يتمتع المذكور بمنصب نائب رئيس جمهورية، لكنه لم يزل طائفياً وانقسامياً وشعوبياً، يصرّح ببرود ضدّ العراقيين، وقتل انتمائهم، وبثّ الفرقة بينهم من دون أن يعترف بأخطائه القاتلة وجناياته التاريخية، ولم يزل يعزف على وتر الطائفية، وإحداث الحزازات، وجر البلاد والعباد إلى أتون حرب أهلية، فهو لم يزل يتكلم عن الأغلبية والأقلية، ويقصد الأغلبية الطائفية، لا السياسية. ولكن لا أغلبية طائفية في أي مناخ ديمقراطي، ولا في أي حياةٍ تنتفي منها القيم الوطنية، ولو أدرك عشر معشارها، لكان يبدو اليوم أباً لكلّ العراقيين، يجمع ولاءهم جميعاً ويعترف بأخطائه وخطاياه، ولكنه نموذج يكره العراق وأهله بهذه الدرجة، وهو يشتري بملايينه المسروقة ذمم المخدوعين والمستفيدين والمرتزقة والفاسدين والشعوبيين وغيرهم.
عندما طرح مشروع التسوية السياسية، كما سموه، قبل أيام، ومن بعض التحالفات الحاكمة، فقد عني به التسوية بين السنّة والشيعة، وسعت الأطراف إلى تقديم رؤاها التي لا يمكن أن يتقبلّها هؤلاء الذين يمثلون نظام الحكم، قبل أن يفجرّوا قنبلتهم عن قانون الحشد الشعبي. وعليه، لا يمكن البتة إجراء أيّة تسوية بين متنازعين اثنين في ظل نظام حكم حقن المجتمع بالطائفية البغيضة والانقسامات والكراهية. ولا يمكن لهذا النوع من المسؤولين ومناصريهم، في نظام سياسي معتلّ، قبول أيّة رؤية تخالفهم، كونهم لا يتمتعون بأيةّ مرجعية وطنية مدنية، فهم يتاجرون باسم المرجعية الدينية والشعارات الدينية التي لا يمكن للعراقيين أن يقبلوها على حساب قيمهم الوطنية والأخلاقية والمدنية، كما تثبت مواقف العراقيين المتشظية اليوم في ظلّ الاحتقانات القائمة والتمييز الطائفي المفضوح في كلّ المجالات.
لا يمكن أن تحدث التسوية بين العراقيين مع هذا الوضع الطائفي الذي تشعله أطرافٌ تريد
امتلاك كلّ العراق وحدها، وبضمنه شعبه وموارده، وصولاً إلى تشويه ثقافاته وتاريخه وتراثه. لا يمكن إحداث أيّة تسوية سياسيّة في ظلّ انقسام اجتماعي مع جروح وقروح لا تندمل بسرعة، وفي ظل جعل العراق مزرعة دواجن للآخرين، أو جعله حديقة خلفية للإيرانيين الذين إن قبلهم حكامه، فانّ الشعب العراقي يرفضهم ولا يقبلهم، وهو يجدهم ينخرون العراق نخراً، إذ لإيران تاريخ دموي في العراق، فلا يمكن أن يسوق الإيرانيون مصالحهم عند العراقيين اليوم، وجعل العراق ممرّأ استراتيجيا لهم.
في غمرة هذا الماراثون الصعب، وقيام الجيش العراقي البطل، بكلّ قياداته وجنوده الميامين، في عمليات تحرير الموصل، وكلّ أصقاع نينوى، من المجرمين الدواعش، يبرز وجه نوري المالكي ثانيةً، ليقول إنه لا تسوية ستحدث بين العراقيين، إثر رفض قوى سياسية وبرلمانيين لتصويت بعض المنساقين وراء المالكي وكوارثه، بإصدار قانون يجعل “الحشد الشعبي” بمثابة مؤسسة عسكرية رسميّة، تعمل في ظل رئيس الوزراء الذي طلب الاطلاع على القانون قبل التصويت عليه، فلم يستجب أحد لإرادته، وقد صوّت عليه، على الرغم من أنوف معارضيه العراقيين. ويأتي المالكي ليتبجّح، اليوم، بلغة طائفية مقيتة، وكأنه لم يزل حاكم العراق الفعلي، إذ تكلم عن الموصل وسنجار وتلعفر، وكأنه لم يكن المتهم الأول من لجنة تحقيقية عراقية رسمية بمسؤوليته عن ذلك، وكأنّ العالم كلّه لم يدنه على ما تحقق من خرابٍ على يديه. يتحدّث اليوم عن أهمية تلعفر والموصل والبعاج والحدود السورية، وكأنّ تحرير نينوى يجري لأهداف إقليمية، وليس لتخليص محافظة عريقة وأهلها العراقيين الكرام من أوسخ جريمةٍ ساهم هو نفسه في حدوثها.
لا أحد في التاريخ يدين عهده كما يفعل هذا الرجل، وكأنّه لم يكن مسؤولاً، أو بالأحرى لم يكن يعرف أيّ شيء في بلاده وهو يحكمها، يدين الفساد وكأنّه لم يكن مسؤولاً حقيقياً عن سلطته التنفيذية ومؤسساتها ومرافقها الفاسدة، وكأنه ليس الفاسد الأكبر في تاريخ العراق. ويدين غيره بإدخال “داعش” إلى الموصل، وكأنه لم يكن قائدا عاما للقوات المسلحة، يصدر وحده الأوامر، ويدين ساحات الاعتصام، في الرمادي والموصل وغيرهما، وكأنه لم يفاوض المعتصمين، ويرسل التطمينات لهم، ويعدهم بتلبية مطاليبهم على مدار سنة كاملة. يدين السنّة من العراقيين بإطلاقه الأحكام العامة، كونهم من الطائفيين، وكأنه لم يصّرح على الملأ بصراع أبناء الحسين وأبناء يزيد، فهل صرّح أحد خصومه بمثل ذلك في يوم من الأيام؟ يدافع المالكي اليوم عن بشار الأسد بشراسة، ويجعل من نفسه بطلاً حمى دمشق من السقوط، ونسي أنه كان قد دان بشار الأسد، وطالب بتقديمه الى محاكمة دولية لإرساله الإرهابيين من “القاعدة” وغيرها إلى العراق لقتل العراقيين. ما هذه الأقنعة القبيحة التي يطلع به هذا الرجل، في كلّ مرّة على الشاشة، وهو لا يخجل أبداً من أكاذيبه وادّعاءاته، ولم يزل هناك ملايين الناس شهوداً على أقواله وأفعاله. كيف يمكنه كرجلٍ حكم العراق، وهو لا يتوّرع خجلاً بجعل العراق ضمن محور إقليمي يتألّف من إيران والعراق وسورية إزاء محور آخر يتألف من السعودية وقطر وتركيا؟ ولماذا يكون العراق ضمن محور إقليمي وهو يحترق في دواخله؟
من أعطى الحقّ لهذا الإنسان أن يبني أحكامه البليدة على توقعّاتٍ قاتلة، فهو لا يهمه أبداً أن
احترق الأخضر واليابس في العراق؟ من همس في أذنه من الإيرانيين أنه إن سقطت دمشق سيعقبها سقوط بغداد؟ من كان وسيبقى يتلاعب بعقول الحكام والمسؤولين العراقيين اليوم؟ لماذا لا يفصل هذا المالكي الذي سمى نفسه مختار العصر، ويميّز من على شاكلته من مناصريه بين صنوف منظومة الحشد الشعبي؟ ليكن معلوماً أنّها منظومة ضمّت آلافاً مؤلفة من العراقيين وفيهم الطيب والخبيث. فيهم من يضحّي بنفسه من أجل مبادئه، وفيهم مرتزقة يقاتلون من أجل تحقيق أهداف قادتهم.. مليشيات كانت موجودة على أرض العراق قبل 2014، ومنها من حاربها المالكي نفسه، مثل جيش المهدي وجيش المختار، وكلنا يتذكّر عصابات واثق البطاط وعشرات غيرها.. ومليشيات تعترف هي نفسها ولم تزل بأنّ ولاءها الأعمى لإيران، فكيف انخرطت ضمن فصائل الحشد الشعبي؟ وكيف يمكن أن تكون قوى رسمية نظيفة ضمن إطار رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة؟ وإن غدت رسميّة، فكيف يمنح قادتها رتباً عسكرية عليا، وهم بعيدون عن المهنيّة والعقيدة العسكرية؟ إن منظومات كهذه إن كانت وطنية، أو حتى حزبية، فهي تبقى في إطار النظام السياسي شبه رسمية، إن أقرّ النظام بتكوينها، كما جرى في المقاومة الشعبية أو الحرس القومي أو في الجيش الشعبي في عهود سياسية مضت.
وعليه، لا يمكن أبداَ أن يمرّر هذا القانون البشع لمليشيات طائفيّة لها روابط خارجيّة، وعلى النظام الحاكم أن يفرز الحشد الذي تأسس عام 2014، بعيداً عن المليشيات القديمة والعصابات الجديدة. ما حدث من مجازر ومضايقات وعذابات في مناطق محدّدة بعد تحريرها من “داعش” على أيدي مليشيات وعصابات مجهولة لم تحاسب أبداً، تمنح الحق لمن يعارض اليوم حمايتها بقانونٍ يشرّع باسم الأغلبية الطائفية. أنصحكم بأن لا تمنحوا مثل هذه المليشيات قوةً رسميةً، فإنها ستأكلكم جميعا قريباً، وإن التاريخ سيلعن العهد الذي أباح للمجرمين سحق العراق والعراقيين.