لا يعلم أحد متى اتخذ الرئيس السادات قرار حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وعما إذا كان القرار جزءًا من حرب طويلة مع إسرائيل، أو أنها كانت للرد على هزيمة يونيو (حزيران) 1967، ولكن المؤكد أن البيان السوفياتي – الأميركي في مايو (أيار) 1972 الذي نص على ضرورة تحقيق «الاسترخاء العسكري» في صراع الشرق الأوسط كان حاسمًا في قرارين: طرد الخبراء الروس من مصر، وشن الحرب على إسرائيل لبدء تحرير الأرض المحتلة. وكان قرار الحرب له وجهان؛ الأول العمليات العسكرية التي خاضتها مصر بمساندة جيوش عربية أخرى، كانت سوريا في المقدمة منها، والثاني استخدام سلاح البترول الذي خاضته المملكة العربية السعودية بمساندة باقي الدول العربية المنتجة للنفط. وكان بطل المعركة الأولى الرئيس الراحل السادات رحمه الله، أما الثانية فكان الملك الراحل فيصل رحمه الله. وسوف يذكر التاريخ لهما معًا أنهما سطرا أروع اللحظات في التاريخ العربي المعاصر، حيث لم يجرِ تغيير الواقع على أرض سيناء والجولان فقط، بل تم تغيير النظام العالمي المعاصر، وأصبحت للعرب فيه مكانة لا يمكن تجاهلها.
هذه المقدمة كانت ضرورية لكي نفهم الواقع الذي نعيشه الآن، فالهزيمة كانت هزيمة العرب، والانتصار كان انتصار العرب، والأداة كانت مصر والسعودية معًا، كل فيما يخصه ويتميز به. واللحظة التاريخية الراهنة لا تختلف لا في عنفها، ولا مرارتها، عن لحظة مطلع السبعينات من القرن الماضي، بل ربما هي الآن أشد قسوة. ولا يحتاج الأمر لاستعادة ما هو معروف عن الحرب الأهلية في خمس دول عربية، والعنف والإرهاب الذي تعاني منه كل الدول العربية، والتهديد الإيراني الذي يسيطر على أربع عواصم عربية، والأوضاع الاقتصادية الصعبة الناجمة عن انخفاض أسعار النفط التي تؤلم كلاً من الدول المنتجة للنفط، وتلك غير المنتجة على قدر سواء. ولن يقل ألمًا عن كل ما سبق أن الدين الإسلامي أصبح مهددًا بخطر الاختطاف من جماعات وحركات إرهابية ومتطرفة، لا تقسم وتمزق الأمة العربية والإسلامية فقط، وإنما تجمع العالم كله ضد العرب والمسلمين. كل هذه التحديات، وغيرها كثير، تضع مسؤوليات تاريخية كبرى على القاهرة والرياض وتفرض عملاً مشتركًا واستراتيجية مشتركة للعمل من أجل استعادة الاستقرار إلى المنطقة، والحفاظ على الدولة العربية، وإنقاذ الإسلام من مختطفيه.
وإذا كان كل ما سبق له أسبابه ودواعيه من داخل المنطقة العربية، فإن العالم من حولنا يتغير ويتقلب هو الآخر، وفي بعض من تغيراته وتقلباته، فإن أخطارًا ترد أحيانًا على سبيل المفاجأة أو لأنها من طبيعة الأشياء التي كانت لنا نحوها غفلة. ومن سبيل ذلك فوز دونالد ترامب ووصوله إلى سدة الرئاسة الأميركية حتى يبدأ في ممارسة مهامه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية اعتبارًا من 20 يناير (كانون الثاني) المقبل. الرئيس الجديد ليس رئيسًا معتادًا، وإنما هو تعبير عن ظاهرة شاملة لكل العالم الغربي، ونجدها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا والمجر واليونان، حيث ظهرت أحزاب يمينية وشوفينية وقومية وانعزالية، ليس فقط مضادة للعولمة كما بينّا في هذا المقام من قبل، وإنما لجزء مهم من هذه العولمة، وهي العلاقة مع الإسلام والعالم الإسلامي، وخصوصًا العرب والدول العربية في قلبه.
وخلال الأسابيع والشهور الماضية، اهتم العالم العربي كما لم يهتم من قبل بالانتخابات الأميركية، ومن ثم بات معروفًا النظام السياسي والقانوني للانتخابات، وكذلك التعرف على المرشحين واتجاهاتهم ونياتهم، وحظي دونالد ترامب باهتمام خاص، باعتباره النجم الجديد على الساحة. ولكن جزءًا مهمًا من توجهاته لم يلقَ الاهتمام الكافي، وهي ما ينوي فعله مع روسيا الاتحادية (الاتحاد السوفياتي سابقًا)، الذي برز في شكل غزل وعبارات مادحة في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باعتباره رئيسًا قويًا يستحق التعامل والتوافق معه واحترامه. ورغم أن ذلك جاء في سياق الفخر الشخصي بقدرات ترامب في التفاوض وإبرام الصفقات، أو من الجائز أن يكون انعكاسًا للشبكات المالية في روسيا للرئيس الأميركي الجديد ورجل الأعمال السابق، فإن المسألة أكثر عمقًا من كل ما هو ظاهر. فما يجمع بوتين وترامب أن كليهما في حالة كراهية لليبرالية الغربية في عمومها، ومسعاها الدائم لفرض قيم ونظم تهدد الدول الغربية كما تهدد الدول الأخرى، وكذلك العداء لـ«الراديكالية الإسلامية» التي كثيرًا ما تمتد بوعي أو دون وعي للإسلام والمسلمين. وانطلاقًا من ذلك، فإن ترامب يرى مشروعية في السلوك الروسي، سواء كان ذلك في جورجيا أو أوكرانيا أو سوريا، والذي يتفهمه ترامب، باعتباره ليس نتيجة ميول عدوانية روسية، وإنما نتيجة استفزاز ليبرالي غير مستحب تمثل في امتداد حلف الأطلنطي ونشر حائط للصواريخ في الدول المجاورة لروسيا، والمعاناة من الإرهاب والأقليات الإسلامية في روسيا.
وهكذا فإن المرجح هو أن قائمة الأعمال الأميركية – الروسية سوف تأخذ في التغير التدريجي، وربما لن نندهش عندما نجد العقوبات الأميركية على روسيا آخذة في التقلص، ومن بعدها يجري القبول بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا مع بناء تفاهم حول أوكرانيا. وضمن هذا السياق سوف تأتي سوريا باعتبارها الساحة الأولى للصراع مع «الراديكالية الإسلامية» ممثلة في دولة «داعش»، التي من أجل قهرها قدم ترامب أول تنازلاته عندما اعتبر أن وجود بشار الأسد في السلطة قد يكون اختيارًا سيئًا، ولكنه ليس الخيار السيئ الوحيد. والخلاصة أن فوز ترامب يفتح الأبواب لحالة من التفاهم الاستراتيجي بين واشنطن وموسكو قد يكون فيها جزء مفيد مثل سحب المحاولات الليبرالية لتغيير النظم في المنطقة، ولكن الجانب الآخر للمسألة هو وجود عداء وكراهية لدول وشعوب المنطقة العربية. ولعله من الصعب تخيل وجود هذه الحالة من التعصب في أميركا وبقية المجتمعات الغربية لولا ما تعرضت له من أحداث إرهابية كانت فاقعة في تحديها عندما وجدت في باريس ونيويورك أكبر ضحاياها.
وفي عام 1972 كان التفاهم والوفاق الأميركي – السوفياتي (الروسي) قائمًا على حرمان العرب من النضال من أجل استعادة أراضيهم وثرواتهم، ولكنه الآن سوف يقوم على تدجين المنطقة كلها ووضعها تحت أنواع من الوصاية، مستغلين أطرافًا إقليمية في هذا المسعى. مواجهة هذا التحدي لن تكون إلا بوقفة عربية تقودها مصر والسعودية تماثل تلك التي جرت في عام 1973 مع أخذ كل المتغيرات التاريخية في الاعتبار. ومن ثم فإن صفاء العلاقات بين القاهرة والرياض من الضروري بمكان، والعلم بأن أيًا ما كان يفرق في علاقاتهما الثنائية، فإن ما يقرب أكبر وأكثر كثافة وغنى. تفاصيل ذلك عددناها من قبل، وربما نعيدها مرة أخرى، في مواجهة الذين يفرقون ولا يقربون، ربما لأننا نعلم أن هدف هؤلاء لم يكن فقط العلاقات المصرية – السعودية، وإنما في الأساس الدولتان في مصر والسعودية، حيث الصلات والمدد والوشائج الكبرى تجري عبر البحر الأحمر وسيناء وأرض الحرمين الشريفين.
عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط