القرار الذي اتخذته بريطانيا قبل 99 عاما بالعمل لايجاد وطن قومي لليهود في فلسطين ادى لواحدة من ابشع الازمات التي شهدتها منطقة الشرق الاوسط وما تزال تعيش تبعاتها حتى اليوم. صدر وعد بلفور في ذروة امبراطورية بريطانيا العظمى» عندما كانت القوة العالمية الاولى بدون منازع. يومها كانت الحرب العالمية الاولى تدور رحاها بوحشية غير مسبوقة.
وبرغم معاناة الجنود في الخنادق على كافة الجبهات واختناقهم بالاسلحة الكيماوية وسقوط الآلاف منهم ضحايا للنزاع الناجم عن الاطماع والرغبة في التوسع، كان الساسة البريطانيون مهتمين بتغذية الصراعات في مناطق العالم من الشرق إلى الغرب. يومها كان ما يسمى «الثورة العربية الكبرى» مشروعا غربيا يهدف لاسقاط الجسد المنهك للدولة العثمانية. كانت ثورة مسلحة ضد الخلافة العثمانية، بدأت في الحجاز بطلقة من الشريف حسين في 2 حزيران/يونيو1916 في مكة المكرمة. وكان لدوي تلك الطلقة صدى في جدة والطائف والمدينة.
وامتدت الثورة ضد العثمانيين بعد إخراجهم من الحجاز حتى وصلت سوريا والعراق. ونص ميثاق دمشق و مراسلات الحسين مكماهون على «خلع طاعة الدولة العثمانية، وإقامة دولة عربية، أو إتحاد دول عربية يشمل الجزيرة العربية ـ نجد والحجاز على وجه الخصوص ـ وسوريا الكبرى ـ عدا ولاية أضنة التي اعتبرت ضمن سوريا في ميثاق دمشق ـ مع احترام «مصالح بريطانيا في جنوب العراق». وتمكنت الثورة بقيادة فيصل بن الحسين بالتعاون مع مسلحي القبائل من تحقيق إنتصارات عسكرية، وكسر الجيش العثماني على طول خط القتال الممتد من المدينة المنورة وحتى دمشق. ودخل الجيش البريطاني بقيادة الجنرال إدموند ألنبي من سيناء إلى فلسطين ومنها على طول الخط الساحلي حتى لواء إسكندرون؛ وفي آخر أيلول/سبتمبر 1918 انسحب العثمانيون من دمشق، وقبلوا في هدنة مودروس، ثم نهائيا في معاهدة سيفر، التنازل عن أملاكهم في نجد، والحجاز، وسوريا، والعراق، وكيليكيا، ومصر.
وما ان انتهت الحرب حتى وجد العرب والمسلمون انفسهم مطالبين بدفع فواتيرها. وما هي إلا بضع سنوات حتى تلاشت «الخلافة الإسلامية» واستبدلت بنظام يبالغ في تبعيته للغرب فكرا وثقافة، ويبتعد تدريجيا عن حواضنه الإسلامية في الشرق. ونجم عن ذلك توسع النفوذ الاستعماري في البلدان العربية وشمال افريقيا لتبدأ بذلك مرحلة التفتت والنزاعات البينية التي ما تزال نيرانها مشتعلة حتى اليوم. واذا كان قيام «الدولة القطرية» المصداق الاوضح لذلك السقوط الناجم عن التدخل الغربي خصوصا البريطاني في شؤون المنطقة، فان مخططات ذلك التدخل لم تتوقف ابدا. بل اصبحت النزعات العرقية تفرض نفسها على العالم الإسلامي على اوسع نطاق. فالاكراد يبحثون عن كيان مؤسس على قوميتهم، والبربر يتطلعون للانفصال عن «الشمال العربي» في الجزائر. والصراع على الصحراء الغربية يقض مضاجع حكام المغرب. وبرغم هدوء الازمة إلا ان هناك من يغذيها باستمرار لكي يستكمل مشروع تفتيت الامة من داخلها.
فلا يكفي وجود نزاع مسلح واحد محصور بليبيا التي تستعصي على الاستقرار، بل لا بد من اشعال بقية المنطقة. وتؤكد وقائع التاريخ ان اشعال النزاعات أسهل من اطفائها او احتواء آثارها.
لماذا وعد بلفور؟ ولماذا استهداف الاقليات بالتحريض والدفع باتجاه الانفصال؟
وهل ان بريطانيا تدفع ضريبة سياسة الانفصال والفرقة بعد ان صوت مواطنوها للانفصال عن اوروبا؟ في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 كتب وزير الخارجية البريطانية، جيمس آرثر بلفور، رسالة إلى وولتر روتشايلد، أحد زعماء الطائفة اليهودية في بريطانيا، وطلب منه ايصالها إلى الاتحاد الصهيوني في بريطانيا وايرلندا قال فيها: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام (وطن) قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر». ونظر الكثيرون إلى تلك الخطوة انها تكفير عن الاضطهاد الذي عاناه اليهود في اوروبا، ذلك الاضطهاد الذي سيتطور لاحقا حتى يبلغ ذروته على يدي هتلر في المانيا قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها.
فاذا كانت الحرب العالمية الاولى قد شهدت الوعد المذكور، فان نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت تفعيل ذلك الوعد، بتسليم بريطانيا الهيمنة على فلسطين لليهود الذين اعلنوا في الحال قيام الكيان الاسرائيلي. وعند صدور الاعلان المشؤوم كان اليهود في فلسطين لا يشكلون اكثر من 5 بالمائة. وقد اطلق على ذلك الاعلان «وعد من لا يملك لمن لا يستحق». وما تزال النظريات تطرح لتفسير تلك الخطوة البريطانية خصوصا ان بلفور نفسه كان معادياً لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة البريطانية بين عامي 1903 و1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنكلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من التبعات السلبية التي قد تلحق ببلاده. كما كان كان لويد جورج رئيس الوزراء لا يقل كرهاً لأعضاء الجماعات اليهودية عن بلفور، تماماً مثل تشامبرلين قبلهما، والذي كان وراء الوعد البلفوري الخاص بشرق أفريقيا.
ثمة حقيقة لا يلتفت اليها الكثيرون، بل تضيع في غمرة الضجيج الإعلامي والهيمنة السياسية والامنية، وإلهاء الشعوب عامة عن قضاياها الجوهرية. فوجود «المؤسسة» الحاكمة في بريطانيا، يتضارب مع جوهر المشروع الديمقراطي. فـ «المؤسسة» هي التي تدير آلة الدولة، ولا تسمح بتغيير مساراتها إلا ضمن دوائر محدودة. ولكن هذه الحقيقة تغيب عن الكثيرين، حتى ليعتقد المواطن العادي انه «صاحب القرار» النهائي بشكل مطلق. والحقيقة ان هذا المواطن يتمتع بنصيب محدود في صنع القرار، ولكن «المؤسسة» هي الاداة الحقيقية لقضايا السلام والحرب والتحالفات وحماية المصالح.
ويمكن القول ان وعد بلفور كان قرارا من المؤسسة الحاكمة في بريطانيا برغم انشغالها يومذاك بالحرب الكونية الهائلة. ومن الضرورة بمكان التطرق لظروف القرار وتفصيلاته وتبعاته، ولكن الاهم ان يكون هناك وعي عام لدى الشعوب والنخب العربية بديناميكية السياسة الدولية ودور اللاعبين التقليديين فيها، ومناقشة مدى ما يمكن عمله في ظل هذا الاخطبوط الفاعل الذي يوجه سياسات العالم. وحالة الغليان التي تعيشها منطقة الشرق الاوسط لا تنفك عن القرار الذي اتخذ قبل قرن من الزمن، وهو القرار الذي ادى بعد اربعين عاما لقيام الكيان الاسرائيلي في قلب الامة ليكون العامل الاهم لإبقائها عاجزة عن تحديد مصيرها او صناعة قراراتها.
وثمة اجماع على ان قضية فلسطين تمثل اساس الاضطراب السياسي في المنطقة، وان ذلك الاضطراب مطلوب ليستمر النفوذ والهيمنة. ولذلك يقول المحللون الواعون ان الشرق الاوسط لن يستقر ما دامت قضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين عالقة.
وعد بلفور تحول إلى واقع بعد اربعة عقود من صدوره، فعلى اساسه قام الكيان الاسرائيلي وبدأت محنة الشعب الفلسطيني. وبرغم الاخفاقات التي واجهها العرب والمسلمون الباحثون عن حل لتلك المشكلة، فان بقاءها بدون حل دائم يعني استمرارها من جهة وبقاءها مصدرا للوعي الشعبي بحثا عن الحرية والحقوق من جهة اخرى.
والواضح ان استمرار قضية فلسطين عامل مهم لتفجر قضايا وازمات اخرى في المنطقة.
فاذا كانت سبل الهجرة غير متوفرة للفلسطينيين بعد قيام كيان الاحتلال، فان الازمات المتجددة خصوصا الحالية منها توفرت لها مسارات عديدة لتسهيل مهمة هجرة ابنائها بحثا عن مأمن وعيش آمن. واصبح على الغرب ان يتحمل تبعات ذلك بشكل عملي.
صحيح ان الهجرة في بعض حالاتها مرتبطة بالاوضاع الاقتصادية للبلدان العربية والافريقية، ولكن الصحيح ايضا ان استمرار الاضطراب السياسي والعسكري والامني لا يقل اهمية كعامل دافع نحو الهجرة الجماعية باتجاه الغرب. وحتى الآن لا يبدو الغربيون قادرين على استيعاب حقيقة جوهرية بان هذه الهجرة ناجمة، بشكل كبير، عن تدخلاتهم العسكرية او السياسية في المنطقة، وكذلك لغياب الاستقرار والامن الناجمين عن انعدام الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
فكما ان ازمة اليهود قبل مائة عام كانت بسبب الاضطهاد الذي عانوه في البلدان الغربية، فان تدفق اللاجئين في الوقت الحاضر ناجم عن سياسات مماثلة.
هذه السياسات تحول دون استيعاب الغربيين للحقيقة التي كررها المحللون والسياسيون بان استمرار قضية فلسطين تعتبر مصدرا اساسيا للتوتر السياسي في الشرق الاوسط، وانه ما لم تحل بشكل عادل فسيتواصل الاضطراب والتوتر. المشكلة ان بريطانيا، بدلا من العمل على هذا المحور ما تزال تواصل سياساتها القديمة، الامر الذي يحول دون امن المنطقة واستقرارها، ويمهد لانتشار التطرف والعنف.