بدأت وسائل الإعلام تتداول اسم “عين العرب” (كوباني) منذ 19 يونيو/حزيران 2012 بعد أن سيطرت وحدات حماية الشعب الكردي على المدينة وأعلنت تمتعها بإدارة ذاتية.
وقد اعتبر البعض ذلك الإعلان بداية للسير على خطى أكراد العراق في إنشاء منطقة كردية خاصة بهم، خاصة أن قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) بقيادة صالح مسلم تعتبر الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، ولدى ذلك التنظيم أطماع انفصالية لا تخفى على الكثيرين.
في بداية عام 2014 تعرضت مدينة “عين العرب” لهجوم جديد من قوات تنظيم الدولة، ولكنه لم يكن هجوماً حاسماً ولم يسفر عن نتائج ميدانية ذات قيمة كبيرة.
وفي 16 سبتمبر/أيلول 2014 شن تنظيم الدولة هجوماً واسع النطاق أسفر عن السيطرة على أكثر من 350 قرية كردية، وفرض حصاراً على “عين العرب” من الجهتين الجنوبية والغربية، مما أدى إلى نزوح أكثر من 300 ألف كردي فروا عبر الحدود إلى تركيا.
ورغم تدخل قوات التحالف الدولي بتنفيذ العديد من الضربات الجوية ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية (بلغ المتوسط اليومي للطلعات الجوية عشر طلعات قتالية تقريباً)، فإن قوات التنظيم استطاعت دخول كوباني والسيطرة على معظم أجزائها بما فيها المربع الأمني، كما حاولت مرات عدّة الوصول إلى معبر مرشد بينار، وهو البوابة التي تصل “عين العرب” مع بلدة مرشد بينار التركية.
أدت النجاحات الأولية لقوات تنظيم الدولة إلى تزايد الاهتمام الدولي بمعركة كوباني حتى أصبحت حجر الزاوية في الأزمة السورية بتصدرها نشرات الأخبار والعناوين الرئيسية للصحف العالمية، إلى جانب المعارك التي تدور على الجغرافيا العراقية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
كما انتقل ذلك الاهتمام إلى القادة السياسيين مما أسفر عن إرسال مائة وثلاثين مقاتلا من قوات البشمركة الكردية عبر الأجواء والأراضي التركية (وحدة رمي ناري)، ودخول عدّة مئات من مقاتلي الجيش السوري الحر بقيادة العقيد عبد الجبار العكيدي عبر بوابة مرشد بينار.
أدى التركيز الإعلامي على معركة كوباني إلى إعطائها بُعداً رمزياً كبيرا لكل من الشعب الكردي والقادة السياسيين الغربيين على حد سواء، وهذا ما يفسر المظاهرات الاحتفالية للأكراد في عدة مدن تركية بعد ساعات من الإعلان عن تحرير المدينة وطرد مقاتلي تنظيم الدولة منها.
هذا الصمود -الذي يعتبره الأكراد أسطوريا، والذي استمر طيلة 112 يوماً وتوج باستعادة السيطرة على مدينة كوباني، وإخراج مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية منها- يطرح العديد من الأسئلة ومنها: لماذا استطاع المقاتلون الأكراد -رغم قلة عددهم وعدّتهم- الصمود طوال فترة الحصار وتوجوا ذلك الصمود بإخراج مقاتلي تنظيم الدولة من كوباني؟
وفي المقابل؛ ما هي الأسباب التي تقف وراء الانهيار السريع للقوات العراقية مما أدى إلى سقوط أربع محافظات سنية خلال أقل من أسبوعين بيد تنظيم الدولة؟ ولماذا لا تزال القوات العراقية عاجزة عن تحقيق نصر حاسم على قوات تنظيم الدولة رغم الجهد الجوي المشترك من طيران التحالف والطيران العراقي؟
حددت الإستراتيجية العسكرية الأميركية -التي أعلنها الرئيس باراك أوباما- الإطار العام للعمل العسكري ضد تنظيم الدولة، حيث نصت على القضاء على تنظيم الدولة في العراق وتحجيم قدراته في سوريا.
وأدى الالتزام بتلك الإستراتيجية إلى تخصيص بعض الطلعات الجوية لتدمير مصادر تنظيم الدولة الاقتصادية ومراكز القيادة، وقصف مواقع تابعة لجبهة النصرة وأحرار الشام وتنظيم خراسان، بينما تم تخصيص معظم الجهد الجوي لتدمير قوات تنظيم الدولة في كوباني وأية قوات قادمة لتعزيزها.
واستطاعت تلك الضربات الجوية أن تلحق خسائر فادحة بقوات تنظيم الدولة في البعدين المادي والبشري، ويستدل على ذلك بحجم الخسائر التي تكبدها التنظيم، حيث أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن تنظيم الدولة خسر 1196 قتيلا من أصل 1737 قتلوا في تلك المعارك.
لقد كان بإمكان قوات التحالف أن توقف تقدم قوات تنظيم الدولة خلال الأسابيع الأولى من المعركة، ولكنها فضلت استمرار المعركة أطول فترة ممكنة لأنها اعتبرت كوباني مصيدة ومنطقة تقتيل مثالية لقوات تنظيم الدولة، وساعدها على ذلك ضعف التخطيط العملياتي لدى قادة تنظيم الدولة وإصرارهم على الاستمرار في خوض معركة فاشلة.
أدت مساهمة قوات البشمركة وفصائل الجيش الحر إلى تعويض النقص الحاد ألذي عانت منه قوات الـPYD في بُعديه البشري والناري، كما رفعت معنويات المقاتل الكردي الذي بدأ يشعر بأنه ليس وحيداً في معركته المصيرية. ويضاف إلى ذلك قناعة المقاتل الكردي بأنه يدافع عن تاريخ وشرف الأمة الكردية، وأن عليه أن يقدم على التضحية بروحه من أجل ذلك التاريخ والشرف.
شكل يوم العاشر من يونيو/حزيران الماضي نقطة سوداء في تاريخ الجيش العراقي، ففي ذلك اليوم والأيام التالية له تمكنت أعداد قليلة (قدرت في حينها بما بين 800 و2000 مقاتل) مزودة بسيارات دفع رباعي تحمل أسلحة خفيفة ومتوسطة، من السيطرة على مدينة الموصل ثانية المدن العراقية والتي يبلغ عد سكانها مليونا وسبعمائة وخمسين ألفاً، والمدافع عنها بأربع فرق عسكرية وفرقة من قوى الأمن الداخلي، ليتتالى بعدها سقوط المدن والبلدات العراقية، حيث سيطر تنظيم الدولة خلال عدّة أسابيع على أكثر من ثلث مساحة العراق.
ورغم تدخل طيران التحالف وتشكيل قوات الحشد الشعبي الشيعي -استناداً إلى فتوى آية الله السيستاني- فإن القوات العراقية لم تستطع استعادة أكثر من واحد بالمائة من الأراضي التي سيطر عليها تنظيم الدولة طوال الأشهر السبعة الماضية، حسبما أشارت إليه التقارير الصادرة عن البنتاغون. فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
عمدت القيادات العراقية المتتالية -وخاصة في فترة حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي- الى إعادة بناء الجيش العراقي، ولكنها أعادته على أسس طائفية مقدمة أهل الولاء على أصحاب الكفاءة، مما جعله جيشاً طائفياً بامتياز.
والجيوش الطائفية تعاني عادة من الفساد ولا تعرف معاني الوطنية والانتماء، وتفقد بالتالي مفاهيم الإقدام والتضحية من أجل الوطن، فيهرب القادة متخلين عن جنودهم في أول اختبار، مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية للجند فيسارعون إلى الفرار من ساحة المعركة.
ومما يؤكد ذلك ظهور مصطلح “الجنود الفضائيين” الذي أطلقه رئيس الوزراء العراقي الحالي السيد حيدر العبادي، وكثرة الحديث عن قضايا الفساد التي تنخر جسد المؤسستين العسكرية والأمنية في العراق، وتداول تسميات ساخرة كجنرال الدجاج وجنرال الخمر وجنرال الدفاتر.
حققت القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي انتصارات في مناطق محددة لأسباب خاصة، فمنطقة جرف الصخر لها خصوصية لأبناء الطائفة الشيعية لأنها تسيطر على الطرق المؤدية إلى الأماكن المقدسة الشيعية، كما أن التدخل الإيراني ساهم في استعادة السيطرة على مناطق سليمان بيك وآمرلي وطوز خورماتو وبعقوبة، حيث أظهرت بعض لقطات اليوتيوب وجود الجنرال الإيراني قاسم سليماني في تلك المناطق.
ولكن عندما انتقلت المعارك إلى المناطق السنية اختلفت الأوضاع بصورة دراماتيكية، فلم تحقق النتائج المرجوة لأن الكثير من العشائر السنية تنظر بعين الريبة والشك إلى الجيش العراقي وتعتقد أنه جيش طائفي، كما تنظر نفس العشائر إلى قوات الحشد الشيعي على أنها وتنظيم الدولة وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يمارس عمليات القتل والحرق بحق أبناء الطائفة السنية.
وهذا ما أكده رئيس مجلس النواب العراقي بعد الإعدامات الأخيرة بحق المدنيين السنة في بعض بلدات محافظة ديالى، كما أن عدم بناء جسور ثقة حقيقية بين الحكومة المركزية وشيوخ العشائر السنية حال دون تزويد أبناء تلك العشائر بالأسلحة اللازمة، وعدم إنشاء الحرس الوطني الإقليمي الذي يعتبر الورقة الرابحة في قتال تنظيم الدولة حال إنشائه.
يضاف لذلك أن إعادة بناء جيش عراقي محترف تحتاج إلى وقت طويل في ظل واقع المحاصصة الطائفية، ووجود مراكز قوى نافذة تحول دون تسليم الأمور إلى قادة أكفاء يستطيعون إعادة بناء الجيش، ولديهم القدرة على التخطيط الإستراتيجي وقيادة المعارك الحاسمة.
فايز الدويري
الجزيرة