أتمت معركة الموصل أمس الاثنين شهرها الأول من القتال الذي تنخرط فيه القوات العراقية النظامية مدعومة بمليشيات “الحشد الشعبي”، وقوات البشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان. وتقاتل هذه القوات المتعددة بكل ثقلها في العمليات العسكرية، مدعومة بغطاء جوي واسع لطيران “التحالف الدولي”، الذي تقوده الولايات المتحدة، وتشارك فيه فرنسا وكندا والمملكة المتحدة وإيطاليا. وفي ظل كل هذا الزخم، دخلت معركة الموصل إذاً في أسبوعها الخامس، وسط تزايد المؤشرات على اقتراب موعد الحسم العسكري وتحرير المدينة من سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
وتخوض القوات العراقية المشتركة معارك ضارية على أغلب محاور القتال ضد عناصر “داعش” الذين يقدر عددهم الآن، بين 4 إلى 5 آلاف مقاتل، بعد خسائر كبيرة مني بها التنظيم طيلة الشهر الماضي، بحسب مصادر عسكرية عراقية. وأحرزت القوات المشتركة تقدماً ملحوظاً كان ثمنه تعرضها لخسائر كبيرة أيضاً، إضافة إلى نزوح أكثر من 50 ألف شخص من أطراف الموصل وسط ظروف إنسانية صعبة.
وشهدت العملية العسكرية في الموصل خلال الأيام الماضية، تباطؤ في حركتها نتيجة تعرض القوات المهاجمة لخسائر جسيمة بعد انتقال المعارك والمواجهات مع “داعش” إلى داخل أحياء وأزقة المدينة، خصوصاً في المحور الشرقي منها. وأدى ذلك إلى انسحاب سلاح الدروع والدبابات وتدخل مروحيات الأباتشي الأميركية التي وفرت غطاءً جوياً، مما رجح كفة القوات العراقية في السيطرة على عدد من الأحياء المهمة في الجانب الأيسر من الموصل، بحسب مصدر عسكري عراقي.
وعلى خلاف التوقعات بطول المعركة لأشهر عدة قبل استعادة المدينة، تشير مجريات المعارك إلى أن الحسم قد يكون قريباً بعد انتقال القتال إلى داخل المدينة. لكن مصادر عسكرية تؤكد أن الوصول إلى قلب الموصل لا يعني انتهاء المعركة على الإطلاق، لأن التضاريس الجغرافية توفر ملاذاً آمناً لـ”داعش” الذي من المتوقع أن يستمر في هجماته اليومية وعملياته الانتحارية. وبحسب التقارير العسكرية الصادرة عن وزارة الدفاع العراقية، فإن 140 قرية وبلدة وناحية ومدينة تمت استعادتها منذ انطلاق معارك الموصل وفي محاورها السبعة.
وكانت نقطة انطلاق القوات العراقية المشتركة أول أيام المعركة تبعد 29 كيلومتراً عن أول أحياء المدينة من المحور الشرقي، و33 كيلومتراً من المحور الشمالي، و60 كيلومتراً من المحور الجنوبي. وظل المحور الغربي ساكناً لأكثر من 10 أيام قبل أن تتحرك مليشيات “الحشد” باتجاه مدينة تلعفر ترافقها وحدات الحرس الثوري الإيراني. ونجحت تلك القوات في استعادة السيطرة على ما مجموعه 1589 كيلومتراً، كما تم قتل أكثر من 1500 مسلح من عناصر “داعش” وجرح مئات آخرين، تؤكد التسريبات من داخل الموصل أن قسما كبيرا منهم من جنسيات غير عراقية.
وبدت الأوضاع الميدانية على محاور القتال كالتالي:
المحور الشرقي: تتولى إدارته قوات مكافحة الإرهاب والجيش العراقي وتدور المعارك حالياً داخل أحياء القادسية وعربجية والبكر والمثنى. وتم حسم الموقف لصالح جهاز مكافحة الإرهاب في أحياء الشيماء والميثاق والوحدة والسلام والقدس والكرمة وعدن والزهراء والإخاء والسماح والانتصار والتلفزيون وكوكجلي.
المحور الشمالي: تتولى قوات البشمركة الكردية إلى جانب قوات “حشد سهل نينوى”، المكونة من مقاتلين من الديانة المسيحية والطائفتين الأيزيدية والشبكية، إدارة العمليات العسكرية في هذا المحور. وتدور حالياً المعارك في أحياء الكندي والكفاءات والحدباء ونيسان والنهضة، في الوقت الذي حسمت فيه المعارك لصالح الجيش في أحياء ومناطق الشلالات ودجلة وسادة بعويزة والبناء الجاهز.
المحور الجنوبي: الذي تتولى مسؤوليته مليشيات “الحشد” وقوات الفرقة التاسعة في الجيش العراقي والشرطة الاتحادية. وقال قائد الشرطة الاتحادية، الفريق رائد شاكر جودت، لـ”العربي الجديد” إن قواته تستعد للتوغل إلى داخل أحياء مدينة الموصل من الجهة الجنوبية بعد استعادة كل المناطق الواقعة في الجبهة الجنوبية، وصولاً لأطراف مدينة الموصل. كما أشار ضابط في قوات الشرطة الاتحادية لـ”العربي الجديد” إلى أن “القوات المشتركة تعمل الآن على إعادة ترتيب صفوفها من أجل بداية المرحلة الثانية من العمليات العسكرية في المحور الجنوبي والتي تهدف إلى اقتحام الأحياء الجنوبية لمدينة الموصل واستعادة السيطرة على مطار الموصل، مبيناً أنه قد يتم البدء باقتحام حي اليوسف، أول أحياء المدينة من المحور الجنوبي. يشار إلى أن محور جنوب الموصل شهد حدوث موجة نزوح كبيرة لأهالي منطقة حمام العليل وعشرات القرى في جنوب المدينة، بسبب اشتداد المعارك والقصف المتبادل بين قوات الشرطة الاتحادية وعناصر “داعش” الذين كانوا متحصنين في أزقة الأحياء السكنية.
المحور الغربي: تقوم مليشيات “الحشد الشعبي”، بجميع فصائلها، بشن عمليات عسكرية متواصلة بمشاركة نحو 15 ألف عنصر من عناصرها، للسيطرة على المناطق الريفية والقرى الواقعة غرب وجنوب غرب الموصل، وصولاً إلى مدينة تلعفر (غرب)، فضلاً عن إحكام الطوق العسكري على الموصل وقطع الطرق المؤدية إلى مناطق غرب العراق المحاذية للحدود العراقية مع سورية. وتدور اشتباكات على بعد 12 كيلومتراً من مطار مدينة تلعفر بين “داعش” والمليشيات، في ظل غياب غطاء “التحالف الدولي” ودور ضعيف للطيران العراقي الذي ينشغل بتأمين أجزاء غرب العراق من هجمات متكررة لـ”تنظيم الدولة” تهدف لإعادة إسقاط مدن مثل الرطبة وهيت.
وأعلن ضابط في جهاز مكافحة الإرهاب، فضل عدم الكشف عن اسمه، أن “المعارك الجارية في محاور الموصل تشهد قتالاً متواصلاً في معركة تكاد تكون الأعنف في العراق، منذ الاحتلال الأميركي عام 2003”. وأضاف متحدثاً عبر الهاتف مع “العربي الجديد”، أن “الأكيد هو دخولنا الموصل قبل نهاية العام ورفعنا العلم العراقي على المجمع الحكومي، لكن لا نعلم متى سيتوقف إطلاق الرصاص في المنطقة بشكل عام”، في إشارة إلى محافظة نينوى. وغمز من قناة القادة السياسيين في العراق قائلاً: “ندعو الله أن يمسك السياسيون في أربيل وبغداد ألسنتهم حالياً لحين انتهاء المعارك، فأي اختلاف أو مشاكل ستؤثر على اتفاقنا العسكري في تأليف القوات المشتركة التي تقاتل اليوم بالمعركة” الهادفة لتحرير الموصل من “داعش”.
المدنيون يدفعون الثمن
وتشير تقارير محلية حصلت عليها “العربي الجديد”، إلى بلوغ عديد القتلى والجرحى في صفوف المدنيين إلى 1257 حتى مساء الاثنين، أغلبهم نساء وأطفال سقطوا جراء القصف الجوي والصاروخي. وبلغ عدد الجرحى 896 جريحاً خلال الشهر الحالي للمعارك. لكن مصادر طبية في مستشفى الموصل تؤكد أن الحصيلة غير دقيقة كون هناك الكثير من الضحايا تم دفنهم في حدائق المنازل وعلى جادات الطرقات في الأحياء التي تشهد الاشتباكات الآن، على غرار ما حصل مع عائلة أستاذ جامعي قتلت بقصف مدفعي وتم دفن جميع الضحايا في حديقة المنزل من قبل الجيران في أحد أحياء الموصل الشرقية. وبدا الدمار كبيراً في الأحياء التي تشهد اشتباكات منذ أسبوع، في المناطق الواقعة بين شمال وشرق الموصل. وهذا الأمر ينذر بخراب كبير في حال استمر “داعش” بقتاله داخل الموصل.
شراسة المعارك
وتتضاعف خسائر القوات المهاجمة كلما توغلت أكثر داخل أحياء الموصل وغاب الطيران، مجبراً، عن الدعم، وتخلي الجنود عن الأسلحة الثقيلة كالدبابات والدروع التي لا تقدر على الولوج إلى أزقة وشوارع الساحل الأيسر الضيقة. ووفقاً لتقديرات حصلت عليها “العربي الجديد” من مصادر في وحدة الطبابة العسكرية، فإن “أكثر من ألفي قتيل من الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وأفواج الطوارئ ووحدات التدخل السريع وقوات حرس نينوى (أبناء العشائر) وقوات البشمركة الكردية ومليشيات الحشد الشعبي، سقطوا خلال الشهر الأول من المعارك”. وتشير المعطيات نفسها إلى “نقل نحو 5 ألاف آخرين إلى مستشفيات في بغداد وأربيل والسليمانية وآخرين نقلوا إلى ألمانيا، وكذلك إلى طهران وتركيا”.
في المقابل، تظهر خسائر تنظيم “داعش” أنه فقد أكثر من 1500 عنصر من مقاتليه غالبيتهم عراقيون وبينهم عناصر أجنبية قيادية ونحو ألف آخرين من الجرحى نقل أغلبهم إلى سورية للعلاج هناك بحسب مصادر من داخل الموصل تحدثت معها “العربي الجديد” عبر الإنترنت.
الجانب الإنساني غائب
وفي الجانب الإنساني، ألقت معارك السيطرة على مدينة الموصل بظلالها القاتمة على أوضاع سكانها الذين وجدو أنفسهم وسط ساحات معارك حقيقية، دون أن تنجح جهود الحكومة العراقية والمنظمات الدولية في استيعاب موجات النزوح المتواصلة أو توفير ممرات آمنة للمدنيين العالقين وسط محاور القتال.
ودعت المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، القوات العراقية إلى “الحفاظ على أرواح المواطنين وتوفير ممرات آمنة لإخراجهم من مناطق الاشتباك”. وجاء في بيان للمفوضية “إننا ندعو القوات الأمنية بكافة أصنافها والطيران العراقي وطيران التحالف الدولي إلى ضرورة الحفاظ على أرواح المواطنين وتوفير ممرات آمنة لإخراجهم من مناطق الاشتباك، كون عصابات داعش تتخذ منهم دروعاً بشرية”، وفق البيان. وجاءت دعوة المفوضية العليا لحقوق الإنسان بعد ورود تقارير أكدت مقتل وجرح عدد من المدنيين خلال محاولتهم الفرار من مناطق القتال في أطراف الموصل. وأعلنت مصادر عسكرية عراقية “مقتل وجرح عدد من النازحين الفارين من مناطق شرق مدينة الموصل بعدما قام عناصر “داعش” بقصف المناطق التي تسيطر عليها القوات الأمنية، بقذائف الهاون”.
وتفاقمت معاناة النازحين من سكان الموصل وتحديداً في بلدة حمام العليل التي سيطرت عليها قوات الشرطة الاتحادية، إذ وجد سكان هذه المدينة أنفسهم من دون خدمات أساسية. وأدت العمليات العسكرية إلى تدمير شبكة الكهرباء والماء فضلاً عن انعدام الخدمات الطبية واللوازم الطبية. وقال قائممقام مدينة الموصل، حسين علي، لـ”العربي الجديد” إن “جميع المشاريع الخدمية الهامة مثل الماء والكهرباء والصحة متوقفة بشكل نهائي في الناحية”، محذراً من “وقوع كارثة إنسانية قد لا يحمد عقباها في حال استمر الوضع لفترة أطول”، على حد قوله. ودعا “الحكومة العراقية والمنظمات الإنسانية الإقليمية والدولية للإسراع بتقديم الخدمات الأساسية للعائلات في ناحية حمام العليل”.
كما شهد المحور الشرقي من الموصل استمرار عمليات نزوح المدنيين الفارين من مناطق الاشتباكات في الأحياء الشرقية من مدينة الموصل باتجاه مخيم الخازر. وقال الناشط في المنظمات الإنسانية المحلية، محمد البياتي، أن “العائلات النازحة من مناطق شرق مدينة الموصل لا تزال تواصل القدوم إلى مخيم الخازر بعد خروجهم من مناطقهم التي تشهد حالياً حرب شوارع بين قوات الأمن العراقية وعناصر داعش”. وأضاف لـ”العربي الجديد” أن “مخيم الخازر أصبح مليئاً بالعائلات النازحة ولم يعد فيه متسع لاستقبال المزيد من الأسر، إذ نتوقع وجود أكثر من عشرين ألف نازح في مخيم الخازر فقط”، وفق تقديره. وأكد أن هنالك “ضغطاً هائلاً يقع على عاتق المنظمات الإنسانية العاملة في هذه المنطقة نتيجة لتزايد أعداد النازحين المستمر وعدم توفر الإمكانات المادية الكافية لإغاثة النازحين”.
من جانبها، أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية في بيان لها، عن ارتفاع أعداد النازحين من مدينة الموصل لأكثر من 50 ألف نازح خلال اليومين الماضيين، مع استمرار موجات النزوح من مناطق الموصل، والتي تنذر بوقوع كارثة إنسانية كبيرة لطالما حذرت منها المنظمات الدولية والمحلية.