خلال الحملة الانتخابية الأميركية كنت بين قلة من غير الأميركيين الذين تمنوا فوز دونالد ترامب في رئاسة الولايات المتحدة، وسط هيمنة كاملة من وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي الأميركية التي توقعت هزيمة مذلة له.
دوافع هذا الشعور هي البحث عن التغيير، مهما كانت سلبياته فلن تكون أسوأ مما حصل، والدافع المهم الآخر الذي تملكني هو الإحباط العام الذي عاشه العراقيون من أربعة رؤساء أميركيين سابقين من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي منذ أواخر عام 1989 وحتى اليوم (بوش الأب وبيل كلينتون وبوش الابن وباراك أوباما). كان بوش الابن أكثرهم إيغالا في تدمير العراق؛ فقد غزا العراق تحت تأثير عقائد تلمودية حول القضاء على “يأجوج ومأجوج”، ودمر دولته وأشاع الفوضى وجلب الطائفيين لحكمه وأسس لبدعة متخلفة في الحكم لا تليق بالولايات المتحدة راعية الديمقراطية وهي “الحكم الطائفي العرقي” الموشح بالفساد بدلا عن الحكم المدني، موهماً المنطقة بأن ما يجري في العراق بعد 2003 هو قاعدة “مشعة” لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أسقطه العراقيون بصمودهم وإلحاقهم الهزيمة بالاحتلال.
وحين وصل أوباما إلى الحكم عام 2008 بعد وعود حملته الانتخابية بالتغيير في الملف العراقي بكونه كان أحد المناوئين للحرب ضد العراق استبشر العراقيون، لكنه وتحت تأثير فلسفته الغامضة القائمة على الابتعاد عن نيران الشرق الأوسط ابتدع نظريته الإستراتيجية الفاشلة تجاه العراق والمنطقة، بإعطاء الدور الإستراتيجي القائد لإيران بدلا عن العرب بتحقيق الاتفاق النووي، بل إنه أعلن أكثر من مرة أن بلاده لا تمتلك إستراتيجية في العراق والمنطقة، خصوصاً بعد الظهور المفاجئ لداعش وتسلل مقاتليه إلى كل من العراق وسوريا، ووظيفتها الجديدة تعزيز الحروب المحلية وإثارة النعرات الطائفية والعرقية إلى درجة اتهام ترامب لأوباما والمرشحة هيلاري كلينتون بأنهما وراء ظهور داعش.
فماذا كسب العراقيون من أوباما؟ بعد تنامي الانقسام والتمزيق الطائفي المدبر بالرعايتين الأميركية والإيرانية، حاول أوباما إيهام العرب السنة في العراق بوعود إزالة الظلم وتعديل قاعدة التوازن الطائفي، لكنه أغمض عينيه عن جميع الانتهاكات التي نفذت بحقهم خصوصا بعد تنامي دور الميليشيات المسلحة وغياب الدولة والقانون والقضاء عن حماية الناس وحقوقهم، خصوصا بعد رحيل قوات الاحتلال عام 2011 إلى درجة أن الجهات المتطرفة داخل الأحزاب الشيعية اتهمت العرب السنة باعتمادهم على القوات الأميركية لحمايتهم، وشيوع الفساد والنهب الذي تورط به قائد الاحتلال الحاكم بول بريمر المتهم بسرقة عشرين مليار دولار.
كل ما فعلته إدارة أوباما هو رفع ثقتها برئيس الوزراء نوري المالكي ونصبت برضى إيراني حيدر العبادي بدلا عنه دون تنفيذ لوعودها واشتراطاتها على الحاكم الجديد بتغيير معادلة التوازن في الحكم، وتم الإبقاء على المحاصصة الطائفية، وتقاسم داعش والميليشيات المدعومة من إيران المسلسل الكارثي ضد السنة؛ داعش يدمر ويهجر والميليشيات تمنع عودة الناس للديار برعاية إدارة أوباما. ولم يسلم أبناء الشيعة من ظلم المتحدثين باسمهم. وبعد هذا الخراب ماذا ينتظر العراقيون من ترامب؟ وسط ما تركت شخصيته وإعلاناته المشوشة من انطباع غامض عما سيحدث تجاه العراق والمنطقة.
كان ترامب ضد الحرب على العراق ومعها في آن واحد، حيث وصفها بأنها ستؤدي إلى هلاك البلد وأن إيران ستتزعم المنطقة، لكن في مقابلة سابقة له تعود إلى سنة 2002 سئل عما إذا كان يؤيد الحرب في العراق فأجاب “نعم أعتقد ذلك”. وفي الوقت نفسه عبر عن حسرته على رحيل صدام حسين عن السلطة مشيرا إلى “وجود رابط بين سقوطه وتقوية أعمال الإرهاب في العراق”. لكنه في الوقت ذاته يريد تطبيق نظرية “غنائم الحروب” فرفض خروج القوات الأميركية دون الحصول على عوائد مما صرفته الولايات المتحدة من أموال قدرت بـ3 تريليون دولار وفكرته هذه طرحها منذ عام 2011 حين كانت القوات الأميركية في العراق؛ فقد جاء في تصريح صحافي له في صحيفة وول ستريت أن هذه هي سياسته لإدارة التدخل الأميركي في العراق حيث قال “لقد سمعتموني، سأستولي على النفط. فلن أرحل عن العراق وأترك الساحة لإيران للاستيلاء على النفط كله”. كما أصر وفقاً لقناة آي بي سي الإخبارية على أن هذه العملية لا تعد عملية سرقة لموارد وطنية؛ “إننا لا نسرق شيئا، نحن نعمل على التعويض لأنفسنا، فعلى الأقل سنسترد فقط قيمة 1.5 تريليون دولار مما قمنا بإنفاقه في حربنا على العراق، ولكني أطمع في المزيد”. ولاقت فكرته هذه الكثير من النقد من قبل خبراء الإستراتيجيا والطاقة الأميركان وأبرزهم جاي هيكس مؤلف كتاب “إعلان الاستقلالية في مجال الطاقة” حيث كتب في صحيفة ريال كلير إينيرجي أن جين دوجلاس ماك آرثر المثل الأعلى لـدونالد ترامب قد فعل العكس تماماً عند احتلال اليابان “حيث قام ماك آرثر بإحضار المعونات والمواد الغذائية لإطعام اليابانيين وإنهاء المجاعة هناك، وبتخلي الولايات المتحدة عن غنائم حربها مع اليابان كسب ماك آرثر والولايات المتحدة احترام اليابانيين والعالم أجمع مما جعل من الولايات المتحدة الأميركية رمزاً رائداً وقيادياً للعالم الحر”.
المحور الثاني هو هجوم ترامب على إيران ونفوذها في العراق والمنطقة ويسعى حسب حملته إلى إعادة النظر في الاتفاق النووي الإيراني، وهو القاعدة الإستراتيجية الحيوية لإيران والتي وهبها لها أوباما، رغم أن هذا الموقف الانتخابي لترامب لا يشير لحد اللحظة إلى سياسة جدية قابلة للتنفيذ. وإذا تحدثنا عن الحزب الجمهوري، ففي ظل حكم بوش الابن تحققت صفقة الاتفاق الإيراني الأميركي لغزو العراق حسب وثائق وتصريحات السفير الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زاده الذي أشار قبل عدة أسابيع إلى اجتماعاته مع السفير الإيراني الأسبق في جنيف وزير الخارجية الإيراني الحالي جواد ظريف، حيث التزمت إيران بموجب الاتفاق المذكور بعدم عرقلة ذلك الغزو الغادر. فأي موقف سيتخذه دونالد ترامب الجمهوري من ملف إيران في العراق والمنطقة؟ هل سيتنصل من الاتفاق النووي وبذلك يتأثر الوضع العراقي مباشرة لما تمتلكه إيران من نفوذ فعلي كامل داخله؟ وهل سيخرج عن سياسة حزبه في هذا الشأن، وسط تصاعد الأزمات بين إيران ودول الخليج في الفترة الأخيرة؟
وإذا كانت سياسة ترامب جدية في تقليم أظافر إيران حسب وعوده فماذا تعني تصريحاته بشأن الحرب على داعش وهي القضية الأميركية الحالية الأولى والذي التزم بالقضاء عليه في كل من العراق وسوريا حتى وإن تطلب الأمر إرسال قوات على الأرض؟ وماذا تعني مغازلته لنظام بشار الأسد وتحالفه مع روسيا في سوريا؟ وأين إيران من ذلك في الوقت الذي يتم فيه تداول دعوات إلى تحالف ثلاثي، أميركي روسي إسرائيلي، في المنطقة، هل ستكون إيران خارجه وهي الحليفة لروسيا في سوريا؟
كان ترامب واضحا في تحالفاته الإستراتيجية مع قيادة كردستان، وهذا لا يعني أيّ موقف من الحكم في بغداد، ويبدو أن الدخول في تفصيلات الملف العراقي ما زال مبكراً فترامب بحاجة إلى إنشاء طاقمه الرئاسي والوزاري والأمني ومستشاريه للسياسة الخارجية في البيت الأبيض، وما رشح من أسماء للخارجية يعطي الانطباع بالعودة إلى الكارتل السياسي الجمهوري المعروف بالوضوح والتصدي لتنفيذ السياسات بعد هدوء عاصفة الفشل لهيلاري كلينتون، ولا يعرف إلى أي مدى سيتسلل دهاة اليمين المتطرف إلى إدارة ترامب.
المهم أن ما يريده العراقيون من ترامب فعلياً هو تخلي إدارته الجديدة عن دعم دعاة الطائفية السياسية، والعمل على تغيير شامل في سياسات الأجهزة الأميركية داخل العراق التي أفرزت سياسيي الصدفة وحولتهم إلى نمور من ورق، ولا يهم أبناء العراق أن تتم مقايضة هذه السياسة المرتجاة ليس بتريليون ونصف تريليون دولار وإنما بدفع ثلاثة تريليون دولار مقابل تعطيل البرنامج الظلامي الذي نفذ بحقهم منذ عام 2003.
إلى حد اللحظة هناك مؤشرات على أن ترامب ليس صديقا ولا مهادناً للفكر الإسلامي المتشدد في المنطقة الذي يشكل حكم بغداد نموذجه الأسوأ لارتباطه بالطائفية والفساد، وعلاقة ذلك بما جرى من نفوذ إيراني كامل في العراق، وستتضح ملامح سياساته قريباً، وهي فرصة حيوية للعراقيين للخلاص وطي هذه الصفحة السوداء، والبدء بمرحلة جديدة من الحكم المدني العصري.