في بداية هذا الشهر، كشف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، النقاب رسمياً عن “وثيقة المبادئ والسياسات العامة” للتنظيم، والتي تم انتظارها منذ وقت طويل، خلال مؤتمر صحفي عقده في الدوحة. وقد نفى قادة حماس أن هذه الوثيقة تحل محل الميثاق التأسيسي للحركة. وعلى الرغم من ذلك، يشكل نشر هذه الوثيقة خطوة مستحقة منذ طويل وقت، والتي لا يمكن تجاهلها.
يشكل ميثاق حماس وثيقة معادية للسامية ومثيرة للجدل، والتي تدعو إلى إقامة دولة إسلامية على كامل أرض فلسطين التاريخية. ومنذ نشر الميثاق في العام 1988، نأى العديد من قادة حماس بأنفسهم عنه. ولكن، من أجل الحفاظ على صورة النقاء الأيديولوجي لفائدة الدائرة الانتخابية الأوسع، ولغاية تجنب الانقسامات داخل الحركة، خبت الدعوات السابقة إلى إجراء مراجعة للميثاق.
مقارنة بالوثيقة التأسيسية للحركة، فإن هذه الوثيقة الجديدة دقيقة نسبياً وماكرة سياسياً. وعلى الرغم من أنها تقصر عن تحقيق العديد من الآمال التي كانت تتردد في الأحاديث الخاصة فيما يتعلق بالإصلاحات المنتظرة في داخل حماس، فإنها تعرض تمثيلاً جيداً لتحولات حماس كحركة وكيان حاكم في غزة بعد 30 عاماً تقريباً من تأسيسها.
على الجبهة السياسية، تعرض الوثيقة النزر اليسير من المفاجأت. فحماس تدعم على نحو لا يقبل النقض قيام دولة فلسطينية تتمتع بالسيادة على حدود العام 1967، على أن تكون القدس عاصمتها. وهي لا تعترف بدولة إسرائيل أو تتخلى عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وتتضمن الوثيقة القبول بدولة مؤقتة، بينما تحتفظ بالالتزام بتحرير كامل فلسطين باعتبار ذلكك “صيغة للإجماع الوطني”. وتشدد هذه العبارة على طبيعة هذه الوثيقة كحل وسط بين مختلف دوائر حماس الانتخابية، بالإضافة إلى كونها وثيقة يمكن أن توفر منطلقاً للمصالحة مع حركة فتح.
على العكس من ميثاق حماس الأصلي، فإن هذه الوثيقة لا تبرر السعي إلى التحرير من خلال استخدام لغة متشددة معادية للسامية. وبدلاً من ذلك، تعرض أيديولوجية معادية للصهيونية التي تنظر إليها على أنها مشروع “استعماري عنصري وعدواني” يجب تقويضه في عالم ما بعد الاستعمار. وتفرق الوثيقة صراحة بين اليهود واليهودية من جهة، وبين الصهيونية السياسية من جهة أخرى، وتشير إلى أن صراع حماس مقصور على الأخيرة. وتشدد على أن معاناة الشعب اليهودي مع معاداة السامية ليس مرتبطاً بالعرب أو المسلمين، وإنما بماضي أوروبا. ولمواجهة “المشروع الصهيوني”، تعتبر حماس المقاومة المسلحة ضد الاحتلال حقاً مقدساً، وحقاً مشروعاً في القانون الدولي أيضاً.
تشكل هذه الوثيقة قوة موازنة للإدعاءات بأن حماس هي مجموعة غير عقلانية ومتشددة ومتعطشة للدماء، ومصممة على قتل كل اليهود. ومع ذلك، فإن فكرة أنها إشارة على الاعتدال اعتدال حماس المطلق أو تغيرها الكامل هي مبالغة. ويجب أن يفُهم نشر الوثيقة على أنه عمل موازنة، وجهد للسماح بعرض البراغماتية في داخل حماس علانية من دون تقويض القاعدة الأيديولوجية للحركة. وهي أداة دبلوماسية تفتح مجالاً للقيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وللمجموعة الدولية على حد سواء للانخراط مع حماس.
على ضوء الجمود السياسي الراهن، يجب عدم تجاهل هذا الجهد، حتى لو ظلت المخاوف قائمة. ومع أن حماس تعول على القانون الدولي لتأكيد شرعية كفاحها المسلح، فإنها قد تنتهك هذه القوانين من خلال استهداف المدنيين بشكل عشوائي. ومن الواجب إدانة قتل المدنيين عندما توضع ممارسات حماس في السياق.
على العكس من الميثاق الأصلي لحماس، فإن هذه الوثيقة لا تستخدم لغة متطرفة معادية للسامية.
عملت إسرائيل بشكل منهجي في انتهاك للقانون الدولي على مدى عقود، فقتلت آلاف المدنيين الفلسطينيين من خلال احتلالها وفي الأعمال الحربية التي تقوم بتنفيذها في مناطق مأهولة بكثافة. ولا يعني هذا القول إن الجانبين متساويان أو أنهما يمثلان يشكلات ترتيباً هرمياً للمعاناة. لكنه يعني بدلاً من ذلك اقتراح أن إمكانية الانخراط والدبلوماسية لا يمكن أن تمنع عن طرف وتعطى لطرف آخر عندما يرتكب الطرفان أفعالاً تنتهك القانون الدولي.
ويمكن قول الشيء نفسه عن رفض حماس الاعتراف بإسرائيل. وتظل وثيقة حماس السياسية أقرب إلى إطار عمل حل الدولتين من البيان الرسمي لأهداف الليكود، الحزب السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فخطاب الليكودلا يتطرق مطلقاً إلى ذكر حدود العام 1967، وتماماً مثلما ترفض حماس الاعتراف بشرعية الصهيونية، يرفض الليكود حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وقد قوبلت وجهات نظر المؤسسة السياسية الإسرائيلية القائمة على المواقف العنصرية بتوطيد وتقوية الروابط الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بينما تستمر حماس في مواجهة التهميش.
على الرغم من نقاط القصور فيها، تتضمن الوثيقة الجديدة لحماس مطالب سياسية كانت منذ وقت طويل مركزية في النضال الفلسطيني، والمتأسسة في العديد من قرارات الأمم المتحدة، بما فيها حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وبالكاد يكون الانتقاد اللاذع للصهيونية وتجلياتها السياسية في إسرائيل اليوم مقصوراً على حماس أو حتى الفلسطينيين. والمعروف أن إسرائيل اختارت تاريخياً تفادي تحقيق هذه المطالب السياسية، مفضلة بدلاً من ذلك إدارة الصراع. وقد أسفر هذا عن جهود متقطعة لـ”جز العشب” في غزة، حيث يشير القرع الأخير لطبول الحرب إلى أن هناك جولة أخرى منها تلوح في الأفق. ويجب الاعتراف بوثيقة حماس الجديدة كفرصة للانخراط معها كمحاور حاسم يستمر في التمتع ببعض الشرعية في أوساط أنصاره ودوائره الانتخابية.
طارق باكوني
صحيفة الغد