شنت حركة طالبان غارات متكررة على مدينة قندوز في شمالي أفغانستان، على الرغم من التواجد الغربي المتواصل في البلد. ومع تدهور الأوضاع، أصبح المواطنون المحليون عالقين بين جبهتين -بينما يبدو مستقبل البلد في خطر.
* * *
يقول شهود عيان إن الرجال الذين اقتحموا مدينة قندوز عند الساعة الثالثة فجر يوم الاثنين قبل الماضي كانوا يضعون أقنعة على وجوههم، بالإضافة إلى عصابات رؤوس مزخرفة بشعارات قتال إسلامية. وكان معظمهم قد جاء من المنطقة المحيطة -مئات من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاماً، مسلحين ببنادق كلاشنيكوف وقاذفات الصواريخ.
احتلت طالبان مركز المدينة لمدة 48 ساعة تقريباً. وعند الدوار المهم في قلب قندوز، أنزلوا العلم الوطني عن السارية ورفعوا الراية البيضاء لما تدعى “الإمارة الإسلامية في أفغانستان” في مكانه.
كانت هذه المحاولة الرابعة التي بذلها المتطرفون الإسلاميون خلال أكثر من عام بهدف إخضاع المدينة لسيطرتهم. وقد سيطرت مجموعة طالبان على المدينة التي كانت واحدة من آخر معاقلها حتى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2001.
أما هذه المرة، كان حظهم بالكاد ميموناً. فبالتزامن، اجتمع ممثلون من 75 بلداً في بروكسل لعقد ما يدعى مؤتمر أفغانستان لبحث منح المزيد من المساعدات المالية للبلد الذي يغرق حالياً في مستنقع من الإرهاب والفساد.
ويعكس القتال من أجل قندوز كم مدى إحباط معنويات موظفي الإغاثة وأعضاء التحالف العسكري الدولي من الاضطرار إلى البدء باستمرار من البداية. فالإنجازات التي استغرقت الكثير من العمل المضني في ظل ظروف خطيرة، يمكن أن تمحى في عدد قليل من الأيام وحسب بفعل هجوم ما. وكان معظم الجنود الألمان الـ65 الذين قتلوا في أفغانستان قد سقطوا هنا، في الشمال. وليست عائلاتهم هي الوحيدة التي تتساءل عن السبب الذي قتلوا من أجله. لأنه ولكثير من العامين الماضيين كانت طالبان في وضع تقدم مرة أخرى.
في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، استطاع الإسلاميون احتلال قندوز لمدة 15 يوماً -وهي فترة كافية لنهب وإحراق كل شيء كان الألمان قد بنوه على مدار عقد تقريباً. وكانت تلك هزيمة عسكرية وسياسية أظهرت بوضوح كيف أن قوات الأمن الأفغانية والحكومة تعملان بشكل غير محترِف في المدينة.
يؤثر ما يحدث في قندوز بشكل كبير على ما يحدث في باقي البلد؛ فالمدينة مهمة من الناحية الاستراتيجية لشمالي أفغانستان، بينما تأمل طالبان في استخدامها كنقطة انطلاق لغزو المحافظات الشمالية، وتأمل المجموعة بربطها مع قواتها الجنوبية من أجل السيطرة على البلد كله.
يقول محافظ قندوز، أسد الله عمر خيل، في حديث لمجلة “ديرشبيغل”، أن مركز المدينة أصبح آمناً مرة أخرى، مضيفاً أن الجيش استعاد مقر المحافظ ومركز الشرطة وبناية المخابرات العامة. أما خارج المركز، فما تزال طالبان ناشطة في كل مكان تقريباً. ويبلغ المحافظ عمر خيل 60 عاماً من العمر تقريباً، وكان قائداً جهادياً قاتل ضد السوفيات. ويعتقد بأن باكستان المجاورة هي المسؤولة عن نجاح طالبان؛ حيث “يتلقى الأعداء التوجيه من الأجهزة السرية الباكستانية ويتلقون الدعم منها”، كما يقول خليل.
مجرمون في الحكومة
يحتمل كثيراً أن يكون هذا صحيحاً، لكنه لا يمثل كل الحقيقة. فأمراء الحرب في أفغانستان يستحقون اللوم. وهم زعماء قبائل أقوياء يتوافرون على جيوش خاصة تحمي نشاطاتهم الجنائية. وعلى الرغم من ذلك، أصبح العديد منهم الآن جزءاً من الحكومة مرة أخرى برئاسة الرئيس أشرف غني، أو أنهم ينتمون إلى النخبة النافذة على الأقل.
أحد أمراء الحرب هؤلاء، عبد الرشيد دستم، يشغل حالياً منصب نائب الرئيس الأفغاني. وبين الفترة والأخرى يدخل مقاتلوه الأوزبك في اشتباكات مع المليشيات الطاجيكية التي تنتمي إلى أمراء حرب آخرين. وفي حزيران (يونيو) الماضي، قتل مقاتلو دستم مدنيين في مقاطعة فارياب، ولم يكن لدى هؤلاء المسلحين أي سبب للخوف من العقاب: فقائدهم قوي جداً.
تعمل هذه الحالة من الفوضى على دفع المواطنين الأفغان إلى الارتماء في أحضان الإسلاميين، لأن عودة طالبان إلى السلطة ستدفع بالشخصيات مثل دستم إلى النزور تحت الأرض. وفي الأثناء، يعاني المواطنون. وفي الحقيقة، لم يعد الكثيرون متأكدين ممن يجب أن يخافوا أكثر: من الإسلاميين أم من الحكومة بمجرميها من أمثال دستم.
في الأسبوع الماضي، أراد نسيم الذي يتاجر في الكابلات، أن يدفن زوجته في مقبرة تشارامغاري. وكانت عيارات نارية من رشاش قد اخترقت جدار منزله فأصابت المرأة البالغة من العمر 50 عاماً بجروح قاتلة. ولا يعرف نسيم من هو الذي أطلق النار. ولكن، أي فرق سيحدث لو أنه عرف؟ وهو يعرف فقط أن طريق الوصول إلى المقبرة غير سالك بسبب القتال. وقد أجبره ذلك على التوجه شمالاً إلى قرية كوباي. وهناك فقط كان بإمكان نسيم أن يدفن زوجته.
وفي حادثة أخرى، كانت ناشطة حقوق المرأة ذات الأعوام الثلاثين، أرزو، من المقاطعة الرابعة في قندوز تغط في النوم عندما قرع أفراد من طالبان باب منزلها صباح الاثنين وطلبوا الصعود إلى سطح منزلها. ومن هناك، أطلقوا النار على قوات الحكومة لساعات. ولم ينزل الإرهابيون عن السطح حتى العصر، حيث هبطوا ليجوبوا الشوارع. وتقول أرزو: “نحن عالقون هنا بين الجبهتين”.
نتيجة ذلك، كانت السوق في مركز قندوز خالية تماماً وقد أقفلت الحوانيت أبوابها. وإذا هناك تيار كهربائي عامل، فلساعات قليلة وحسب كل يوم بينما يندر الحصول على الماء والغذاء بالمثل لأن طرق الإمداد قطعت، خاصة في الشرق والجنوب. وقد أعلنت القوات الأمنية الأفغانية يوم الأربعاء قبل الماضي فقط عن خلو المدينة من طالبان.
تورط باكستان
كيف تدهورت الأوضاع إلى هذه الدرجة؟ بعد غارة العام الماضي، وضع خبراء الأمن الذين يعملون مع الرئيس غني تقريراً خلص إلى أن تحسين التنسيق بين قادة القوات الأمنية هو أمر حاسم. ويبدو أن ذلك لم يكن ناجحاً، خاصة على ضوء أن قندوز التي ينتشر فيها 10.000 جندي وضابط شرطة، تتمتع بحماية مشددة أكثر تقريباً من أي منطقة أخرى في البلد.
مع ذلك، تقوم طالبان بتوسيع نفوذها بسرعة في الشمال، خاصة على طول الطريق الدائري بين مدن باغلان وبلخ وقندوز. ويوم الأحد 21 آب (أغسطس)، على سبيل المثال، قتلت طالبان 20 ضابط شرطة قروياً في مستوطنة هناك، بينما هرب كل أعضاء مجلس المقاطعة إلى كابول. وقد وبخ رئيس المجلس، محمد يوسف الأيوبي، الحكومة علناً وقال إن المنطقة لم تعد آمنة. وأضاف أن طالبان سيطرت أصلاً على 80 في المائة من المنطقة إلى الشمال من قندوز ولم يتم فعل أي شيء بهذا الخصوص. كما حذر أيضاً من أن المدينة على وشك السقوط. وكان رئيس الاستخبارات في قندوز قد نجا بالكاد من كمين نصب له بالقرب من المطار في نهاية آب (أغسطس) الماضي.
مرة أخرى، لم يكن الجيش الأفغاني هو الذي أنقذ المدينة وحده، وإنما يعود الفضل بالدرجة الأولى إلى التفوق الجوي الذي تتمتع به قوة الحماية الدولية. وهناك حالياً نحو 7.000 جندي أميركي في البلد، والذين تمدهم الولايات المتحدة بالطائرات ومعدات الاستطلاع. ومن أصل 5.000 جندي ألماني كانوا ذات مرة في قندوز، تبقى حوالي 1.000 فقط لتدريب الجنود الأفغان.
لفهم ما جرى خطأ على الرغم من مليارات الدولارات التي تتلقاها أفغانستان من المساعدات، يحتاج المرء إلى العودة وراء 15 عاماً عندما بدأت معركة أفغانستان في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2001. في ذلك الحين، لم يكن هناك تيار كهربائي في المناطق الخاضعة لسيطرة طالبان، ولم تكن هناك طرق ولا عيادات ولا مدارس غير محطمة، وبالكاد كان هناك منزل سليم. ولكن، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها الغرب على مدى الأعوام التالية، فإنه لم يستطع التوصل إلى حلول دائمة لمشاكل البلد.
وفي الأثناء، تستمر الخصومة بين القوتين النوويتين، باكستان والهند. وتضغط باكستان على أفغانستان -وهي صديقة الهند- من خلال حماية ودعم طالبان. وهكذا يكون التخلص من الإسلاميين مستحيلاً، لأنهم يستطيعون دائماً الانسحاب إلى باكستان.
الغرب هناك ليبقى
كان المشاركون كافة في مؤتمر الأسبوع قبل الماضي في بروكسل يعون تماماً حقيقة أن التوصل إلى حل سياسي للغز الأفغاني يشكل هدفاً حيوياً على المدى البعيد. وقد تعهدوا بسخاء بتقديم 15.2 مليار دولار كدعم إضافي للأعوام الأربعة المقبلة.
أدركت الحكومات الغربية أن الانسحاب من أفغانستان لن يحل أي شيء. وهي تريد على ما يبدو تجنب تكرار أخطاء الماضي. فعندما غادر السوفيات البلد في العام 1989 بعد تسعة أعوام من القتال الدامي، فإنهم استمروا في تقديم المشورة للحكومة التي نصّبوها -بقيادة رئيس المخابرات السابق محمد نجيب الله- لعدد من الأعوام. وبعد ذلك قطعت موسكو المساعدات النقدية والعسكرية. وفي العام 1996 قتلت طالبان نجيب الله بوحشية شنقاً على سارية لشرطة السير.
عندما هبطت وحدة استطلاع من قوات المظلات الألمانية على مدرج هبوط في قندوز في أيلول (سبتمبر) من العام 2003، أجرى الضباط في ذلك الحين مباحثات مكثفة مع ممثلي المجموعات العرقية المختلفة والكبار المؤثرين. وأرادوا التأكد من أنهم يلقون الترحيب من السكان المحليين، على عكس السوفيات -وهو سؤال أجيب عنه بالإيجاب.
ومع ذلك، كان ما لم يقله لهم الأفغان في ذلك الوقت هو أنه على الرغم من أن الألمان يظلون موضع ترحيب، فإن مهمتهم لن تكون قصيرة ولا سهلة. فبعد كل شيء، كانت هذه المهمة شيئاً لم يشهد التاريخ الأفغاني له مثيلاً أبداً.
سوزان كويبلي
صحيفة الغد