من الواضح أنّ جميع الوقائع والتأويلات التي تقبع الآن في أفقنا من قتل ودمار وهجرة قسريّة، وتجارة بالبشر وتغيير للجغرافيا السّياسية وحروب لا تنتهي، لا ترغب في التّوقف فتحوّلت إلى آلة رهيبة تأخذ معها الأحلام إلى الهاوية، تدلّ على أنّ التّراجع المخيف لمفهوم التّقدم وكلّ ما صاحبه من مفاهيم حداثيّة مثل المواطنة والحريّة وحقوق الإنسان، تحوّلت هي بدورها إلى بقايا ملفوظات ما زالت تسكن في منطقة الإرجاء القاتل، وتشي كذلك بأن العنف الذي يعدّ من طبيعة حيوانيّة غدا مع تتالي الأحداث والرّؤى التي امتشقت صهوة القوّة العمياء إلى طبيعة أولى أو ستقفز إلى السقوط في كنه الوجود البشري وتتصيّر إمكانية من إمكانياته الأصيلة.
ومن هذا الدّرب الذي نفكّر فيه، وننظر منه إلى واقع الفضاء الثّقافي العربي من جهة أنه لم يترقّ بعد إلى مرتبة العقل، ومازال يتحرّك في مسطّح الفكر، لأنه كما تحدّثت دوما يخمن في ظلّ سقف غربيّ يمتح منه النّصوص، والمناهج والتّيمات الكبرى والإشكالات المتحكمة في الفكر العربي، وأغلب ما يوجد من نصوص هي في الأصل نصوص كفاحية تحمل هموما نضاليّة خالصة، لم تستطع أن تمنح لنا رؤية فلسفيّة عميقة لهذه الظاهرة.
وعلى هذا الأساس، نذهب تفكيريّا إلى اعتبار أنّ العنف ظاهرة منغرسة في صلب وعمق الثّقافة العربية، وهي ليست ظاهرة طارئة أو من النوازل الجديدة، بل هي ثمرة طبيعيّة لما كان منتشرا أوّلا في المحيط الأنثربولوجي للفرد العربي، حيث عاش وتشكّل في ذهنية لا تعترف إلا بالإنسان القويّ والمحارب، وبطبيعة الأشياء، حسب توصيف سبينوزا، فإن فكرة الكسب عن طريق الحرب تعزّز مقولة العنف كسبيل للوجود بالمعنى البيولوجي. وتمشّيا مع المنظور الأنثروبولجي، جاءت أغلب مشاريع أنظمة الدّول -ما بعذ الاستعمار- التي ما زالت تتمسّك بصورة لاواعية بتيمة الحرب والاعتداء على الغير، دون إجراء ضبط لمعنى الغير، على صورة عُنفية تحتمي بمنطق مغلق على ذاته، يرى في الغير مجرّد كتلة بشرية منشغلة فقط بمصادرته.
انتقلت هذه الرؤية من المجال الأنثربولوجي ومن الفضاء السّياسي إلى ميدان على درجه عالية من الخطورة، وهو مجال التّعليم، حيث تأسّست مناهج التّعليم على أيديولوجيات قوميّة أو قطريّة أو إسلاميّة، وبطبيعة الأشياء دوما، لم تخمّن في مسائل الحداثة وتطلّعاتها، إذ كانت مجرّد شعارات جوفاء سرعان ما خرجت منها رؤية قرويّة وقبلية مخيفة ومرعبة، بل على العكس من ذلك انشغلت فقط بتمجيد الذّات والانخراط في خطاب منبريّ يقزّم الآخر ويتفّهه، عبر ألفاظ مأخوذة من معجم لغوي تشكّل في زمن تراثيّ، كان همّه الوحيد هو تمجيد الحاكم، ويصبغ عليه كل الصّفات التّأليهية.
وفي ذات التّمشي يشيطن الآخر، مهما كان شكل هذا الآخر وصورته، وفي مستوى معيّن أصبح النّظام التّعليمي في أغلب الدّول العربيّة يعتمد على منطق الكمّ، وهمّه الأساسي إخراج الحشود التي تحمل رؤية هزيلة للحياة، وفي كل هزال ينبت عنف أعمى تبرّره مقولات تحليليّة كرّستها هده المنظومة. على هدي هذا المنظور تتعالق هذه الرّؤية مع ما هو متواجد في دوائر الإعلام الخاضعة بدورها لسلطة المال، هذا الإله السّرمدي، ولسلطة تلبس لبوس الحداثة، وتتمسّك بأهدابها لعلها تتحايل تاريخيّا على شعوبها، لكن غير مدركة أن للتّاريخ مكرا داخليا يسكنه، قوامه أن التّاريخ لا يصاحب إلا من كان صديق العقل والحريّة والمعنى.
العنف ظاهرة مركّبة، تشارك في صنعها مفاعيل عديدة ومتجددة، فربّما الواقع المتحرّك يضيف عوامل أخرى مع مرور الوقت وتعقّد المسارات
في ظل نظام تعليميّ قبليّ في عمقه، وفي أفق منغلق على أقاويل الكذب المُمنهج، وفي جوّ يتنفّس الدّكتاتورية على مستوى المدرسة والشّارع والمسجد، وكل المؤسّسات السّياسية التي ما زالت وفيّة لذلك الخطاب التراثيّ المتعفن تاريخيا، يجد العنف طريقه الملكيّ للظّهور والتجسّد، وترافقه في مسيرته كوكبة كبيرة من الأنظمة الاقتصادية التي ترتهن في حقيقتها إلى منطق الإخلاص العائلي، والأنظمة الاجتماعية التي تعلي من شأن الرّؤية الذّكورية المزيّفة، والأنظمة السّيميائية التي ترى في الفرد المتفرد بذاته القائد الفعلي للمسار الاجتماعيّ العام.
وعلى هدا المستوى من الخطاب الذي يبدو للبعض جنائزيّا في مفرداته التّفسيرية، نجتهد في تقديم تشخيص للوضع المرضي الذي نحن منخرطون فيه ومتوّرطون معه إلى تخوم الألم القصوى، الذي ما زال يسكننا منذ زمن الهزائم الكبرى أو بتعبير دقيق الجروح النرجسيّة، هو من منظورنا محاولة أو مجازفة للالتقاء مع الواقع كما هو، مع احترازنا الشّديد من لفظ الواقع المخاتل، لارتباطه القويّ مع التأويل والتّفسير والقراءة والتّحليل.
ومن بين مكوّنات الواقع المرضيّ الذي ساهم بصورة فاعلة في تنشيط العنف الكامن أصلاً في شخصيّتنا، التفاعل السّلبي للنّخبة المثقّفة في العالم العربي، حيث نلحظ وجود قسم من المثقّفين تقتات من مائدة السلطة التي تطلب منها تسويغ أعمالها أمام الآخر، وتلميع صورتها القبيحة، فهي في هذا الوضع ماكياج معرفي تتزين به السّلطة وتستغله كديكور؛ لأنّها تنظر إليه على أنه من نتاجها، وليس من نتاج الحركيّة الاجتماعيّة.
وفي هذا الحال تغدو الجماهير المقهورة بدون منبر إعلامي أو فضاء اقتصادي يمنحها فرصة بناء فردية مستقلة، وأفق ديني يعبر عن مطالب المظلومين، لأنه هو بدوره، تورّط في الممارسة السّياسية بحكم مخزونه الرّمزي القويّ، الذي قرّر بيعه للسّلطة الحاكمة. وهناك فئة من المثقّفين انخرطوا في عالمهم الخاصّ، واستمعوا إلى ذلك النّداء الدّاخلي الأنانيّ في جوهره، وبذلك تكون قد قدمت استقالتها من الفضاء العام وتعيش داخل قوقعتها، أما الأصوات التي هي قادرة على فعل المقاومة، مقاومة الكسل، والمال والخذلان والترهّل والشّيخوخة الفكرية والتّقاعد المسبق والمتعمّد من عالم الفكر، لأنّها تؤمن أن من يكتب سيدخل بالقوة عالم المقاومة كما أوصانا أندريه جيد ذات نص واخز.
لا أريد هنا أن أتحدّث عن عالم السّياسة، فهو ميدان متعفّن، والحديث عنه هو تكرار مملّ لسيمفونيّة ممجوجة، نحن نريد من هذا الحدث التّنقيب عن التّقاطعات الكبرى بين المجالات المتعدّدة مثل الأنثربولوجية والنظام التعليمي، والفضاءين الاقتصادي والاجتماعيّ، والمسطح الثّقافي الذي تعوّد الرّيادة في هذه الأزمة المركبّة؛ لأنه هو المسؤول عن تفكيك هذه البنية المعقدة، والكشف عن علل العنف بحسبانه ظاهرة مركّبة.
والشّيء الذي أدّى إلى تسارع هذه الظّاهرة وتوالدها وتكاثرها، هو دخول المجتمع في مرحلة خطيرة، وهي مرحلة الانغلاق على الذات، والسّقوط في خطاب يمجّد الهوية بمعناها التّاريخي من لغة، دين، وإنجازات، وهذا النّوع من الخطاب يقدّم ترضية لهذه الأنا المجروحة، ويدخلها في مستوى عال من الخيال المنتفخ، بعيدا عن الواقع المهزوم، فما زلنا إلى حدّ اللّحظة نمارس الكذب على ذاتنا، فنحن على مستوى الخيال كائنات عنترية، وعلى مستوى الواقع الحقيقيّ شبه كائنات تريد فقط إنجاز البقاء البيولوجي، وعليه لم يعد لدينا الوقت لكي نستمرّ في هذا الحديث الذي يلهينا عن معركتنا الكبرى، ليس مع الغير، وإنما مع ذاتنا، في عمقها الثّقافي.
يمكن أن نتبين بأنّ العنف ظاهرة مركّبة، تشارك في صنعها مفاعيل عديدة ومتجددة، فربّما الواقع المتحرّك يضيف عوامل أخرى مع مرور الوقت وتعقّد المسارات. ويبقى المخرج من كل هذا الوضع المتأزّم هو تفعيل مشروع فلسفيّ؛ لأنّ الفيلسوف هو طبيب الحضارة كما تحدّث الفيلسوف نيتشه ذات نص شذريّ، نسعى فيه ومن خلاله إلى تنشيط المكاسب الحداثيّة مثل: الحوار، النّقد، الجرأة، الاعتراف، الحقّ في الاختلاف، المثقّف النّقدي.. لعلّها تضعنا في الدّرب القويم.
ربوح البشير
صحيفة العرب اللندنية