في ضوء حملة الانتخابات الرئاسية الراهنة يتضّح اليوم أكثر من أي وقت مضى أن دور رجال الدين في السياسة الإيرانية آخذ في التراجع. فاثنتان من كبرى المؤسسات الدينية انتظرتا فترة أطول من المتوقع للإعلان عن أسماء مرشحيهما، بينما تبقى أهمية هذا التأييد موضع شك وتساؤل. فالمؤسسة السياسية المدعوة “جمعية مدرّسي حوزة قم العلمية” التي يتمحور عملها حول التعاليم الشيعية أعلنت تأييدها للمرشح المتشدد ابراهيم رئيسي، شأنها شأن “مجمع علماء الدين المجاهدين” في طهران الذي يخضع لإشراف “جبهة ثبات الثورة الإسلامية” التابعة للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشيخ المحافظ النافذ آية الله محمد تقي مصباح اليزدي. بيد أن جميع المرشحين للرئاسة الذين أيدتهم هذه المؤسسات منذ عام 1997 مُنيوا بالخسارة، ومن ضمنهم المرشحين الذين خسروا الانتخابات أمام الرئيس الحالي حسن روحاني في عام 2013. ويبدو أن تأثيرهم محدود على أكثر المتشددين التزاماً داخل النظام، في الوقت الذي تميل فيه السلطات الدينية الرئيسية الأخرى إلى الامتناع تماماً عن أي تأييد علني.
خروجٌ عن الهيمنة الدينية ولكن ليس عن الهوية الإسلامية
[لا يخفى] أن دستور الجمهورية الإسلامية ونهجها السياسي يمنحان رجال الدين امتيازات فريدة. فهم غير ملزمين بالخدمة العسكرية الإجبارية المفروضة في البلاد، كما أنهم معفيين، هم ومؤسساتهم من الضرائب. بالإضافة إلى ذلك يملك آيات الله حقاً حصرياً في غالبية المراكز الرفيعة داخل النظام ومن بينها منصب المرشد الأعلى، ووزير الاستخبارات، ورئيس السلطة القضائية، و”مجلس خبراء القيادة”، ونصف أعضاء “مجلس صيانة الدستور” الذي يتمتع بنفوذ كبير.
وقد ساهمت هذه الامتيازات في تحوّل المؤسسة الدينية من منظمة تقليدية تعتمد على الموارد الدينية إلى كيانٍ عملاق له نظام بيروقراطي محدَّث، واستخدام غير محدود للموارد الوطنية، والقدرة على منافسة القطاع الخاص على كافة الجبهات. ومع ذلك، كان تعاظم هذه المؤسسة سيفاً ذو حدين – فعلى الرغم من اكتساب رجال الدين للكثير من الثروات الشخصية والمناصب العليا في مختلف أجهزة النظام، إلا أنهم فقدوا جزءاً كبيراً من استقلاليتهم وشعبيتهم ونفوذهم الفعلي لمؤسسات النظام الأخرى أو تنظيماته الاجتماعية.
ويجدر بالذكر أن ظهور الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد – وهو سياسي من خارج المؤسسة الدينية وصل إلى السلطة بدعمٍ من الجيش وتفوق على آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني في صناديق الاقتراع – شكّل حدثاً هاماً في مسار تحوّل الجمهورية الإسلامية من حكومة يترأسها رجال الدين إلى نظام يقوده “إسلاميون من خارج المؤسسة الدينية” الذين يستخدمون رجال الدين للحفاظ على شرعيتهم فحسب. وكان «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني المحرك الرئيسي لهذا التغيير – ومن الصعب اليوم إيجاد أي منحى من الحياة العامة أو الشخصية، بدءاً من الاقتصاد ومروراً بالسياسة الخارجية ووصولاً إلى البرنامج النووي، لا يخضع لسيطرة «الحرس الثوري».
في الخطاب الأول الذي ألقاه الرئيس روحاني خلال حملته الانتخابية في 27 نيسان/أبريل، والذي تم بثه على نطاق واسع، طلب من الشركات والوكالات الاستخبارية التابعة لـ «الحرس الثوري» أن تكفّ عن إضعاف القطاع الخاص، حيث قال: “لا بد من أن تكون المنافسة سليمة في الاقتصاد. فالشركات الخاصة تعجز عن خوض المنافسة في السوق بوجود شركات أخرى تستفيد من الدعم السياسي والاستخباراتي”. كما توجّه بانتقادات مماثلة في عام 2014 حين جادل بأنه إذا أصبحت أموال إيران، وإمكانياتها العسكرية، ووسائل إعلامها، وفضائها السيبراني خاضعة جميعاً لمؤسسة واحدة ذات سلطة لا تضاهى (أي «الحرس الثوري الإسلامي»)، فستكون هذه المؤسسة فاسدة بالضرورة.
وبالمثل، في آب/أغسطس 2015، عمد نائب رئيس البرلمان علي مطهري إلى وصف «الحرس الثوري» بـ “خصم الشعب” في الاقتصاد. وفي عام 2009 كان دور «الحرس الثوري» المتنامي في عملية صنع القرار الإيراني والاقتصاد والتلاعب في الانتخابات الإيرانية قد دفع الشيخ الراحل آية الله حسين علي منتظري إلى التعليق قائلاً إن “على القادة الإيرانيين التحلي بالشجاعة الكافية للتصريح بأن الحكومة الراهنة ليست جمهورية ولا إسلامية”. وقد انطوى هذا الاتهام على إدانة قوية نظراً إلى تاريخه كونه منظّر واضع عقيدة “ولاية الفقيه” التي يستمد منها المرشد الأعلى سلطته.
ويمكن أيضاً قياس الوجود العسكري الساحق من خلال فقدان اهتمام الشعب بمناقشة الشرعية الدينية للنظام. فخلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، كانت “ولاية الفقيه” محط جدل محتدم في وسائل الإعلام وغيرها من المنتديات العامة، حيث كان الكثير من المثقفين العلمانيين والشخصيات الدينية ينتقدون هذه النظرية داخل إيران وخارجها. ولكن منذ ذلك الحين، يبدو أن معظم المراقبين قد خلصوا إلى أن هذه النقاشات عديمة الجدوى، على الأقل من حيث تأثيرها على مؤيدي النظام أو تعبئة المناهضين له. كما أن تراجع النقاش يعزى إلى قوة الجمود الحاصل في الوضع الراهن – حيث تنبع “شرعية” النظام، على الأقل جزئياً، من واقع تجذره في كافة نواحي الحياة الإيرانية، وقد يكون من الصعب تغييره بسرعة (ناهيك عن ذكر التكاليف الشخصية المحتملة حتى من خلال محاولة القيام بذلك).
تراجع السلطة الاجتماعية
على الرغم من توسع الشبكة الاجتماعية لرجال الدين الإيرانيين واستعانتهم بالمزيد من الموارد الحكومية لتوجيه التفكير العام، خسر هؤلاء سلطتهم الاجتماعية التي بلغت مستويات عليا في السابق. إن انعدام أهميتهم في الحملات السياسية الإيرانية هو مجرد مثال واحد من أمثلة كثيرة. فقد كان النظام يعتمد سابقاً على رجال الدين إلى حدٍّ كبير للتأثير على المواطنين وحثهم على اتّباع توجيهاته، ولكنه أصبح اليوم يلجأ إلى نجوم السينما والشخصيات الرياضية للتحدث إلى الشعب عن السياسة وحتى عن الأخلاق. وعلى الرغم من الثروة الطائلة لرجال الدين، فقد رأوا دورهم في إدارة الشعائر والاحتفالات الدينية يتضاءل بشكل ملحوظ على مدى العقدين الماضيين، بينما حلّ المدّاحون محلّهم في الكثير من هذه المهمات والفرائض.
إلّا أنّ قلق رجال الدين من تراجع نفوذهم بلغ حدّ التشهير به على الملأ. ففي عام 2016، قام “مكتب التوعية الإسلامية”، وهو منظمة دينية ضخمة تابعة للنظام وخاضعة لإشراف خامنئي، بعقد ندوة تحت عنوان “الهيبة السياسية الاجتماعية لرجال الدين في العقد الرابع من الجمهورية الإسلامية”. وتطرق المتحدثون إلى أسباب تراجع مكانتهم السياسية والاجتماعية، وأقرّوا بأن المشكلة وصلت إلى مرحلة حاسمة.
وردّاً على الإفراط في تسييس رجال الدين، نشأ جيلٌ جديد من طلاب الحوزات العلمية [المدارس الدينية] الذين حاولوا النأي بنفسهم عن السياسة. غير أن هذه النزعة أثارت قلق خامنئي إلى حدٍّ هائل، الأمر الذي دفعه إلى إحكام قبضته على إدارة المؤسسة الدينية. وكما قال تلميذ مصباح اليزدي، آية الله محسن غرويان، الشهر الماضي، “أصبح طلاب الحوزات العلمية الواسعي المعرفة يبتعدون عن السياسة والحكومة بشكل متزايد… ونحن نرى عدداً أقل من رجال الدين المهتمين بمناقشة القضايا السياسية في صفوفهم. ففي المدارس الدينية، على سبيل المثال، هم لا يتطرقون إلى فكر الإمام الخميني في صفوفهم وكتبهم المدرسية”.
الخاتمة
من المفارقات، أن نظرية “ولاية الفقيه” قد قوّضت مفهوم “الفقه” منذ ثورة عام 1979. فقد رأى رجال الدين الشيعة على اختلاف مستوياتهم قلّة الجدوى من دراسة “الفقه” لكي يصبحوا “فقهاء” عندما يعاملهم المرشد الأعلى كما يُعامِل أي شخص آخر، بإرغامهم على الإطاعة لأحكامه وحده حول جميع المسائل الدينية وغير الدينية. وبالفعل فإن “ولاية الفقيه” تمنح المرشد الأعلى صلاحية فريدة لتخطي الشريعة الإسلامية كلما تعارضت مع مصالح النظام. ولكن مع تراجع مكانة رجال الدين شيئاً فشيئاً، سوف يتعين على النظام مضاعفة الجهود الحالية لاستراتيجيته، والاعتماد على التدابير الأمنية أكثر من السلطات الروحية لضمان بقائه.
مهدي خلجي
معهد واشنطن