مع انطلاق التظاهرات المناهضة لأنظمة الحكم في عدد من الدول العربية قبل أربع سنوات، وجدت إيران نفسها في مأزق. فمطالب التغيير الآتية «من تحت»، لم تكن تعكس رغبة طهران بتعميم نموذجها في المنطقة، ولا كانت توحي بأنها تملك من الحلفاء ما يكفي لكسب الأرض التي تميد تحت أقدام خصومها في تونس ومصر واليمن.. هي التي أقامت دعايتها قبل خمسة وثلاثين عاماً تحت شعار «تصدير الثورة».
سقط بن علي وبعده مبارك، وتحوّلت التظاهرات المطلبية في ليبيا وسوريا إلى حربين ضروسين، فيما تم التفاهم على حلٍ مَرعي خليجياً في اليمن، وطُوّق الحراك في البحرين، وبدأت مرحلة اهتزاز السلطة المركزية في العراق الذي كان لتوّه قد شهد طفرة للنفوذ الإيراني فيه، مع سحب الإدارة الأميركية قواتها منه.
لم تنفع محاولات طهران تصوير الأمر على أنه «ثورة إسلامية» تستلهم شعاراتها. تراجع تأثير تصوراتها «الكبرى» الخاصة بالاستقلال السياسي والاقتصادي عن الخارج لمصلحة مطالب أكثر «جزئية»، تتصل أساساً بالحريات السياسية المحلية. وفي حين بدا المنطق الذي يُماهي بين التغيير الحاصل في المنطقة العربية ومُقدمات «الثورة الخضراء» في إيران قبل ذلك بعامين، أكثر تماسكاً من الدعاية الإيرانية، دخلت تركيا على خط المنافسة «الايديولوجية» بقوة، عبر تأسيسها قاعدة انطلاقها الجدي نحو محيطها الجنوبي، وإلهامها الحركة الإسلامية الأكثر تنظيماً في العالم العربي، أي «الإخوان المسلمين».
على أن مياهاً كثيرة جرت خلال الأعوام الأربعة وفاضت من تونس وصولاً إلى المشرق. فقد برزت العوامل الجيوسياسية في الحراكات المختلفة بشكل أكثر جلاء. واندلعت الفوضى نتيجة أسباب شتى. بينها عنف الأنظمة الأمنية وصلابة مؤسسات «الدولة العميقة»، واستعجال قطر وتركيا و«الإخوان» تحصيلَ النتائج، واتساع الهوة بين معظم «الخليج» وبين المعسكر الإقليمي الداعم لـ «الإخوان»، ونشوء جيل جديد من التنظيمات «الجهادية» العابرة للحدود، وسوء حسابات الغرب أثناء محاولته إدارة اللعبة من بعيد.
إثر ذلك، عادت طهران لاعباً رئيسياً في جملة من الساحات، بدينامية افتقدها خصومها. وقد وظفت في سبيل ذلك خبرتها في اجتراح الفرص حيث تُفتح النوافذ. فضاعفت من رهانها على «حزب الله» كنموذج عربي قابل للتكرار مع بعض التعديلات. وعملت انطلاقاً من ذلك على تدعيم الظاهرة الحوثية بمقوماتٍ، تسمح لها بتشكيل البديل الأكثر جاهزية لإدارة دولةٍ تقف على حافة الفشل. كما رعت قيام تشكيلات رديفة للجيشين النظاميين في سوريا والعراق، تُفيد في قتال الجماعات المسلحة التي يتسرب أفرادها عبر تركيا من مختلف أنحاء العالم.
هكذا، وبعد أربع سنوات على ظهور مأزقها، أصبحت إيران تمتلك جملة من عوامل القوة الصلبة، في شرقٍ أوسط يفيض سلاحاً وحرباً. وهو أمر دفع سائر القوى الإقليمية التي تعاملت مع طهران على مدار السنوات الماضية كقوة متراجعة، إلى إعادة حساباتها و«تصويب» خياراتها. وتشكّلت نقطة الانطلاق لذلك بعد وفاة العاهل السعودي الملك عبد الله، وسعيِ الطاقم المرافق لخلفه الملك سلمان إلى رسم رؤية مغايرة لسياسة الرياض الخارجية، تقوم، كما أصبح معلوماً، على أولوية مواجهة «التمدد» الإيراني، أو احتوائه على أقل تقدير.
على أن الدينامية الإيرانية تقوم اليوم على اتصال أحزابٍ عقائدية وقوى عسكرية فاعلة على امتداد المشرق العربي وفي اليمن بها. وفي ذلك ما يُغري حليفها الروسي للاستثمار في هذه الأوراق، علماً أن المنفعة متبادلة في هذا الإطار. إذ إن طهران تحتاج إلى موسكو لموازنة الضغوط الغربية في ملفها النووي وخلاف ذلك من ملفات المنطقة المطروحة في مجلس الأمن. بينما تشكّل إيران لموسكو بوابة ذهبية للشرق الأوسط، تعوّض غياب التجمعات السكانية والجماعات العقائدية والمنظمات العسكرية ذات الارتباط العضوي بها. فالحال لم يعد كما كان عليه في عهد الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية والاشتراكية المنتشرة حول العالم. لكن موسكو وجدت أن النقص هذا في القوى القادرة على صوغ الوقائع على الأرض، يمكن أن يُعوَّض عبر إحداث تناغم في السياسات مع طهران.
من هذا المنطلق، تتعامل موسكو مع الحوثيين في اليمن على أنهم ظاهرة لم يعد بالإمكان تجاوزها لدى ترتيب أوراق البلاد. وهؤلاء يطلّون على البحر الأحمر من مضيق باب المندب، المتحكم بـ 8 في المئة من عمليات الملاحة البحرية و4 في المئة من حمولات النفط عبر البحار في العالم. تدرك أن قطاع الطاقة في اليمن، الذي تشكل صادراته البترولية نحو 57 في المئة من مجمل صادرات البلاد، ذو قابلية كبيرة للتطوير. وتقيس ذلك على الحالة الاقتصادية الصعبة لليمن، الذي يساوي إجمالي الناتج المحلي فيه أقل من واحد على عشرة من مثيله في السعودية.
ربيع بركات
السياسة الدولية