»] التي يسيطر عليها الأكراد على بلدة العريمة، معقل تنظيم «داعش» على الطريق من منبج، على بعد عشرين كيلومتراً فقط شرقي الباب، في حين تقدمت وحدات أخرى من «قوّات سوريا الديمقراطية» إلى مسافة عشرين كيلومتراً غرب المدينة. وفي الوقت نفسه، يتمركز الجيش السوري على بعد عشرة كيلومترات فقط جنوب المدينة.
انقر على الخريطة للحصول على نسخة عالية الدقة.
الباب أثناء الحرب
في عام 2011، كان حوالي 100 ألف شخص يعيشون في منطقة الباب. كما أن المدينة لم تعانِ من الكثير من العمليات القتالية خلال الحرب، مما جعلها وجهة جيدة للاجئين من مناطق أخرى من محافظة حلب. أما اليوم، فغالبية سكانها من العرب السنة مع أقلية كردية. وكما هو الحال في معظم الأجزاء الأخرى من المحافظة، خرج الموظفون الإداريون التابعون لنظام الأسد وقوات الشرطة فيه من المدينة في ربيع عام 2012 واستولت عليها قوات المتمردين. وفي كانون الثاني/ يناير 2014، استولى تنظيم «الدولة الإسلامية» على الباب وهو يسيطر على المدينة منذ ذلك الحين.
نظراً إلى تاريخ المدينة ما قبل الحرب، قد يتعاطف جزء كبير من السكان أيضاً مع العقيدة المتطرفة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». على سبيل المثال، ابتداءً من عام 2003، توجه العديد من الشباب من مدينة الباب إلى العراق لقتال القوات الأمريكية. وفي الآونة الأخيرة، واجه التنظيم معارضة محلية في الباب أقل من تلك التي واجهها في منبج، حيث أثارت الاحتجاجات ضد جهود التنظيم للتجنيد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 حلقة من التمرد والقمع الشديدين.
وفي الوقت نفسه، لا يبدو تنظيم «الدولة الإسلامية» ملتزماً بشكل خاص بإبقاء قبضته محكمة على مدينة الباب. فبعد سلسلة من الهزائم التي لحقت به على الحدود التركية وفي منبج، فقدت الباب جزءاً كبيراً من أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للتنظيم، كما بدأت مصادر الأخبار، مثل وكالة “آرانيوز”، تنقل بعض التقارير حول خروج عائلات مقاتلي تنظيم «داعش» وتوجههم إلى الرقة، إلى جانب الشرطة المحلية للتنظيم ومعسكراته التدريبية ومستودعات الإمدادات العسكرية ومحكمته الشرعية. ويبدو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يركز الآن على الدفاع عن الرقة ووادي الفرات، لا سيما في ضوء حملة التحالف الوشيكة وفقاً لبعض التقارير، ضد مدينة الموصل – آخر معقل عراقي رئيسي للتنظيم.
الجيش السوري هو الأقرب
منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عندما استعادت قوات جيش نظام الأسد مطار كويرس العسكري، أصبحت على بعد عشرة كيلومترات فقط جنوب مدينة الباب. وقد شن النظام غارات جوية على المدينة وعلى المواقع المحلية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكنه لم يحاول السيطرة عليها. بيد، بينما تتجلى الأولوية الأولى للجيش السوري في استعادة مدينة حلب، قد يكون قادراً في الوقت نفسه على التقدم باتجاه مدينة الباب. وما بين كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس، استولى الجيش على المنطقة الواقعة بين حلب وكويرس، وأغلق في الوقت ذاته ممر أعزاز الواقع شمال حلب بمساعدة الميليشيات الشيعية والقوات الكردية (ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كان الأكراد ينسقون مباشرة مع النظام بأي شكل من الأشكال أو مجرد يقاتلون عدو مشترك، ولكن النتائج من هجماتهم المتزامنة واضحة). ومنذ آب/ أغسطس وصل آلاف المقاتلين الإضافيين من الشيعة إلى حلب لمساعدة الجيش على استعادة السيطرة على المدينة بأكملها. بالإضافة إلى ذلك، وفي 21 أيلول/سبتمبر، أعلن “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الموالي للمعارضة وشبكة “المصدر” الإخبارية الموالية للنظام أن حوالي 3000 مجند روسي يتواجدون في مدينة السفيرة جنوب شرقي حلب، على الرغم من عدم تأكيد تلك الادعاءات منذ ذلك الحين.
وثمة مصلحة مؤكدة للنظام وحلفائه في السيطرة على الباب قبل قيام المتمردين الذين تدعمهم تركيا في السيطرة على المدينة. وعلى الرغم من أن المسؤولين العسكريين السوريين والأتراك قد اجتمعوا الشهر الماضي في بغداد وتوصلوا إلى “تفاهم” حول الدور التركي شمال حلب، إلا أن دمشق وأنقرة لا تزالان تتنافسان في ما يتعلق بالمصير العام لشمال سوريا. وإذا ما استولى المتمردون على مدينة الباب، فإنهم لن يشكلوا تهديداً لحلب فحسب، بل يمكنهم أيضاً انتهاز فرصة تراجع تنظيم «الدولة الإسلامية» للتقدم نحو الرقة وأجزاء أخرى من وادي الفرات. ومن الناحية الرمزية، إن السماح للثوار بالسيطرة على الباب بينما يتمركز الجيش على بعد بضعة كيلومترات فقط، يعتبر علامة على الضعف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تقع المدينة في قبضة النظام بسهولة نسبية، كما حدث في تدمر عندما تخلت قوات تنظيم «داعش» بشكل أساسي عن المدينة قبل فترة وجيزة من تطويق الجيش لها.
وبدلاً من ذلك، قد يسمح النظام لـ «قوّات سوريا الديمقراطية» بالسيطرة على الباب، نظراً إلى التسوية المؤقتة المستمرة ولكن الهشة، التي توصلوا إليها منذ بعض الوقت. إذ يمكن لممر صغير، أي ممر كردي واقعياً، تسيطر عليه هذه القوات يمتد من منبج إلى الباب وإلى عفرين أن يكون بمثابة حاجز دفاعي شمالي حلب، وربما يردع المتمردين الموالين لتركيا عن مهاجمة الجيش. كما قد يعتقد النظام أنه لا يمكنه السيطرة على مدينة الباب بسهولة لأن الأغلبية العربية السنية المحلية ستعتبر الجيش وقوات الميليشيا المرتبطة به كعبارة عن محتلين شيعة. وفي المقابل، فإن مزيج المقاتلين العرب السنة والأكراد الذي يشكلون «قوّات سوريا الديمقراطية» ربما يكون أكثر قبولاً [من قبل السكان]. وفي إطار هذا السيناريو، لا يمكن استبعاد إمكانية قيام روسيا بتقديم الدعم الجوي الذي تحتاجه «قوّات سوريا الديمقراطية»، المسلحة من قبل الولايات المتحدة من أجل التقدم نحو مدينة الباب. وعلى كل حال، إن تسهيل إنشاء ممر كردي يمكن أن يمنع المتمردين العرب الذين تدعمهم تركيا من تحقيق المزيد من التقدم في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبالتالي التقليل من الحافز الذي يدفع بواشنطن إلى دعمهم.
“درع الفرات”
ابتداءً من آب/ أغسطس، قام تحالف من المتمردين العرب باسم “درع الفرات” بالسيطرة بسرعة على جرابلس وغيرها من المناطق الحدودية بمساعدة الجيش التركي، ثم تقدم نحو الجنوب ببطء وحذر. وقامت هذه المجموعة الرئيسية بتحرير قرى التركمان بسهولة، ولكنها واجهت المزيد من الصعوبات عند محاولتها تحرير القرى العربية. أولاً، لا يتجاوز عدد قواتها 1000 إلى 1500 مقاتل. ثانياً، بصرف النظر عن وحدة تركمانية واحدة (“لواء السلطان مراد”)، فإن معظم مقاتلي التحالف هم من العرب من محافظة إدلب غرباً، لذلك لا يتمتعون بأي صلات حقيقية مع السكان العرب المحليين. وفي المقابل، قام تنظيم «الدولة الإسلامية» بتجنيد المقاتلين المحليين وتلقينهم منذ عام 2013، ويحرص الكثير منهم حالياً على القتال لإنقاذ أراضيهم وتجنب الأعمال الانتقامية الدموية المحتملة من فصائل المتمردين الإسلامية.
إلى جانب ذلك، لا يمكن لـ “درع الفرات” أن يتقدم من دون مساعدة المدفعية والدعم الجوي من تركيا، ومن غير الواضح مدى استعداد أنقرة للمضي قدماً في هذا الصدد. فمن جهة، ادّعى أردوغان في الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي أن الجماعة ستسيطر على أراضي تصل مساحتها الإجمالية إلى حوالي 5000 كيلومتر مربع (أو 2000 ميل مربع)، أي خمسة أضعاف المساحة التي تسيطر عليها حالياً، الأمر الذي من المفترض أن يعني أنها ستسيطر على مدينة الباب. ومن شأن التقدم نحو المدينة أن يعرقل الجهود الكردية الرامية إلى الجمع ما بين مقاطعة عفرين الغربية ومقاطعة كوباني الشرقية الواقعتان تحت سيطرتهما ضمن منطقة موحدة على طول الحدود التركية بأكملها. وفي الواقع، يبدو أن الهدف الرئيسي للرئيس التركي من دخول سوريا يكمن في منع تبلور هذه النتيجة.
ومن جهة أخرى، أشار بعض المسؤولين الأتراك سراً إلى أن أنقرة قد لا ترغب في إرسال قوات إلى عمق سوريا، وذلك ربما لأن أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفقا على ما يبدو على بعض الخطوط الحمراء الضمنية حول الحدود التي سيصل إليها كل منهما في الشأن السوري. ويبدو من غير المرجح أن يكون بوتين سعيداً من الوجود التركي داخل الباب بحيث تكون قوات تلك البلاد قريبة جداً من حلب، التي تلتزم القوات الروسية بشدة باستعادة السيطرة عليها. كما تشكل مدينة الباب الفرصة الأفضل لموسكو للاستفادة من تركيا و«قوّات سوريا الديمقراطية».
الأهداف الكردية
ما زال «حزب الاتحاد الديمقراطي» السوري الكردي، الذي يهيمن على «قوّات سوريا الديمقراطية»، يأمل بتوحيد مقاطعاته الحدودية وتحويلها إلى دويلة أعلنها بنفسه تحت اسم كردستان السورية (روج آفا). ووفقاً لذلك، يتقدم مقاتلو «قوّات سوريا الديمقراطية» باتجاه مدينة الباب من جانبين. في 3 تشرين الأول/ أكتوبر، تقدم هؤلاء 20 كيلومتراً غرب المدينة، وهي أول خطوة يقومون بها في هذا الاتجاه منذ تدخل تركيا في آب/ أغسطس. وإلى الشرق، تقدمت وحدات «قوّات سوريا الديمقراطية» من عفرين على مسافة مماثلة في هجوم معزز من قبل عمليات النظام والعمليات الروسية، كما حدث عندما استولى الأكراد على ممر أعزاز في شباط/ فبراير و”طريق الكاستيلو” في تموز/ يوليو.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أشار وفد من «حزب الاتحاد الديمقراطي» كان يزور واشنطن إلى أن روسيا اقترحت الاعتراف بكردستان السورية ودعم الجهود الكردية لجمع كوباني وعفرين. إن ما أراده الوفد فعلاً هو الحصول على وعد مماثل من الولايات المتحدة، إلى جانب زيادة الدعم العسكري الأمريكي. وبعد ذلك، دعمت القوات الأمريكية الهجوم الذي شُنّ على منبج بقيادة كردية، وهو ما اعتبره «حزب الاتحاد الديمقراطي» بمثابة قبول أمريكي بكردستان سورية موحدة. بيد، عندما زار نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن تركيا في آب/ أغسطس هذا العام، صرّح بأن دعم واشنطن لذلك الهجوم كان مشروطاً بقيام عناصر «قوّات سوريا الديمقراطية» الكردية بتسليم مدينة منبج إلى حلفائها العرب بعد تحريرها ومن ثم مغادرة المدينة. وعلى الرغم من أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» لم يُصدر أي بيانات علنية رداً على ذلك، إلا أن تصريحات بايدن أغضبته إلى حد كبير، ولن تؤدي سوى إلى زيادة احتمالات انجذابه إلى بوتين.
حسابات تنظيم «الدولة الإسلامية»
كما ذُكر سابقاً، قد يكون من مصلحة أبو بكر البغدادي، الذي نصب نفسه “خليفة” على تنظيم «الدولة الإسلامية» التخلي عن مدينة الباب من أجل تركيز قواته حول الرقة، بما أنه يعلم بأن إبقاء سيطرته على الأراضي قائماً على التناقضات بين أعدائه. وبالنسبة إلى بعض هؤلاء الأعداء، يمكن القول أن استمرار سيطرة التنظيم على الرقة يخدم مصالحهم على المدى القريب: إذ يعطي «حزب الاتحاد الديمقراطي» مداخيل استراتيجية لتعزيز هدفه المتمثل في إقامة كردستان سورية موحدة، كما يساعد على استمرار نظام الأسد في تصويره للحرب على أنها معركة ضد الإرهابيين.
وعلى أقل تقدير، إذا كان لا بد من سقوط مدينة الباب، فسيكون من مصلحة البغدادي أن يسيطر الجيش السوري و/أو «قوّات سوريا الديمقراطية» على المدينة بدلاً من سيطرة المتمردين عليها. فالجيش أضعف من أن يشن حملة شرقاً على وادي الفرات في أي وقت قريب. كما تكمن أولى أولوياته في القضاء على المتمردين (أعداء تنظيم «الدولة الإسلامية») من غرب سوريا. أما بالنسبة لـ «قوّات سوريا الديمقراطية»، فإنها ستكون أكثر انشغالاً بالدفاع عن ممر عفرين- كوباني من [حصار] تركيا من انشغالها في السيطرة على الرقة، المدينة التي لا تتمتع هذه القوات بأي مصلحة في الاستيلاء عليها.
الخاتمة
منذ عام 2011، قلل معظم المحللين الغربيين (والروس) من أهمية دعم إيران وموسكو لدمشق وصمود نظام الأسد، بقولهم أن النقص في الطاقة البشرية في الجيش السوري قد يشكل عائقاً لا يمكن التغلب عليه. ومع ذلك، يبدو من جديد أن النظام وحلفاءه أقوياء بما يكفي لشن المزيد من العمليات الهجومية، من بينها عملية على مدينة الباب. كما يبدو حصارهم على حلب على وشك تحقيق النجاح نظراً للانهيار الذي شهدته مؤخراً محادثات وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وروسيا؛ لذلك، قد يتم قريباً تخصيص المزيد من الجنود لمثل هذه الهجمات. ويقيناً، أن مدن مثل حماة ودمشق لا تزال تواجه تهديدات من قبل المتمردين، إلا أن الخطر يكمن على الأرجح في عدم كون الوضع فيها ملحاً بما يكفي لجذب قوات ضخمة بعيداً عن الشمال على المدى القريب. وإذا لم يكن الجيش وحلفاؤه الشيعة أقوياء بما فيه الكفاية لاستعادة السيطرة على الباب، فربما يتم رغم ذلك تحقيق مصالح الأسد وبوتين من خلال السماح لـ «قوّات سوريا الديمقراطية» بالاستيلاء على المدينة أو حتى مساعدتها على القيام بذلك. وهذه السيناريوهات تترك واشنطن مع خيارين بديلين بارزين: دعم تقدم «قوّات سوريا الديمقراطية» في مدينة الباب والمخاطرة باستعداء الأتراك، أو الضغط من أجل شن هجوم قوي من قبل متمردين تدعمهم تركيا من أجل السيطرة على المدينة بسرعة، الأمر الذي يمكن أن يضر بالعلاقات مع الأكراد – الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في مكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية» حتى الآن.
فابريس بالونش
معهد واشنطن