وماً بعد يوم تزداد الأوضاع تعقيداً في العراق بالنسبة لإيران. فما كانت تعتقده طهران ساحة للنفوذ الإيراني المطلق بالعراق أخذ يواجه تحديات كبيرة، فالأوضاع باتت تتغير كثيراً في ظل عنف الصراعات الداخلية ليس فقط بين المكون الكردي، خاصة حكومة وحزب مسعود البرزاني مع الحكومة المركزية في بغداد، وهو الصراع الذي وصل إلى ذروته في ظل حكومة نوري المالكي، ولم يتغير كثيراً مع مجيء حكومة حيدر العبادي، أو بين المكون السُني مع المكون الشيعي وحكومة بغداد المركزية. كما أن الأوضاع تتغير أيضاً في ظل ما يمكن أن نسميه ب «فائض الصراع» في سوريا. فقد وصل الصراع هناك بين كافة القوى المتصارعة الداخلية والإقليمية والدولية إلى ما فوق الذروة، وأخذ يفيض على الجوار السوري خاصة في العراق، فضلاً عن امتداداته في لبنان.
هذان المستويان من الصراع، صراع القوى العراقية بكافة مكوناتها، وفائض الصراعات السورية يستهدفان، أكثر ما يستهدفان إيران ونفوذها في العراق، وأخذ يحدث ما يمكن أن نسميه ب «تآكل النفوذ» الذي سيؤدي حتماً، عاجلاً أم آجلاً، إلى «تآكل المكانة» وهذا تطور شديد الخطورة في ظل متغيرين مهمين؛ أولهما، تفاقم غموض مستقبل الأزمة السورية وموقع إيران منها في ظل وصول الصراع بين واشنطن وموسكو إلى ما يشبه «حافة الهاوية». وثانيهما، ازدياد الصراعات الداخلية سخونة بين القوى السياسية الإيرانية مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ومع غموض الموقف من جانب المحافظين وخاصة الأصوليين من شخص المرشح المنافس للرئيس حسن روحاني بعد تراجع الرئيس السابق أحمدي نجاد قسرياً عن الترشيح بأوامر من المرشد الأعلى، وفي ظل موقف آخر لا يقل غموضاً بالنسبة لموقف الإصلاحيين، وخاصة يسار الوسط بالنسبة لاحتمال تأييدهم أو رفضهم لإعادة ترشيح حسن روحاني لفترة رئاسية جديدة، وإمكانية الدفع بمرشح إصلاحي منافس بعد صدمتهم من حكم الرئيس روحاني الذي لم يستطع أن يكون إصلاحياً حسب ما يرغبون وظل موقفه معلقاً بين الحرص على إرضاء المرشد وجماعته من غلاة المحافظين، وبين مراوغته لمن دعموه من الإصلاحيين.
فقد حرصت طهران خلال الأشهر الماضية على ضبط الصراعات داخل العراق بين حلفائها في التحالف الوطني للحيلولة دون انهيار الحكومة خاصة صراعات مقتدى الصدر مع حكومة حيدر العبادي وتظاهراته «الشعبوية» لفرض ما يسميه ب «مشروع التغيير والإصلاح» وبالذات تظاهرات المنطقة الخضراء التي نجحت في إجبار حكومة العبادي على اتخاذ قرارات إصلاحية قوية تحت راية «محاربة الفساد» كان أبرزها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، وهو ما أدى إلى تفاقم صراعات نوري المالكي مع العبادي وحكومته، حيث اعتبر المالكي أنه هو المستهدف أكثر من النائبين الآخرين للرئيس إياد علاوي وأسامة النجيفي، الأمر الذي جعل من صراع المالكي ضد العبادي صراعاً مثيراً لمخاوف طهران، بعد أن نجح المالكي في تحقيق نجاحات مهمة في مخطط إسقاط حكومة العبادي عن طريق خطة سحب الثقة من أهم الوزراء. حدث هذا بنجاح مع وزير الدفاع خالد العبيدي، ثم مع وزير المالية هوشيار زيباري، ويستعد لإسقاط وزير الخارجية إبراهيم الجعفري ومن بعده شخص رئيس الحكومة حيدر العبادي نفسه.
دخلت طهران بقوة لوقف هذا المخطط ابتداءً من لملمة أشلاء التحالف الوطني باستدعاء قياداته أفراداً وجماعات إلى طهران وهناك التقوا بكبار المسؤولين وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي. لكن ما ميز هذه الاستدعاءات أنها شملت أبرز قادة فصائل الحشد الشعبي وخاصة الأكثر موالاة لإيران وبالذات أكرم الكعبي زعيم ما يُعرف ب «حركة النجباء» التي تشارك بالقتال في سوريا، إضافة إلى عمار الحكيم زعيم «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي كان قد خرج عن اعتداله بسبب ما تعرض له من حصار مالي وسياسي من جانب طهران الأمر الذي دفعه إلى التمرد والدعوة إلى تأسيس تيار سياسي بديل ل «التحالف الوطني» يعبر عن دعوته لتأسيس كتلة ثالثة «عابرة للطائفية: شيعية – سنية – كردية».
طهران تدرك خطورة هذا التوجه وما يمكن أن يؤدي إليه من تذويب للنفوذ الإيراني الذي ظل مرتكزاً على قوة شيعية حاكمة موالية، لذلك جاء قرار احتواء عمار الحكيم بتكليفه برئاسة «التحالف الوطني» في خطوة مزدوجة الهدف، الأولى وضع نهاية لدعوة الكتلة العابرة للطائفية التي كان يبشر بها عمار الحكيم، والثانية إيجاد حل شبه نهائي لأزمة رئاسة هذا التحالف التي امتدت لأكثر من عامين في ظل انقسام حاد حول إبراهيم الجعفري وزير الخارجية رئيس هذا التحالف.
إيران كانت تفعل ذلك وعيونها مسلطة على الصراع الدائر حول الرفض المتصاعد لمشاركة «الحشد الشعبي» في المعركة التي بدأت فجر الاثنين (17-10-2016) لتحرير الموصل من حكم ميليشيات تنظيم «داعش» هذا الرفض لم يكن فقط أمريكياً، بل أضحى تركياً أكثر من أي طرف آخر، الأمر الذي فاقم من شعور طهران بالخطر، باعتبار أن تزايد الرفض لمشاركة ميليشيات الحشد الشعبي، يعد رفضاً ضمنياً للدور الإيراني، وتوجه نحو تقليص نفوذه في شمالي العراق.
لكن يبدو أن فرص نجاح طهران في المحافظة على وحدة «التحالف الوطني» الشيعي معرضة للفشل لأسباب كثيرة أبرزها عودة الصراع بين مقتدى الصدر وحكومة حيدر العبادي وبين مقتدى الصدر ونوري المالكي خاصة بعد صدور قرار من المحكمة الاتحادية بإلغاء قرار رئيس الحكومة حيدر العبادي بإلغاء مناصب نواب الرئيس، حيث عاد مقتدى الصدر إلى سياسة التحريض مجدداً ضد الحكومة والدعوة إلى التظاهرات الشعبوية.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج