يواصل المسؤولون السياسيون والعسكريون الروس المعنيون بالملف السوري إطلاق سيل من المواقف المتضاربة بخصوص معركة حلب، وفي نطاق أشمل إزاء الأزمة السورية ككل.
وتحفل غالبية تلك التصريحات بتناقضات تثير إشارات استفهام كبيرة حول الهدف من ورائها، إذ لا يمكن اعتبارها بمثابة هفوات، بل الأقرب إلى القراءة الموضوعية أنها مقصودة، والغاية منها إرسال رسائل حمالة أوجه إلى عناوين مختلفة، على سبيل جس النبض واستطلاع التغيرات المحتملة في المواقف وردود الأفعال، جنبا إلى جنب مع إقدام موسكو على عدد من الخطوات والإجراءات العسكرية النوعية لتعزيز حضورها وإظهار جديتها وعدم ترددها في المضي نحو مرحلة أعلى من استخدام الخيار العسكري.
الكرملين يبدأ الحملة
أعلنت روسيا في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن تعليق طلعات الطيران الحربي الروسي والسوري في سماء حلب، وأعلنت بعدها هدنة إنسانية لمدة أربعة أيام (من 20- 24 أكتوبر/تشرين الأول).
ووفقا لما أعلنه المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في 28 أكتوبر/تشرين الأول رفض الرئيس بوتين استئناف الغارات الجوية الروسية على مدينة حلب، حيث رأى على حد ما نقله عنه بيسكوف أن “استئناف الضربات الجوية على حلب غير ضروري الآن”، وربط بوتين ذلك بما أسماه “إعطاء الولايات المتحدة الوقت اللازم لفصل الجماعات الإرهابية عن المعارضة المعتدلة، والسماح للمقاتلين والمدنيين بمغادرة حلب”، المقصود بالطبع الأحياء الشرقية منها التي تسيطر عليها المعارضة. بيد أن بوتين شدد على أنه “في حال دعت الحاجة فإن روسيا ستستخدم كل الوسائل المتاحة لها” لدعم قوات النظام السوري.
“تحفل تصريحات المسؤولين الروس حول معركة حلب بتناقضات تثير إشارات استفهام كبيرة حول الهدف من ورائها، إذ لا يمكن اعتبارها كهفوات، بل الأرجح أنها مقصودة، والغاية منها إرسال رسائل حمالة أوجه إلى عناوين مختلفة، على سبيل جس النبض واستطلاع التغيرات المحتملة في المواقف “
من الواضح أن تصريح بوتين مليء بالتناقضات، ولا يمكن البناء عليه في البحث عن مقاربات لخلق فرص تمكن من فتح الطريق أمام تسوية سياسية للأزمة السورية، تلعب فيها روسيا دورا متوازنا، أكثر من ذلك، أسس ما قاله بوتين لحملة تصريحات متعارضة، شارك فيها وزيرا الخارجية والدفاع، والعديد من المسؤولين السياسيين والعسكريين والإعلاميين الروس. ووصل التناقض في التصريحات إلى درجة جعلت المحللين والمراقبين يردونها إلى واحد من أمرين لا ثالث لهما: إما أن تكون نتيجة حالة تخبط تعيشها القيادة الروسية، وإما أن تكون تكتيكات تمنح موسكو مساحة كبيرة للمناورة، ولا تلزمها بأي شيء قبل التوصل إلى صفقة مع الولايات المتحدة والغرب.
على سبيل المثال لا الحصر؛ أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره القبرصي في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن بلاده “تعتبر جميع المسلحين في أحياء حلب الشرقية، أهدافا مشروعة، لارتباطهم بجبهة النصرة“.
وفي السياق ذاته قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 1 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري “إن فشل الغرب في كبح جماح الإسلاميين المتشددين في سوريا تسبب في إرجاء استئناف محادثات السلام لأجل غير مسمى”. وأضاف شويغو، في اجتماع لمسئولين عسكريين روس، “حتى ندمر الإرهابيين في سوريا من الضروري أن نعمل معا وألا نضع قيودا على عمل شركائنا، لأن المقاتلين يستغلون ذلك لمصلحتهم”.
بينما أكد المتحدث باسم الكرملين، في اليوم ذاته، أن “الهدنة لا تزال قائمة في الوقت الراهن، والعمل مستمر الآن لضمان خروج المدنيين وإجلاء الجرحى من حلب الشرقية، وخلق الظروف اللازمة لإيصال المساعدات الإنسانية”، وسخر بيسكوف من خبر أوردته صحيفة “تايمز” البريطانية حول توقيع الرئيس بوتين على خطة لاجتياح أحياء حلب الشرقية.
لا يقف التناقض عند حدود التصريحات، بل أيضا يبرز تناقض صارخ في المعلومات والإجراءات المتخذة، فوفقا لما قاله رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني “المسلحون- المقصود مقاتلو المعارضة- يتكبدون خسائر كبيرة، ولم يعد بإمكانهم الهروب من مدينة حلب”، ولا ينسجم مثل هذا القول مع الاستعدادات والحشود العسكرية الكبيرة التي أعلنت عنها وقامت بها موسكو مؤخرا.
ماذا تريد موسكو؟
كان من الملاحظ أن حدة التناقضات في تصريحات المسؤولين الروس ارتفعت على أبواب استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبقيت على حالها بعد الفوز غير المتوقع لدونالد ترمب الذي راهن عليه الكرملين، واعتبر أن نجاحه مكسب كبير لموسكو، في حسابات ربما ستكتشف موسكو لاحقا أنها مراهنة ينطبق عليها المثل الشعبي العربي القائل: “حسابات الحقل شيء وحسابات البيدر شيء آخر”.
لكن حتى الآن تستطيع موسكو أن تصنف نفسها في قائمة الرابحين الكبار بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو ربما (الرابح الأكبر)، غير أنها ستكون معنية بضبط في خطابها وسلوكها خلال الشهرين القادمين، فالحفاظ على علاقاتها مع الرئيس الأميركي المنتخب يملي عليها توخي أعلى درجات الحرص على عدم إحراجه، أو استفزاز إدارة أوباما في الشهرين الأخيرين من ولايتها، إلى حد يجبرها على رد من شأنه خلط الأوراق وتوريث إدارة ترمب مأزقا معقدا سيؤثر على علاقاتها مع الكرملين، والسؤال هنا: ما الذي يمكن أن يقدمه ترمب لروسيا عمليا أكثر مما قدمه أوباما بإحجامه عن اتخاذ أي قرار فاعل بخصوص الأزمة السورية؟
“وصلت حدة التناقض في تصريحات الروس إلى درجة جعلت المحللين يردونها إلى واحد من أمرين لا ثالث لهما: إما أن تكون نتيجة حالة تخبط تعيشها القيادة الروسية، وإما أن تكون تكتيكات تمنح موسكو مساحة كبيرة للمناورة، ولا تلزمها بأي شيء قبل التوصل إلى صفقة مع الولايات المتحدة والغرب”
الرئيس بوتين أجاب مبكرا على هذا السؤال في مداخلة له أثناء مناقشة في إطار منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، الجمعة 17 يونيو/حزيران الماضي، بالقول: “علينا أن نبحث عن نقطة توازن بين مصالحنا ومصالح الغرب”. ووجه بوتين حينها رسالة للولايات المتحدة وحلفائها بإقراره أن سوريا لا تواجه فقط “مشكلة الإرهاب” بل تواجه كذلك “مشاكل سياسية داخلية مهمة أخرى”، كما أكد بوتين في مداخلته أن “موسكو لا تسعى إلى توسيع سلطة الرئيس الأسد، إنما إلى تعزيز الثقة بين مختلف مكونات الشعب السوري من خلال إجراء مفاوضات سياسية”، الأمر الذي أزعج حينها نظام الحكم في دمشق.
إلا أن انخراط موسكو في الأعمال القتالية دعما للجيش النظامي أفقد رسالة بوتين المشار إليها الأهمية المفترضة، وطويت صفحتها بعد أن نفت موسكو ما صرّح به الناطق باسم البيت الأبيض، جوش إيرنست، في 26 أغسطس/آب الماضي، ومفاده أن موسكو تشاطر واشنطن الرأي في تقييم مصير الأسد ومستقبل سوريا، بأنه “ليس من الممكن، من الناحية العملية، بالنسبة له الاستمرار بإدارة شؤون البلاد”.
نقطة التوازن التي تحدث عنها الرئيس بوتين تبدأ من وجهة نظر موسكو بإلغاء واشنطن العقوبات التي فرضها الرئيس باراك أوباما على روسيا عام 2014، ردا على تدخلها في أوكرانيا، وتقدِّر الحكومة الروسية بأن العقوبات كلفت البلاد أكثر من 100 مليار دولار، والتكلفة مرشحة للزيادة بوتيرة أكبر. وللوصول إلى نقطة التوازن المنشودة لابد من أن يعيد حلف الناتو تقييم موقفه من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والتوقف عن تعزيز قواته في شرق أوروبا، وعندها يمكن البحث في حلول متوافق عليها لباقي الملفات، من البديهي أن تقدم فيها روسيا ما يلزم من تنازلات، وفي مقدمة تلك الملفات الأزمة السورية.
مصير الأسد على الطاولة
تزامنا مع يوم الانتخابات الأميركية أعلن مصدر عسكري روسي، في تصريح لموقع “غازيتا رو” الإلكتروني، أن مجموعة السفن التابعة لأسطول الشمال الروسي والتي تضم، بالإضافة إلى “الأميرال كوزنيتسوف”، الطراد الذري الصاروخي الكبير “بطرس الأكبر”، والسفينتين، “سيفيرومورسك” و”الفريق البحري كولاكوف”، المضادتين للغواصات، وصلت إلى سواحل سوريا، وتستعد لضرب مواقع المعارضة في غضون 24 ساعة، بالإضافة إلى وجود 3 غواصات روسية في البحر المتوسط تحمل صواريخ “كالبير” عالية الدقة.
وأضاف المصدر العسكري الروسي: “تكمن المهمة الرئيسية لمجموعة السفن في المشاركة، بالتعاون مع سفن أسطول البحر الأسود، وطائرات من الطيران الإستراتيجي وبعيد المدى، والطائرات الحربية في قاعدة حميميم، في توجيه ضربات جوية وصاروخية إلى المعارضة المسلحة على تخوم حلب، والتي تحاول اختراق المدينة”.
وكتقدير شخصي وليس بناء على معلومات مؤكدة ربما يكون انسحاب قوات المعارضة السورية من بعض المناطق التي سيطرت عليها سابقا في غرب حلب يندرج في إطار تلافي التصعيد الروسي، ويجب عدم استبعاد أن تكون جهات غربية نصحت المعارضة في هذا الاتجاه.
“من المتوقع أن تستمر حالة التناقض في تصريحات المسؤولين الروس إزاء الأزمة السورية، لكن الثابت في رسائل موسكو أنها تريد المساومة، وأي تصعيد قد يحدث مستقبلا يندرج في ممارسة ضغوط لتحسين الموقع التفاوضي، مع استبعاد حرب مفتوحة وحاسمة في حلب”
رغم ما سبق؛ لا يمكن تخيل أن روسيا كان من الممكن أن تقدم على معركة كسر عظم في حلب، قد تقود إلى ردود فعل أميركية وغربية وتركية وعربية خليجية تعقد العلاقات مع موسكو. وهنا يبرز مرة أخرى التناقض في المواقف الروسية المعبر عنها في تصريحات المسؤولين الروس. ففي ذروة التحشيد العسكري الروسي خرج رئيس الوزراء، ديمتري ميدفيديف، في تصريح للقناة الإسرائيلية الثانية أعرب فيه عن أن روسيا لا تمانع تشكيل حكومة دون مشاركة الرئيس الأسد.
ويضع تصريح ميدفيديف مصير الرئيس بشار الأسد على الطاولة مرة ثانية، كورقة مساومة بيد روسيا، سبق لموسكو أن حاولت اللعب بها مبكرا على لسان الرئيس بوتين في مؤتمره الصحفي السنوي 20/12/2012، بإجابته على سؤال بالقول: “نحن لسنا قلقين على نظام بشار الأسد في سوريا، بل نحن قلقون بسبب ما يجري هناك حاليا، نحن ندرك بأن هذه العائلة توجد في السلطة منذ 40 سنة، ولا ريب أن التغييرات لا بد منها” وأضاف “إن ما يقلقنا هو مستقبل سوريا”. وفي أكثر من محطة لاحقة لم تتردد موسكو بالتلويح بهذه الورقة، في شكل مباشر أو من تحت الطاولة، بشرط الاعتراف لها بالحفاظ على مصالحها في سوريا.
واليوم يوجد ثمة من يعتقد في موسكو أن رمي ورقة مصير الأسد على الطاولة مجددا سيثير لعاب ترمب، ولا يفترض التقليل من أهميتها، غير أنها لن تكون كافية لوحدها كمدخل لإعادة تشغيل العلاقات الأميركية الروسية في عهد الإدارة الجديدة في واشنطن، للعديد من الأسباب منها: أن العلاقات الأميركية الصينية هي المحرك الرئيس للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، وليس العلاقات الأميركية الروسية. كما أن العلاقات الوثيقة بين روسيا وإيران ستؤثر سلبا على التقارب المفترض بين موسكو وواشنطن، لاسيما على ضوء الأولويات التي حددها ترمب ضد طهران.
ومن نافلة القول أن افتراض موسكو أن واشنطن يمكن أن تضحي بعلاقتها مع الاتحاد الأوروبي من أجل التقارب مع روسيا فكرة تعوزها الحصافة. ناهيك عن أن موسكو، رغم ترحيبها المبالغ فيه بفوز دونالد ترمب، لا تعرف بالفعل ما الذي يمكن أن يقدم عليه ترمب في سدة الحكم، على ضوء تأثير مراكز القرار في واشنطن المخالفة لتوجهاته.
وإلى أن تتضح الصورة نسبيا في العلاقة مع واشنطن، من المتوقع أن تستمر حالة التناقض في تصريحات المسؤولين الروس إزاء الأزمة السورية، لكن الثابت في رسائل موسكو أنها تريد المساومة، وأي تصعيد قد يحدث مستقبلا يندرج في ممارسة ضغوط لتحسين الموقع التفاوضي، مع استبعاد حرب مفتوحة وحاسمة في حلب.
عامر راشد
الجزيرة