ثمة تساؤلات مهمة حول مستقبل العلاقات الأميركية العراقية ينبغي أخذها بنظر الاعتبار أهمها: هل ستتم خلال الأيام المقبلة دراسة الملف العراقي من قبل فريق البيت الأبيض والخارجية استنادا إلى تقارير المخابرات والبنتاغون أم أن هذا الملف سيظل على ما هو عليه وما أفرز من نتائج سلبية على الأرض؟ وإذا ما كانت هناك إرادة في الاهتمام بالوضع العراقي، حتى وإن كان من الزاوية الاقتصادية التي تحدث بها الرئيس دونالد ترامب قبل ولايته، فما هي الأسس والمعايير الخاصة التي ستعتمد؟ هل ستنطلق برؤى جديدة أم سيتم الاعتماد على ما قدمته إدارة باراك أوباما من سياسات في العلاقة مع الحكم في بغداد سواء في مرحلة الاحتلال العسكري أم في ما بعده؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار الجانب الشخصي في الرئاسة الأميركية الجديدة، فلا شك أن هناك تغييرات جدّية ستحصل في علاقة واشنطن ببغداد. لا نقول ذلك لأننا نرغب في التغيير ونعتقد بأن الأميركان لهم دورهم الفاعل قبل الإيرانيين في ذلك، وإنما لأن تطورات لوجستية أهمها طرد داعش من العراق ستعكس آثارها على الواقع السياسي العراقي، رغم أن هذا الغطاء سينتهي عن الأحزاب الحاكمة ببغداد. كما لا بد من الأخذ بالاعتبار أن هؤلاء السياسيين لا يمتلكون الإرادة السياسية المستقلة في إدارة شؤون البلاد، وإنه لو هيئ لهم ولعموم السياسيين العراقيين تلك الاستقلالية عن كل من طهران وواشنطن لتم حل أزمة العراق، كما إنهم لا يرغبون في الانفكاك عن الهيمنة السياسية الخارجية القائمة، لشعورهم بأنها تمنحهم البقاء في السلطة، وما نسمعه من إعلام حكومي حول السيادة وعدم التدخل بشؤون العراق، ما هو إلا شعارات مزدوجة المعايير.
الحقيقة تقول إن الطرق معبدة أمام سياسات طهران في العراق، وهي تتضاعف يوما بعد يوم عسكريا واستخباريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. ولا يمكن الاستغراب من الشكليات الدبلوماسية مثل تعيين مساعد الجنرال قاسم سليماني القائد في الحرس الثوري الإيراني إيرج مسجدي سفيرا في بغداد، فهذا يدلل على ما ستكون عليه التطورات السياسية ما بعد داعش. لكن في ما يتعلق بالعلاقة بأميركا، هناك اختلافات في مواقف الأحزاب الحاكمة ما بين مندفع للعلاقة الحميمة مع واشنطن، ومتحفظ تجاهها رغم توافقهم على النتائج، وهي مواقف تشبه إلى حد كبير ما يحصل من اختلافات بين المحافظين والليبراليين في طهران.
الأحزاب الشيعية الحاكمة قادرة على عرقلة سياسة واشنطن في العراق إذا ما وجدت أنها تقترب من مواقع السلطة والتحكم الطائفي القائم حالياً. كانت ثماني سنوات من حكم أوباما مريحة للسياسيين الشيعة كثيرا، لم يسمعوا ما يخدش خواطرهم، أو يحذرهم من تلك السياسات. حصل ذلك مرة حينما لم يوافقوا على استمرار حكم نوري المالكي لولاية ثالثة، معتقدين أن سياساته أضرت بالعرب السنة، وأخلت بالتوازنات السياسية، ولهذا ساندوا صعود حيدر العبادي إلى رئاسة الوزارة، ولكن ما حصل من اشتراطات ووصايا أميركية اقتصر على الإعلام فقط، واستمرت ذات السياسة ولكن بإعلام مرن وكلام دبلوماسي رقيق اتصفت به شخصية العبادي. صحيح أن القوى الشيعية الحاكمة في بغداد لا ترتاح لأميركا، لكنها في الواقع مدينة لها، فلولاها لما كان حزب الدعوة حاكما للعراق، ولم تتمكن طهران رغم حرب الثماني سنوات مع العراق وشعارات إسقاط حكم صدام حسين من تحقيق خطوة على طريق ذلك الهدف. هناك سيناريوهات مفترضة ومتوقعة للعلاقة الفعلية بين واشنطن وبغداد في ظل إدارة ترامب أهمها:
أولا؛ استمرار السياسة الأميركية بذات الإطار العام الذي حكم سياستها وذلك بتكريس الحكم السياسي الشيعي ودعمه، وعدم إعطاء العرب السنة ما يطالبون به من مكانة للشراكة في إدارة الحكم، وهذا ما تشتغل عليه الأحزاب الحاكمة في بغداد في محاولة لإعادة إنتاج فعالياتها التقليدية في الهيمنة، ولعل ما سمي بتسوية عمار الحكيم يدخل في هذا الإطار. كما ستتصاعد نبرة اتهام العرب السنة بالإرهاب الذي أعلن ترامب الحرب عليه، وهذا الاحتمال سيزيد من الأزمات السياسية والاجتماعية، وسيشجع القوى المتطرفة على إعادة إنتاج نفسها كوريث لتنظيم داعش الإرهابي.
ثانيا؛ المرحلة المقبلة بعد نهاية داعش بهزيمته من الموصل، والتي تشكل النهاية الرسمية له، ستفرز أوضاعا سياسية جديدة داخل البيت الشيعي الذي نما وكبر خلال الثلاث عشرة سنة الماضية، وأهمها ظهور قيادات سياسية للميليشيات ستحمل شعارات المنافسة مع القوى الشيعية التقليدية، لأنها قدمت الدماء والثمن السياسي لتلك التضحيات هو دخول نادي السلطة في بغداد بقوة، كما ستكون تلك القوى أكثر صرامة وحدّة ضد العرب السنة، وإذا ما وجدنا في العهد السياسي الحالي رموزا سنية لها صوت داخل البرلمان أو الحكومة، فستقمع تلك الأصوات. وهذا الحراك المتشدد سيكون مدعوما بقوة من قبل طهران التي بشرت بميلاد “حرس ثوري عراقي” تم تشريعه بقانون الحشد الشعبي ولعل مجيء مسجدي القيادي في الحرس الثوري الإيراني هو في إطار بناء التجربة الجديدة في العراق. هذا التطور إذا ما حصل سيزعج الأميركان كثيرا، خصوصا أن انتصارات الفصل الأخير ضد داعش كانت بفضل قوتهم العسكرية والاستخبارية وليس بقوة حرس إيران الثوري أو مستشاريها.
ثالثا؛ هناك سيناريو متداخل مع السيناريو المتشدد أعلاه يمثله ما يقوم به رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس الجمهورية نوري المالكي من نشاطات مكثفة هدفها تحضير الأرضية الانتخابية للمرحلة المقبلة من الهيمنة السياسية الشيعية على الحكم تحت عناوين متعددة أهمها “الأغلبية السياسية” وإنهاء لعبة المحاصصة مع كل من العرب السنة والأكراد، وذلك باستجلاب شخصيات عربية سنية غير “مُدشّنة”- بالمعنى الشعبي العراقي- أي غير مستعملة، وكذلك شخصيات كردية لديها رؤى مختلفة عن رؤية قيادة مسعود البارزاني، رغم أن الأكراد جميعا لن يكون لهم شأن بالعراق بعد تحقيق هدفهم بالاستقلال، وجميع الأكراد متفقون على هذا الهدف القريب. ويبدو أن تحرك المالكي قد تكثف على المستويات الحزبية لكوادر حزب الدعوة، لإنتاج كتلة أو كتلتين انتخابيتين قويتين بعيدتين عن مناخ حيدر العبادي الذي لا يتوقع أن يكون له حظ سياسي في المرحلة المقبلة لعدم قدرته على تحقيق إنجاز شعبي في مجال محاربة إمبراطورية الفساد، كما أن انتصارات الحرب على داعش قد أخذ رايتها غيره من قادة الميليشيات. هذا الشغل الذي يمثله المالكي رغم ما يشاع عن سمعته السياسية تجاه قوى العرب السنة، لكنه يجد حماسة لدى المتطرفين الشيعة، وهو يعتقد أنه قادر على إدارة ملف العلاقة مع واشنطن بسبب خبرته لثماني سنوات في الحكم، فقد دعا قبل فترة قصيرة إلى ضرورة تجديد اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق.
وقد تتعاطى واشنطن مع هذا السيناريو الداخلي، إذا ما قدم المالكي ضمانات لأميركا بإجراء تعديلات على سياساته المتشنجة تجاه سنة العراق وتجاه المحيط العربي السني.
رابعا؛ السيناريو الأضعف هو نمو وتطور التيار الوسطي في المسألة العراقية من بين عرب العراق سنة وشيعة، فهذا التيار لم يُمنح العناية من قبل أميركا في عهدي بوش وأوباما، لسبب انغلاق عيونهما على ما سمياه “حكم الأحزاب الشيعية” رغم النتائج الكارثية التي حصدها أبناء العراق. صحيح أن هذا التيار يمتلك طبقة سياسية واعية من المثقفين والمفكرين والتكنوقراط، لكن تفاعله ضعيف مع الأوساط الاجتماعية العشائرية التي أصبح لها شأن بالوضع السياسي وفي الانتخابات الدورية، فمن يستطيع أن يجمع عددا كبيرا من هؤلاء هو الذي يكسب النتائج. الأميركان عموما في أحاديثهم الخاصة يتمنون بروز هذا النمط السياسي في العراق، لكنهم بذات الوقت يتعاطون مع قوى فاعلة على الأرض، لا في نواد فكرية أو مراكز بحوث.
خامسا؛ السيناريو الأكثر ترجيحا هو الدخول في حل عقدة العرب السنة بإعطائهم إقليما خاصا يكون مدعوما من أميركا والمحيط العربي، وقد أشار الرئيس ترامب إلى إمكانية ذلك.
وضوح سياسة دونالد ترامب تجاه الملف العراقي في الأيام المقبلة سيعطي أيا من السيناريوهات المتوقعة قدرة التنفيذ. والعراقيون منتظرون، هل سيأتي الفرج من الرجل الأبيض الذي دخل البيت الأبيض؟
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية