كان التدخل الأميركي المشؤوم في الحرب الأهلية اللبنانية هو المتسبب في صعود الإرهاب الإسلامي. والآن، بعد مرور 34 عاماً، ما يزال ذلك التدخل يقدم درساً حول سياسات الولايات المتحدة الفاشلة في الشرق الأوسط.
* * *
بدا الأمر كله سهلاً جداً في ذلك الوقت. وعندما هبط مشاة البحرية الأميركية في بيروت قبل 34 عاماً في أيلول (سبتمبر)، فقد جاؤوا، بعبارات قائدهم، “لمساعدة أصدقائنا اللبنانيين”. لكن المشكلة كانت أن الأصدقاء يمكن أن يكونوا متقلبين. وقد رأت إدارة ريغان قبعات بيضاء وقبعات سوداء في لبنان، بينما كانت كلها في الحقيقة ظلالاً من الرمادي.
بالمصادفة، كان رجل اسمه ريغان أول ضحية أميركية في لبنان. فقد قتل العريف ديفيد ل. ريغان، من منطقة شيزابيك في فرجينيا، بعمر 21 عاماً فقط، وهو يقوم بإزالة مخلفات الغزو الإسرائيلي للبنان، والذي حصد أرواح ما لا يقل عن 10.000 إنسان.
وقال لاري سبيكس، المتحدث باسم البيت الأبيض، للصحفيين بعد الواقعة: “إنه توقعنا أن لا يصبح جماعتنا متورطين في أي أعمال قتالية هو الذي أسفر عن خسارة الأرواح”. وبحلول وقت انسحاب قوات البحرية الأميركية مهانة بعد 17 شهراً لاحقاً، كان 264 جندياً أميركياً، و15 دبلوماسيا وعاملاً في وكالة الاستخبارات المركزية قد قتلوا؛ لقد خاضت الولايات المتحدة حرباً فعلياً، وخسرت. وبدلاً من صخب الغوغاء على طريقة حادثة بنغازي، أجرى الكونغرس تحقيقاً متعقلاً ومدروساً، وأصدر في النهاية مجموعة من التوصيات لتجنب حدوث مثل هذه الكوارث في المستقبل. لكن ذلك كان قبل حقبة الاستقطاب المفرط للسياسات والإعلام. ولنقارن ذلك بنهج “اقتلهم ودع الخالق يحكم على ذلك” الذي يميز الهجمات الإرهابية في هذه الأيام.
يقول كريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي والمدافع عن دونالد ترامب، في تعليقه على مذبحة أورلاندو، متجاهلاً دون أن يرف له جفن حقيقة أن القاتل كان مواطناً أميركياً من نيويورك: “يجب أن نذهب إلى هناك وأن نجعلهم يدفعون الثمن حيث يعيشون. من غير المقبول السماح لمثل هذا النوع بالتواجد في بلدنا، وأن لا نقوم برد الضربة”.
يشكل تدخل الولايات المتحدة الكارثي في لبنان حكاية تحذيرية لهيلاري كلينتون ودونالد ترامب، بينما يتنافسان على مَن سيكون أكثر صرامة في سورية المجاورة. وكان لبنان قد آذن بأول تدخل عسكري في الشرق الأوسط في حقبة ما بعد الاستعمار، وشهد أول مرة يطلق فيها الأميركيون النار على جنود مسلمين منذ محاربة الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وقد انتهى ذلك إلى كارثة. ففي بيروت، زرعت الولايات المتحدة بذور الإرهاب الذي يحيط اليوم بالكرة الأرضية. وقد شاهدنا الثمن الباهظ للسياسة القائمة على غطرسة أصحاب الوزن الثقيل في واشنطن، الذين ظنوا أنهم يعرفون أكثر مما يعرف الخبراء على الأرض، وشاهدنا تداعيات نظرة عالمية للبيت الأبيض، والتي افترضت تلقائياً أن جميع المسلمين سيئون وأن كل المسيحيين طيبون.
جاءت اللحظة المفصلية في التجربة اللبنانية في صباح أحد هادئ من شهر تشرين الثاني (أكتوبر) 1983، عندما قامت شاحنة مفخخة بتسوية ثكنات قوات مشاة البحرية الأميركية قرب مطار بيروت بالأرض، وأودت بحياة 241 جندياً أميركياً. وكان ذلك الهجوم المدمر جزءًا من فورة من العنف المناهض للولايات المتحدة، والذي آذن بولادة الإرهاب “المسلم” المتطرف المعاصر –ولو أن رجال الميليشيا الشيعة في لبنان كانوا يقاتلون لسبب مختلف جذرياً عن السبب الذي يقاتل من أجله متطرفو “داعش” والقاعدة السنيون اليوم. وقد صدمني الانفجار وجعلني أنهض من سريري على بعد أميال من موقع التفجير. وكان المشهد الذي ينتظرني عندما وصلت بعد نصف ساعة مرعباً. كانت قطع من أجساد مشاة البحرية الأميركية الذين كنت أشرب معهم الجعة في المساء السابق، تتدلى من الأشجار العارية من الأوراق؛ وكانت أيدي مشاة ورجال البحرية العالقين تبرز من بين ألواح الخرسانة المحطمة؛ واصطفت صفوف من الجثث على الأرض. وسوف يظل ذلك المشهد يشكل دائماً نظرتي إلى التداخل المضطرب بين الإسلام والسياسة الأميركية.
في الأشهر والسنوات التالية، سوف أجد نفسي وأنا أغطي أحداث التفجيرات الانتحارية للسفارات الأميركية في لبنان والكويت؛ واختطاف طائرة مكتظة بالأميركيين لخطوط “عبر العالم” الجوية؛ واختطاف مواطنين أميركيين من شوارع بيروت، بعضهم من أصدقائي.
قال دونالد ترامب للأميركين في اليوم التالي لمذبحة أورلاندو: “يجب علينا أن نعرف ماذا يجري. وعلينا أن نقول الحقيقة أيضاً، عن كيف يأتي الإسلام المتطرف إلى شواطئنا”.
ربما يكون ذلك لغزاً لترامب، لكنه لا يكاد يكلف خبيراً في شؤون الشرق الأوسط أي جهد لمعرفة الجواب. إنه واضح لأي شخص تابع الأخبار على مدى العقود القليلة الماضية، أو درس القليل من التاريخ. كان الجهاد المدعوم أميركياً ضد السوفيات في أفغانستان، وتواجد القوات الأميركية في السعودية خلال حرب الخليج، وغزو العراق في العام 2003، كلها عوامل أشعلت لهب الإرهاب الذي انتشر في كل أنحاء العالم، والذي وصل الآن إلى شوارع مدينتنا وأسواقنا. لكن الشرارة أوقدت في بيروت.
هناك، انحاز بيت ريغان الأبيض إلى مجموعة معينة من الفصائل المسلحة، لأنه صادف أنهم مسيحيون، ضد مجموعة أخرى من الفصائل المسلحة التي صادف أنهم مسلمون، وأدى ذلك إلى تحويل حلفاء محتملين إلى أعداء، وخلق فرصة للحرس الثوري الإيراني لإثارة الفوضى المناهضة للولايات المتحدة في المنطقة. وبالنسبة لصانعي السياسة الأميركيين المستقبليين، كان ينبغي أن يكون لبنان حكاية تحذيرية. فقد تجاهل ناشطو البيت الأبيض، بقيادة روبرت مكفارلين، مبعوث ريغان الخاص للشرق الأوسط، آراء الدبلوماسيين المقيمين والخبراء العسكريين على حد سواء.
في ذلك الحين، قال قائد كتيبة مشاة البحرية، الكولونيل تيموثي غيراغتي، لمكفارلين عندما صدر إليه أمر بفتح النار على مواقع الدروز والمسلمين الشيعية، كما ذكرتُ في كتابي “بذور الكراهية” الذي صدر في العام 2003 عن الصراع: “إننا هنا مثل البط الجالس”. وبعد ذلك كتب غيراغتي أن ذلك القرار “أزال أي شكوك متبقية إزاء مسألة حيادنا، وقلت لموظفيّ في ذلك الوقت إننا سوف ندفع ثمن هذا القرار بالدم”.
في ذلك الوقت، سعى قادة الميليشيات المسلمة، العالقون في الصراع مع الحكومة اللبنانية التي يهيمن عليها المسيحيون، إلى تجنب الحرب مع الولايات المتحدة أيضاً. وقال لي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في ذلك الحين: “إنني أقدم هذه النصيحة الصغيرة لقوات البحرية الأميركية، أن يظلوا بعيدين عن مواقع الجيش اللبناني. ذلك أفضل لهم وأفضل لي. وإذا لم يفعلوا، فإنهم يمكن أن يقعوا في تقاطع النيران، وربما يعانون –للأسف- من التداعيات”. وسوف ينتهي المطاف أخيراً بالدروز، وهم فرع غامض من الإسلام الشيعي، وهم يقاتلون الأميركان إلى جانب الميليشات اللبنانية الشيعية المسلمة في لبنان. تم الدفع بقوات البحرية الأميركية سريعاً إلى بيروت بعد أن قام رجال الميليشيات الشيعية، بدعم من القوات الإسرائيلية، بذبح ما لا يقل عن 800 من المدنيين الفلسطينيين والشيعة في الأحياء الفقيرة في جنوب بيروت. وكان المسلمون قد رحبوا بالأميركيين كحماة. لكن مهمة قوات البحرية كانت سيئة التعريف. وعندما اندفعت المواجهات بين الخصوم المسيحيين والمسلمين، انحاز البيت الأبيض إلى المسيحيين بذريعة دعم حكومة لبنان “الشرعية”، والتي كانت كل شيء سوى ذلك.
كان الكولونيل تشارلز تشرشل، الضابط البريطاني في القرن 19، قد كتب عن تدخل غربي مشؤوم آخر في المنطقة: “ذلك الشخص، الذي بدا مسار إجراءاته كله يبدو مثل حملة صليبية متعمدة ضد الحساسيات والمشاعر المحمدية، لم يبدُ أنه قد فكر للحظة واحدة بأنه كان بذلك يصب الينابيع في تيار تحتي من التعصب المميت”.
من المفارقة الواضحة أن يكون ريغان قد حذر حكومات الشرق الأوسط بالقول: “أولئك الخارجيون الذين غذوا نيران الحرب الأهلية في لبنان للعديد من السنوات، يجب أن يعرفوا أن النار سوف تلتهمهم هم أيضاً”.
وهو ما فعلته، حين تحولت إلى حريق عالمي هائل ما نزال نكافحه حتى اليوم.
كان لبنان هو المكان الذي طُبقت فيه التكتيكات الراهنة للإرهاب أول مرة ضد الأميركيين. وفي ذلك الوقت، سألني أكرم، رجل الميليشيا الشيعي، بينما جلسنا لشرب الشاي المحلى في تحصين يواجه مواقع البحرية الأميركية بينما تهدر القذائف المنطلقة من السفينة الحربية الأميركية “يو. أس. أس. نيوجرسي” فوق رؤوسنا: “هل من الأكثر شجاعة إطلاق النار من البحر؟ ليس لدينا نيوجيرسي. ليس لدينا طائرات حربية. لدينا الكثير من الشاحنات، ولذلك نستخدمها. ما الفرق بين إسقاط قنبلة على بناية من السماء وبين قيادتها (بسيارة) من الشارع”؟
في وقت لاحق، قال أسامة بن لادن لعماد مغنية، رئيس عمليات حزب الله، إنه استلهم التفجيرات الانتحارية التي استخدمها مغنية لتركيع الولايات المتحدة، واعتمدها لنفسه، كما أخبرني مصدر استخباراتي عربي بعد سنوات لاحقاً. لم تكن هناك إجابات بسيطة في ذلك الوقت عن السؤال حول كيف يمكننا وقف الإرهاب، وليست هناك إجابات اليوم –بغض النظر عن الجهد الكبير الذي يبذله بعض السياسيين لإقناعنا بعكس ذلك.
في العام 1985، بعد قيام المقاتلات الأميركية باعتراض طائرة تحمل خاطفين فلسطينيين كانوا قد قتلوا أميركياً، أعلن ريغان: “يمكنكم أن تهربوا، لكنكم لا تستطيعون أن تختبئوا”. وكان ذلك، كما قال “رسالة للإرهابيين في كل مكان”. وبعد سنة لاحقاً، سوف يؤكد ريغان للأمة، “من المرجح أن يسجل التاريخ أن 1986 كان العام الذي تمكن فيه العالم، بعد طول انتظار، من التعامل مع وباء الإرهاب”.
وليت الأمر كان كذلك. فخلال ثلاثة عقود منذ ذلك الحين، تعلمنا كم هو من الصعب رد الضربة ضد المتطرفين الإسلاميين. وعلى الرغم من كل الصواريخ التي تطلقها الطائرات بدون طيار التي لا تعد، وغارات القوات الخاصة، وضربات طائرات ف-16، ما يزال الإرهاب مستمراً في التورم والانتشار. ولا تقتصر الحرب ضد الإرهاب على الحلول القائمة على “الصدمة والرعب”. إنها معركة مضنية ومعقدة ومنهجية، والتي تجري في كثير من الأحيان بعيداً عن سمع وبصر كاميرات التلفزيون. لكن الساسة في الولايات المتحدة لم يدعوا هذه الحقائق تشق طريقها إلى التصريحات والمقابلات. كان جورج دبليو بوش قد وعد ذات مرة: “عندما أتخذ إجراء، فإنني لن أقوم بإطلاق صاروخ بكلفة مليوني دولار أميركي على خيمة فارغة بعشرة دولارات وأضرب جملاً في مؤخرته”. ما أكثر الجمال النافقة. ولكن، وبينما انتشر الإرهاب، أصبحت الخطابة الأميركية أعلى صوتاً فقط –على طرفي الطيف السياسي. وأعلن الرئيس أوباما بعد هجوم حزيران (يونيو) الإرهابي على مطار اسطنبول: “سوف يظلون مطاردين وهاربين حيثما يختبئون. لن نستريح حتى نفكك هذه الشبكات للكراهية، والتي تؤثر على كامل العالم المتحضر”.
وقال ترامب في مناظرة يوم الاثنين الرئاسية: “يجب أن نقصف (داعش) ونريهم الجحيم”. وأعلنت هيلاري كلينتون في الصباح الذي أعقب تفجيرات نيويورك: “علينا أن نحطم معاقل (داعش) بحملة جوية متسارعة لقوات التحالف، وبالمزيد من الدعم للقوات العربية والكردية على الأرض، والجهود الدبلوماسية الكثيفة في سورية والعراق وفي كل أنحاء المنطقة”.
من المفهوم أن نرغب في الحصول على إشباع فوري. ولكن، ليست هناك حلول بسيطة. ويشكل ترنحنا السكير من فك الارتباط إلى التدخل في الشرق الأوسط، ومن مغازلة المستبدين إلى بناء الديمقراطية والمراوحة بين هذا وذاك، دليلاً جاهزاً على ذلك.
إذا كان فريق بوش قد فوت العظة من بيروت حين عكف على إعادة رسم الخريطة وخلق شرق أوسط ديمقراطي جديد، فلدينا الآن العراق الذي يمكن أن نتعلم منه الكثير. ويجب أن يحتوى كتاب سورية الإرشادي التمهيدي للإدارة التالية على فصول عن كل واحد من هذه الصراعات: حيث نفس الخليط من الجماعات العرقية والدينية المتناحرة، ونفس المجموعة دائمة التحوُّل والتنقل من الحروب الإقليمية بالوكالة. لكن الأميركيين لا يستطيعون تحمل قيام الشاغل القادم للبيت الأبيض بتكرار أخطاء الماضي. إن التصرف ببطء وحذر هو سياسة أيضاً.
يبيّنُ إصرار ترامب على أننا يجب أن “نأخذ النفط” في العراق كتعويضات عن الحرب، أن كلمات “حذِر”، “مدروس” و”منهجي” ليست جزءاً من مفرداته. لكننا نستخلص شيئاً واحداً صائباً من خطابه عن السياسة الخارجية في نيسان (أبريل): “لقد جعلنا الشرق الأوسط أكثر اضطراباً وفوضوية من أي وقت مضى”.
مع ذلك، يستمر في سياق الحملة الانتخابية عرض عضلات المرشحين في قصف الناخبين بنفس الملاحظات المبتذلة التبسيطية التي هم في أمس الحاجة إلى تصديقها. وكان ترامب قد قال عن “داعش” في خطاب نيسان (أبريل): “إن أيامهم معدودة. لن أقول لهم أين ولن أقول لهم كيف. لكنهم سوف ينتهون. وقريباً جداً”.
الآن، أين سمعنا مثل ذلك من قبل؟
لورنس بيتنك
معهد واشنطن