ستُجرى الانتخابات الداخلية القادمة لحركة «حماس» على مدى عدة أشهر في عملية سرية، وعلى مراحل، ضمن مشهدٍ إقليمي مختلف تماماً. ففي عام 2013، عندما أجرت «حماس» – الفرع الفلسطيني لجماعة «الإخوان المسلمين» – انتخاباتها الأخيرة، بدا أنّها كانت على الجانب المنتصر من التطورات الإقليمية. فقد كانت مصر تُحكم من قبل رئيس من جماعة «الإخوان المسلمين» (محمد مرسي)، كما كان رعاة الجماعة في قطر وتركيا يشكلون محور المشهد السياسي الإقليمي، ولم تكن التوترات بين إيران – الداعم العسكري لحركة «حماس» – ودول الخليج العربية قد وصلت إلى حدّتها الحالية.
إلّأ أنّ ما بدى كمسارٍ رابح في عام 2013 تحوّل إلى طريقٍ سياسي مسدود. فالقادة المصريون الذين حلّوا محل «الإخوان المسلمين»، بمن فيهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، يكنّون العداء الشديد لـ «حماس». وقد تراجع النفوذ الاقليمي لقطر وتركيا بشكلٍ ملحوظ، كما أُحبطت نشأة الإسلام السياسي لتحلّ محلها التوترات المتزايدة بين إيران وما يسمّى بالمعسكر العربي السني بقيادة المملكة العربية السعودية.
ونظرياً قد يوفّر انتخاب قيادة جديدة لـ «حماس» فرصةً للحركة لإعادة تحديد تحالفاتها الإقليمية. إلّا أنّ التنافسات والمصالح المتضاربة بين مختلف مكوّنات «حماس» تخلق ديناميكيةً تجعل مثل هذه الإعادة غير مرجحة.
وفي الوقت الحالي، تضمّ حركة «حماس» ثلاثة مراكز للسلطة لكلّ واحدة منها مصالح مختلفة. فقيادتها السياسية في الشتات، ومركزها الرئيسي في قطر الذي له مكاتب في عددٍ من البلدان، هي بقيادة رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل الذي شارفت ولايته على الانتهاء. وتتفهم الحركة تماماً الديناميكية الإقليمية وتستمدّ الكثير من قوّتها من خلال قدرتها على حشد الدعم الإقليمي السياسي والمالي. كما أن القيادة السياسية لـ «حماس» في قطاع غزة التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق اسماعيل هنية، تستمدّ قوّتها من سيطرتها على الأرض والسكان في القطاع الساحلي وهي حساسة للتطورات فيها. أمّا الجناح العسكري لـ «حماس»، أي «كتائب عز الدين القسام»، فيركّز على بناء عتاده وقدراته في غزة بشكلٍ أساسي ولكن في الضفة الغربية أيضاً.
وفضلاً عن المصالح المتضاربة، هناك تنافسات سياسية شخصية بين قادةٍ سياسيين في الشتات وحكّام «حماس» في غزة. وفي الآونة الأخيرة، أثبت الجناح العسكري نفسه سياسياً في ظل القيادة الجديدة لصاحب النفوذ يحيى السنوار. ولا تتمتع أي من الفصائل الثلاث بالقوة الكافية لفرض إرادتها على الآخرين، وقد حال التنافس بينها دون اتخاذ الحركة القرارات الضرورية لمواكبة التغيرات الإقليمية.
وتواجه «حماس» تحدييْن إقليمييْن رئيسييْن هما: إصلاح علاقاتها مع مصر وتوسيع قاعدة الدعم الإقليمية الخاصة بها مع توخي الحذر من التوترات بين إيران والسعودية.
إن الأعمال العدائية التي وقعت بين «حماس» وإسرائيل في عام 2014 قد أثبتت بشكل واضح حاجة غزة إلى مصر. فبعدما تكبّدت «كتائب القسام» خسائر فادحة في بداية الصراع، وشهد القادة السياسيون في غزة وقوع عدد هائل من الضحايا بين المدنيين إلى جانب خسائر مادية جسيمة وتدمير معظم البنى التحتية، بدا أنهم على استعداد لقبول وقف إطلاق النار الذي اقترحته مصر في 14 تموز/يوليو. إلّا أنّ القيادة في الشتات ومقرها في قطر رفضت ذلك الاقتراح، آملةً أن تتمكن تركيا وقطر من الحصول على شروط أفضل من إسرائيل (والعودة أيضاً في غضون ذلك إلى مركز الدبلوماسية الإقليمية). وفي النهاية، فشلت هذه الجهود وقبلت «كتائب القسام» وقيادة غزة بوقف إطلاق النار الذي توسطت فيه مصر في 26 آب/أغسطس، برفضها قرار قيادة الشتات.
واليوم، يطمح الجناح السياسي في غزة إلى إصلاح العلاقات مع مصر حيث تمثل هذه الأخيرة بوابة غزة الرئيسية إلى العالم الخارجي. ولكن نظراً للتوترات مع «حماس» و«الإخوان المسلمين» بشكلٍ عام، أغلقت مصر حدودها مع قطاع غزة. وقد ألحق ذلك ضرراً مباشراً بقيادة «حماس» من خلال إيقاف الدخل الذي كانت تتلقاه عبر فرض الضرائب على استخدام أنفاق التهريب على طول الحدود مع سيناء. بالإضافة إلى ذلك، أدّى إغلاق معبر رفح الحدودي إلى عزل 1،8 مليون مواطن في غزة عن العالم الخارجي، مما أشعل غضب السكان وأدى إلى استيائهم من مصر و «حماس» على حدٍ سواء.
إلا أن مصر مستعدّة لإشراك «حماس» فقط إذا استوفت هذه الأخيرة مطالب معيّنة، من بينها متطلباتٌ أمنية. وتؤكّد مصر على أنّ الجناح العسكري لحركة «حماس» يساعد جماعات جهادية تشنّ حملةً إرهابية ضدّ السلطات المصرية في سيناء وطالبت وقف هذه المساعدات. كما طالبت «حماس» أيضاً بتسليم عددٍ من أعضاء «كتائب القسام» الذين تم تحديدهم بالاسم والمتّهمين بمساعدة هذه الجماعات. إلّا أنّ هذا الشرط يضع الجناح السياسي للمنظمة في غزة في موقفٍ معادٍ لـ «كتائب عز الدين القسام». كما أن هذا الجناح غير راض عن ارتباط «كتائب القسام» بجهاديي سيناء ولكنّه لا يملك السلطة لمنعها. ففي الأسبوع الأخير من تشرين الأول/أكتوبر، على سبيل المثال، مارس الجناح العسكري ضغوطاً على القيادي السياسي الأقدم في غزة محمود الزهار لكي يتراجع عن إدعائه السابق بأنّ «حماس» أحبطت مخططاً جهادياً ضد سيناء. لذلك تبقى مصالح قيادة الشتات والجناح العسكري لحركة «حماس» عائقاً أمام فرص تحسين العلاقات مع مصر حتّى إشعارٍ آخر.
ونظراً للصعوبات التي تقف في وجه تسوية العلاقات مع مصر وتراجُع أهمية قطر وتركيا في المنطقة، ألقت «حماس» أنظارها على مركز الجاذبية العربي الثاني، وهو المملكة العربية السعودية. وقد يعود التقرّب المحتمل من المدار السعودي بمنافع دبلوماسية ومالية ويزيل وصم حركة «حماس» السنية بأنها مدعومةٌ من إيران الشيعية في زمنٍ من التوترات الطائفية المتأججة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكن على الرغم من هذه المنافع، أعاقت مصالح «حماس» المتضاربة هذا التقارب. ويكمن هاجس السعودية الأساسي اليوم في مواجهة إيران وإضعاف موقفها العدواني في المنطقة. فقاربت السعودية طلب «حماس» بتحسين العلاقات من هذا المنظور، وطلبت من الحركة قطع علاقاتها مع إيران. وكانت أجنحة «حماس» السياسية تميل إلى الاستجابة بشكل إيجابي إلى هذا الطلب، نظراً إلى تأزُّم علاقاتها مع إيران منذ عام 2012 عندما تمّ طردها من سوريا بعد أن تمركزت فيها منذ عام 2001، وذلك لرفضها دعم الرئيس بشار الأسد. لكن هذه المرّة أيضاً، استخدم الجناح العسكري الفيتو لإجهاض هذا الطلب. فمن وجهة نظره تقدّم إيران للحركة ما يعجز أي داعمٍ عن تقديمه، ألا وهو السلاح والمهارة والتدريب العسكري والإرهابي. وعلى الرغم من مؤشرات الدفء في البداية، إلا أن العلاقات مع السعودية عادت إلى جمودها.
في الأشهر المقبلة سوف تنتخب «حماس» زعيماً جديداً لها ومكتباً سياسياً جديداً للحركة بأسرها. وعلى الرغم من الوحدة التي سوف تحاول الحركة إظهارها، سوف تضطرّ القيادة الجديدة إلى التعامل مع التوترات في صفوفها. ولا تنبع هذه التوترات من شخصياتٍ متنافسة فحسب، بل من مصالح هيكلية مترسّخة متنافسة ومتضاربة أحياناً أيضاً. ولا توجد مؤشرات حالية تبشّر بتسوية هذه المصالح، كما لا توجد دلالات على أنّ أي من مكوّنات الحركة، سواء كانت قيادة الشتات، أو الزعامة في غزة، أو الجناح العسكري، ستبرز بوصفها قيادة واضحة. وستبقى «حماس» عاجزةً عن اتخاذ القرارات التي تحتاجها لكسر عزلتها الإقليمية.
غيث العمري
معهد واشنطن