في نهاية المطاف، أصبحت هيلاري كلينتون وجهاً لمؤسسة فاسدة ومتغطرسة وفاقدة للمسة، بينما ظهر دونالد ترامب كوعاء غير مثالي بطريقة مثالية لغضب شعبي كان يتفاعل تحت السطح في أميركا.
هناك بوضوح الكثير مما يجب الخوف منه من رئاسة ترامب، خاصة عندما تكون مصحوبة باستمرار سيطرة الحزب الجمهوري على الكونغرس. وكان ترامب والعديد من الجمهوريين قد أنكروا واقع تغير المناخ؛ وهم يفضلون المزيد من خفض الضرائب لصالح الأثرياء؛ ويريدون رفع القيود عن وول ستريت وصناعات قوية أخرى –وهي كل السياسات التي ساعدت على خلق الفوضى الراهنة التي تعيشها الولايات المتحدة والكثير من بقية العالم في الوقت الراهن.
بالإضافة إلى ذلك، تبقى شخصية ترامب إشكالية، على أقل تقدير. فهو يفتقر إلى المعرفة والكياسة التي يرغب المرء في رؤيتها في الرئيس -أو حتى عند مسؤول عام أقل قوة منه بكثير. فقد تحدث لصالح العنصرية، وكراهية النساء، والفوقية البيضاء، والتعصب الديني تجاه المهاجرين والإجحاف بحق المسلمين. وهو يفضل التعذيب ويريد بناء جدار عملاق على طول حدود أميركا الجنوبية.
لكن الناخبين الأميركيين اختاروه في جزء منه، لأنهم شعروا بالحاجة إلى أداة حادة لتهشيم المؤسسة التي حكمت أميركا وأساءت حكمها في العقود السبعة الماضية على الأقل. وهي مؤسسة لم تضع يدها على كل الثروة الجديدة التي انتجها البلد تقريباً فحسب، وإنما أرسلت الجيش الأميركي أيضاً إلى حروب من اختيارها، وكأن أرواح الجنود الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة قليلة القيمة.
في السياسة الخارجية، أحالت المؤسسة صنع القرار إلى المحافظين الجدد وإلى أتباعهم من التدخليين الليبراليين، وهم مجموعة من النخب المتكبرة التي غالباً ما تُخضع المصالح الأميركية لمصالح إسرائيل والسعودية، بهدف تحقيق مزية سياسية أو مالية.
كانت خيارات الحرب التي أقدم عليها الائتلاف الصقري من المحافظين الجدد والليبراليين كارثية -من العراق إلى أفغانستان إلى ليبيا إلى سورية إلى أوكرانيا- لكن هذه المجموعة التي تزعم معرفة كل شيء لم تختبر المساءلة أو المحاسبة. ويتنقل نفس الناس، بمن فيهم محاربو الكراسي في وسائل الإعلام “علماء” المؤسسات الفكرية من كارثة إلى أخرى من دون تداعيات على “فكر المجموعة” الذي صنعوه. وكان أحدث شيء هو افتعالهم حرباً باردة جديدة مكلفة وخطيرة مع روسيا.
مع كل عيوبه، كان ترامب من قلة من الشخصيات العامة الرئيسية التي تجرأت وتحدت “فكرة المجموعة” الخاص بالأماكن الساخنة والمتوترة في سورية وروسيا. وفي ردها على ذلك، اختارت كلينتون والعديد من الديمقراطيين الانخراط في مكارثية خام، مع قيام كلينتون بوصف ترامب، خلال المناظرة الرئاسية الأخيرة، بأنه “دمية” فلاديمير بوتين.
من اللافت إلى حد كبير أن هذه التكتيكات فشلت؛ وأن ترامب تحدث عن التعاون مع روسيا بدلاً من التحدث عن المواجهة معها، وكسب. ويعني انتصار ترامب أنه بدلاً من تصعيد الحرب الباردة مع روسيا، فإن هناك إمكانية لخفض وتيرة التوتر.
التنصل من المحافظين الجدد
وهكذا، فإن انتصار ترامب يؤشر على تنصل من التشددية الأرثوذكسية الصقرية للمحافظين الجدد والليبراليين، لأن الحرب الباردة الجديدة كانت محتضنة في الجزء الضخم منها من جانب المؤسسات الفكرية الصقرية للمحافظين الجدد والليبراليين، والتي ولدت من المسؤولين ذوي التفكير المشابه في وزارة الخارجية الأميركية، وتغذت بالدعاية في عموم الإعلام الغربي في الاتجاه السائد.
كان الغرب، وليست روسيا، هو الذي تسبب في المواجهة حول أوكرانيا من خلال المساعدة في تنصيب نظام معادٍ لروسيا بشدة على حدود روسيا. وأنا أعرف أن إعلام الاتجاه السائد الغربي صور القصة كـ”عدوان روسي”، لكن ذلك كان دائماً تشويها كبيراً.
كانت هناك طرق سلمية لتسوية الخلافات الداخلية في داخل أوكرانيا من دون انتهاك العملية السلمية، لكن المحافظين الجدد الأميركيين -مثل مساعدة وزير الخارجية فكتوريا نولاند والليبراليين الجدد الأثرياء، مثل المضارب المالي جورج سوروس- دفعوا باتجاه انقلاب أطاح بالرئيس المنتخب فكتور يانوكوفيتش في شباط (فبراير) من العام 2014.
وكانت استجابة بوتين، بما في ذلك قبوله لاستفتاء القرم الجامح بالعودة إلى روسيا ودعمه للثوار الروس الإثنيين في أوكرانيا الشرقية من المعارضين لنظام الانقلاب في كييف، هي رد فعل على أعمال الغرب العنيفة والمزعزعة للاستقرار. ولم يكن بوتين هو الذي حرض على المشاكل وأثارها.
وعلى نحو مشابه في سورية، اشتملت استراتيجية الغرب “لتغيير النظام” التي تعود وراء إلى خطط المحافظين الجدد في منتصف التسعينيات، على التعاون مع تنظيم القاعدة والجهاديين الإسلاميين الآخرين لإسقاط حكومة بشار الأسد العلمانية. ومرة أخرى، رسمت واشنطن الرسمية وإعلام الاتجاه السائد الصراع على أنه كله خطأ الأسد، لكن تلك لم تكن الصورة الكاملة.
منذ تفجر الصراع السوري في العام 2011 كان “حلفاء” الولايات المتحدة في المنطقة يساعدون الثورة؛ حيث كانت تركيا ودول الخليج تمرر الأموال والأسلحة إلى جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة -وحتى لفرخ القاعدة، “داعش”.
وعلى الرغم من أن الرئيس باراك أوباما أحجم عن التدخل المباشر الذي دافعت عنه في حينه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، فإنه مضى في نهاية المطاف إلى نصف الطريق، مؤكداً الضغط السياسي عبر الموافقة على تدريب وتسليح من يدعون ” المعتدلون” الذين انتهوا إلى القتال مع جبهة النصرة وغيرها من الجهاديين في تنظيم أحرار الشام.
كان ترامب غير واضح وغير محدد في وصف السياسات التي سينتهجها في سورية، بالإضافة إلى اقتراح أنه سيتعاون مع الروس لتدمير “داعش”. لكن ترامب لم يبد أنه فهم دور تنظيم القاعدة في السيطرة على شرق حلب وغيره من الأراضي السورية.
أرض غير مستكشفة
وهكذا، أغرق الناخبون الأميركيون الولايات المتحدة والعالم في أراضٍ غير مستكشفة خلف الرئيس المنتخب الذي يفتقر إلى عمق المعرفة في طائفة واسعة من القضايا. وسيكون موضوع من سيرشد الرئيس ترامب اليومت هو الموضوع الأكثر إلحاحاً.
هل سيعتمد على الجمهوريين التقليديين الذين فعلوا الكثير لتشويش البلد والعالم، أم أنه سيجد أناساً واقعيين نيري التفكير، والذين يعون السياسة التي تناسب المصالح والقيم الأميركية.
بالنسبة لهذه اللحظة الخطيرة وغير اليقينية، تستحق مؤسسة الحزب الديمقراطي حصة ضخمة من اللوم. فعلى الرغم من الإشارات على أن العام 2016 سيكون عاماً لمرشح مناهض للمؤسسة -ربما مثل عضو الكونغرس إليزابيث وورين أو السناتور بيرني ساندرز- قررت القيادة الديمقراطية أنه كان “دور هيلاري”.
تم إحباط البدائل، مثل وورين، عن دخول السباق الرئاسي بحيث يكون هناك “تتويج” كلينتون. وترك ذلك المرأة الاشتراكية البالغة من العمر 74 عاماً من فيرمونت لتكون العائق الوحيد لتسمية كلينتون، ليتبين لاحقاً أن ساندرز هو المتحدي الصعب. لكن ترشحه ووجه في نهاية المطاف بالرفض من جانب الداخليين الديمقراطيين، بمن فيهم “المندوبون السوبر” غير المنتخبين الذين منحوا كلينتون تقدماً مبكراً بدا وأنه غير قابل للتغلب عليه.
مع وجود الغمامات مثبة بحزم على الأعين، ربط الديمقراطيون أنفسهم بمقدمة عربة كلينتون وحاولوا سحبها على الطريق إلى البيت الأبيض. لكنهم تجاهلوا حقيقة أن العديد من الأميركيين وصلوا إلى رؤية كلينتون كتجسيد لكل ما هو خطأ في عالم واشنطن الرسمي الفاسد والانعزالي. وأعطانا ذلك الرئيس المنتخب، دونالد ترامب.
روبرت ماري
صحيفة الغد