يعتبر العمل في إحدى الوكالات أو المنظمات التابعة للأمم المتحدة من الأحلام المشتركة بين طلاب اللغات الأجنبية والاقتصاد والعلوم الإنسانية، فهي الوظائف التي يتفق الجميع على كونها مرموقة من ناحية الوضع الاجتماعي بما توفره من عروض مغرية للعاملين بها مما يشمل الرواتب العالية والمزايا الأخرى المتعلقة بالتأمين الصحي ونفقات تعليم الأبناء وفوائد ما بعد الخدمة أو حتى ما بعد الحياة.
الدعاية الخلابة التي تقدم بها الأمم المتحدة نفسها كسكرتارية للتشاور بين الدول والشعوب من أجل حل المشكلات الإنسانية الكبرى كالفقر والجهل والمرض والاستبداد وغيرها من القضايا التي على رأسها تجفيف منابع العنف والحرب، هذه الدعاية تقدم حافزاً أكبر لهؤلاء الشباب من أجل السعي لطرح أنفسهم كموظفين دوليين في خدمة القيم والمبادئ التي يفترض أنها ليست محل خلاف بين مواطني هذا الكوكب.
إلا أن هذه النظرة العابرة للجنسيات والخلفيات والتي تدعي أنها تساوي بين جميع الدول والأوطان وأنها تحرص على منح الجميع الفرص ذاتها والقدرة على إيصال الأصوات أصبحت محل تساؤلات كبيرة. تساؤلات فرضها عجز المنظمة الأممية وما تفرع عنها من مؤسسات عن إيقاف المآسي والظلم الكبير الذي يعيش فيه الملايين من البشر في أكثر من بقعة حول العالم، وفي عصر ظننا أنه عصر الحضارة فإذا به يتحول إلى عصرٍ للبغض والردة الشعبوية وجرائم الكراهية واستئساد الاستبداد.
بل إن المنظمة التي لم تملك حيال أحداث اجرامية كبرى وتاريخية إلا «التعبير عن الأسف العميق والقلق البالغ» صارت تلاحقها تهم التواطؤ والتشكيك في النزاهة والحيادية.
أما الاتهام الذي لم يستطع حتى أمينها العام الأسبق، بطرس غالي، إنكاره فهو المتعلق بتحولها من ممثلية مفترضة لدول العالم لمجرد سكرتارية للدول التي تحتكر قرارات ذلك العالم، فكأنها وما ارتبط بها من مؤسسات ليست في معظمها سوى ذراع من أذرع الروح الامبريالية الراغبة في السيطرة.
في ظل هذا التشكيك الذي أصبح أكثر صخباً اليوم والذي فرضه الدور الثانوي للمنظمة الأممية في مسألة إيجاد حل حاسم وفاعل للأزمة السورية وغيرها من القضايا التي على رأسها القضية الفلسطينية أتت استقالة الأردنية ريما خلف التي احتلت منصباً رفيعاً بصفتها وكيلاً للأمين العام وأمينة تنفيذية للإسكوا (اللجنة الاجتماعية الاقتصادية لغرب آسيا).
لقد مرت أسابيع عدة على تقديم هذه الاستقالة التي جاءت على خلفية التقرير الذي أعدته الاسكوا والذي يصف الكيان الإسرائيلي بأنه دولة فصل عنصري وهو التقرير الذي رفضت الأمم المتحدة تبنيه والاعتراف به رغم أن خبراء محايدين هم من صاغوه وراجعوه وهو ما جعل السيدة خلف ترفض الاستمرار في منصبها.
لم يحدث شيء خلال هذه الأسابيع سوى قبول الأمين العام لتلك الاستقالة وهو الأمر الذي لم يكن مفاجئاً في ظل إصرار ريما خلف على موقفها الداعم لتقرير فريقها. فقد وجدت الأخيرة بعض الاحتفاء لأيام ثم بدأت قصتها تشق طريقها ببطء نحو النسيان مثلها مثل قصص وأسماء كثيرة.
سياسة «حذف التقارير» هي سياسة جديدة وخطيرة تتخذها الأمم المتحدة فقد كان من المعتاد أن تتجاهل المنظمة كتابة تقارير عن مسألة معينة أو أن تكتب تقريرها بشكل يجعله لا يتعارض مع مواقفها المعلنة ومصالحها المتشابكة هنا وهناك. لكن يبدو أن ذلك قد تغير وأن الأمين العام الجديد لا يرى غضاضة في حذف كل ما قد يسبب له أو لمنظمته المشاكل، فبعد حذف تقرير «الظلم في العالم العربي» ها هو يرعى حذف وتجاهل تقرير استند على أشهر من البحث والمراجعة وصاغه خبراء من خارج المنطقة بمهنية قادتهم للحكم على وضع الفلسطينيين في ظل الاحتلال بأنه مشابه ومطابق لما كان يحياه السود في ظل الأبارتايد.
لكن صدور مثل هذا التقرير كان سيقوّض جميع إدعاءات الكيان وأكاذيبه، كما أنه كان سيجعل من واجب جميع الدول إعلان مقاطعتها لدولة الفصل العنصري بحسب ما تمليه عليهم مواثيق الأمم المتحدة التي من أهم أهدافها إعلان الحرب على العنصرية والتمييز. كان ذلك سيخلق الكثير من الحرج حيث لا يمكن تصور الولايات المتحدة التي تتأهب لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس وهي تقطع علاقتها مع الكيان أو حتى تقلل من دعمها له ومثل ذلك يمكن أن يقال عن دول أوروبية وغير أوروبية.
حاولت المنظمة أن تشرح تلك التعقيدات للقائمين على التقرير لكنهم أصروا على عدم التراجع وهنا وضعت الأمينة التنفيذية منظمتها أمام خيارين، فإما نشر التقرير وإما الاستقالة فكان أن اختارت المنظمة قبول استقالة تلك الموظفة العربية المشاغبة.
في آخر فقرات الاستقالة تقول ريما خلف: «أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريراً للأمم المتحدة، ممتازَ البحثِ والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. غير أنني أدرك أيضاً، أن التعليمات الواضحة للأمين العام للأمم المتحدة لا بد من أن تنفذ. ولذلك، فإن هذه العقدة لا تحل إلا بأن أتنحى جانباً وأترك لغيري أن يقوم بما يمنعني ضميري من القيام به. (…) إنما أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر».
إن أهمية قصة ريما خلف لا تكمن في كونها قد قدمت اختراقاً كبيراً تجاه القضية الفلسطينية أو حتى تجاه تغيير آليات العمل العرجاء في المنظمة الأممية، فالتقرير، كما مجمل القصة، سوف يطويه النسيان وسيتحول إلى مجرد وثيقة تضاف إلى الملف الكبير الذي يوثق انتهاكات وخروقات الاحتلال والذي يحاول المؤمنون بالحلول التفاوضية والسلمية إقناعنا بأنه سيكون مفيداً في يوم من الأيام. لكن الأهمية الحقيقية لهذه القصة هي في الدرس الذي يجب أن يعيه الجيل الجديد من الموظفين الدوليين وخاصة من المنتمين لمنطقتنا المنكوبة. إن الحفاظ على منصب زائل أو ميزات مالية لا يجب أن يكون هدفاً مطلقاً، وإلا فسوف يجد المرء نفسه وقد تحول في بعض الأحيان لترس صغير في خدمة مشروع يصب في صالح أعداء الإنسانية لمجرد أنهم يملكون السيطرة الاقتصادية الكافية أو التمويل اللازم.
يخبرنا التاريخ الحديث أن كثيراً من الطوام التي حاقت بالمنطقة العربية قد تسببت بها تقارير أشرف عليها موظفون من بني جلدتنا لم يكن يهمهم الحياد والموضوعية بقدر ما كان دورهم مجرد تحصيل حاصل وتأكيد لرغبة رؤساهم، بل لعل بعض التقارير قد تمت صياغتها بشكل مسبق وقبل وصول اللجان المعنية لميدان الأحداث.
ولأن التعميم غير موضوعي فإنه يجب أن نقول إن هناك بالتأكيد من يخدم الانسانية بصدق وبحسب استطاعته داخل تلك المنظمة من العرب وغير العرب ولكن العبرة ليست بالأفراد وإنما بمنهج العمل الشامل والذي يشوبه قصور من الصعب إنكاره.
مدى الفاتح
صحيفة القدس العربي