في مقال افتتاحي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” يوم 20 تموز (يوليو)، كتب الميجور جون سبنسر:
“تمثل المعركة من أجل الموصل مستقبل الحرب –ولم يكن المثال جميلا… فقد تمكن جيش مجمع من هنا وهناك، مكون من بضعة آلاف من مقاتلي الدولة الإسلامية بالاحتفاظ بالمدينة لأشهر ضد نحو 100.000 من قوات الأمن العراقية المدعومة من الولايات المتحدة”.
والأرقام مهمة: “بضعة آلاف”. وكذلك الوصف: “مجمع من هنا وهناك”، بمعنى، متنافر، غير منظم، وخام.
في فترة مَجدِه في العامين 2014-15، استولى تنظيم “داعش” على الموصل مع كل المعدات العسكرية الأميركية التي كانت هناك، بما فيها الأسلحة الثقيلة، وكذلك الملايين من الدولارات من مصرف المدينة المركزي.
واليوم، أصبح ما يُدعى “الدولة الإسلامية” يخسر ويتراجع في كل أنحاء العراق، وكذلك في سورية أيضا –ولو ببطء أكبر. وهو وقت جيد للتفكير في مدى الدقة التي يُفهم بها تنظيم “داعش”.
فيما يلي بعض أسئلة نهاية المطاف حول القوى العسكرية لما تدعى “الدولة الإسلامية” وحكومات الاحتلال.
الأعداد: كم من المقاتلين ما يزال “داعش” يمتلك في ميادين القتال؟ وهل ما تزال تجمعاتهم المحلية في اتصال مع بعضها البعض، أم أن “داعش” تجزأ بطريقة قاتلة؟
المجندون الجدد: انخفض عدد المقاتلين الأجانب الذين يصلون سورية كل شهر إلى رقم منخفض لا يتجاوز المئات في أحسن الأحوال، ولم يعودوا يضيفون إلى الآلاف الذين شهدت قدومهم السنوات السابقة. ويقدر تقرير لصحيفة “الواشنطن بوست” أن 30.000 إلى 40.000 مقاتل من 86 بلداً وصلوا إلى هناك على مدى سنتين. لكن القائد الأميركي، الجنرال شون ماكفارلاند، قال إن 35.000 إلى 45.000 مقاتل في المجموع قد قُتلوا. وهرب آخرون كثيرون من ميدان المعركة، إما عائدين إلى الحياة المدنية أو إلى أوطانهم الأصلية كخلايا نائمة. كما أن الكثير من المقاتلين العراقيين والسوريين الأصليين قتلوا أيضاً.
ما النتيجة؟ التخمين الأولي هو أنه ربما يكون هناك 10.000 من مقاتلي “داعش” ما يزالون في الميدان، موزعين في أنحاء العراق وسورية. وثمة عدد ما، ربما بضع عشرات، يُقتلون كل أسبوع. وربما أكثر.
الموصل. كم عدد المقاتلين الذين احتفظوا بالموصل؟ ربما كان 6.000 مقاتل قد احتفظوا بمدينة كان فيها في البداية عدد سكان يبلغ مليوني نسمة. وكانت سيطرة “داعش” على الموصل في واقع الأمر أكبر عملية احتجاز رهائن في التاريخ.
كم من المقاتلين تبقوا في الرقة؟ بضعة آلاف كما يبدو. وقد هرب آخرون كثيرون إلى جانب عدد كبير من القادة وعائلاتهم، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”. وتشكل محافظة دير الزور السورية الشرقية آخر معقل لتنظيم “الدولة الإسلامية”.
مع ذلك، تبقى النقطة الذي ذكرها الجنرال سبنسر بمثابة تحذير حول مستقبل الحرب: يستطيع بضع مئات أو آلاف من المقاتلين صدّ جيش كامل في معركة تُخاض في المناطق الحضرية، لأوقات طويلة، ولو أن ذلك حدث فقط لأنهم يستخدمون المدنيين كدروع بشرية.
هل يشعر مقاتلو “داعش” المتبقون بتراجع في الروح المعنوية، وبتعرضهم للخذلان والهجران؟ لا شك في ذلك. إنهم ما يزالون يقاتلون حتى الموت، وإنما من أجل الشرف الشخصي المتعلق بالجهاد أكثر من كونه من أجل الخلافة. وربما ما يزال الحلم بالجنة، الذي كان ذات مرة سلاح “داعش” الذي لا يقهر، يتمتع ببعض البريق.
القائد: هل ما يزال المدعو الخليفة أبو بكر البغدادي حياً؟ تقول روسيا والمرصد السوري لحقوق الإنسان إنه ربما يكون قد مات. وقال وزير الدفاع الأميركي، جيم ماتيس، مؤخرا إنه يعتقد بأن البغدادي ما يزال حيا. هل ما يزال ذلك يهم كثيرا بعد الآن؟ من المشكوك فيه أن يكون زوال البغدادي هو العامل الذي يفضي إلى الانهيار العملياتي للمنظمة.
الذخيرة: ماذا بشأن أصل عادي جداً مثل الذخيرة؟ هل تنفد قوات “داعش” من الذخيرة؟ من إعادة التزويد؟ من أين يحصلون على الذخيرة الآن؟
وماذا عن “المساحات” الشهيرة من الأرض التي سيطر عليها “داعش” ذات مرة؟ هل يحتفظون بتلك السيطرة ببضعة آلاف من المقاتلين على أفضل تقدير، وبالأسلحة والمعدات اللوجستية المحدودة ؟ لم تستطع جيوش كبيرة السيطرة على مثل هذه المناطق في الماضي.
ما معنى “السيطرة” على أي حال؟
قال مسؤول أميركي رفيع في اجتماع مغلق عُقد مؤخراً أن السيطرة تعني في مصطلحات الجيش الأميركي منطقة “تستطيع فيها قوات ‘داعش’ أن تتحرك بحرية وتعود لتأمين القواعد”. هل هذه سيطرة حقاً؟ إذا كانت السيطرة تعني أرضاً فارغة، والتي لا يستطيع “داعش” فقط، وإنما أي قوة عسكرية أن تتجول فيها بحرية، فإن هذه المساحات التي يسيطر عليها “داعش” هي حقاً مجرد منطقة فارغة. وبما أن الكثير من أراضي العراق وسورية هي صحراء غير مأهولة، فما هي الفكرة من السيطرة عليها على أي حال؟
أين ما يزال “داعش” يحتفظ بقرى على طول النهرين، وكم من المقاتلين في كل منها؟
خمسة، عشرة، مائة؟ ليس كثيرا على أي حال. سوف تقتلهم القوى المهاجمة الكبيرة أو تطردهم بسرعة. ويجلس مقاتلو “داعش” هناك مثل البط منتظرين قتلهم.
السيطرة على الممرات المائية ضرورية للحياة في العراق وسورية. وتُظهر نظرة على هجمات “داعش” الأصلية وجود استراتيجية مدروسةجيداً. وقد شكلت السيطرة على سد طبقة فوق الرقة تهديدا خطيرا إذا قام مقاتلو “داعش” –كما بدا ممكنا- بتدمير السد للتسبب بفيضان. كما أن هذا التهديد أيضاً حمى القيادة العليا وأسرى “داعش” ذوي القيمة العالية الذين تم الاحتفاظ بهم هناك. وفي العراق، سيطر “داعش” على الكثير من أجزاء الفرات عن طريق الاستيلاء على القوى الواقعة على ضفتيه.
سلسلة القيادة: هل ما تزال أي سلسلة واسعة للقيادة موجودة على المستوى الاستراتيجي؟ يُحتمَل بالكاد. هل يقوم “داعش” بمكر بـ”إعادة توجيه” استراتيجيته لتتحول من احتلال المناطق إلى خوض حرب عصابات كما يعتقد بعض المعلقين؟ بالكاد مقنع. فبوجود “داعش” في حالة يرثى لها، فإن الهجمات الإرهابية تتعلق فقط بفعل ما لا يزال مقاتلوه قادرون على فعله –ارتكاب مجزرة لا طائل تحتها.
إن مستقبل “داعش” هو أن يكون تنظيماً مطارَداً بشكل دائم. سوف يذهب القادة والمقاتلون المتبقون إلى العمل تحت الأرض في المناطق الصحراوية من أجل تنظيم قوة حرب عصابات جديدة ما، ربما باسم جديد، وربما مندمجة مع قوى أخرى، مثل توابع القاعدة. وكانوا قد فعلوا ذلك بنجاح في مرة سابقة.
لكن إعادة ظهور “داعش” لا يمكن تمويهها هذه المرة –فقد ذهب عنصر المفاجأة. وفي العراق، سوف تجتاح المجموعة قوات الأمن العراقية ذات الخبرة مجموعة “داعش”، وفي سورية سينقض عليها عدد من المجموعات المناهضة، بما فيها حكومة الأسد، حتى مع أن الكثير من هذه المجموعات تقاتل فيما بينها.
كما أن مجموعة القاعدة ستكون أيضا تحت المطاردة على الرغم من استراتيجية “اللعبة الطويلة” التي تنتهجها، والقائمة على الاستيلاء على المجتمعات من الداخل بالتدريج.
لن تتعرض الحكومات للمفاجأة مرة أخرى، ولن تسمح أيضا بتشكل مناطق غير محكومة –فليس وجود مثل هذه الأماكن في مصلحة أحد. وكان هدف روسيا الأول في سورية، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين عدة مرات، هو منع قيام ليبيا أخرى قريباً من حدودها. كما ستكون الحكومات العراقية والسورية المرقَّعة نشطة أيضاً. وبنفس الأهمية، وربما أكثر، ثمة حقيقة أن الدول الخارجية ستكون أكثر يقظة أيضا –روسيا، وإنما أيضاً الولايات المتحدة، وإيران، وتركيا، والأردن، وإسرائيل، والدول العربية السنية.
لقد أصبحت “الدولة الإسلامة”، الخلافة قصيرة العمر ، في طور الانهيار. ومن شبه المؤكد أن ذلك سيمزق الجهاد الذي يسيطر على أراضٍ في بلدان الشرق الأوسط المركزية في المستقبل المنظور.
ولكن، ماذا عن المناطق الأخرى؟ سوف يبقى الجهاديون الإرهابيون ومقاتلو حرب العصابات في بلدان مختلفة، مثل الفلبين، ونيجيريا وشبه جزيرة سيناء المصرية، وأفغانستان وأماكن أخرى. وسوف يدعى بضعهم أنهم فروع لـ”داعش” وأنهم يقاتلون لإعادة تأسيس خلافة، لكن أكثر دوافعهم أهمية ستكون الصراعات المحلية على السلطة والمال.
سوف تستمر هجمات الذئاب الوحيدة في أوروبا والولايات المتحدة، وإنما من دون أهمية استراتيجية، وحتى تكتيكية. وهذه مذابح، وليس سياسات. وقد تراكم لدينا ما يكفي من الخبرة التي تُظهر أن الرأي العام يصاب بالرعب لوهلة، لكن الحياة تتواصل في اليوم التالي. (إحصائيا في الولايات المتحدة، كان هناك هجومان إرهابيان خطيران فقط في السنوات العديدة الأخيرة، في سان بيرناردو وأورلاندو، واللذان شارك فيهما ثلاثة أفراد في المجموع). ومع ذلك، سوف تظل مكافحة الإرهاب مهمة حاسمة بالنسبة للحكومات الغربية.
بالتفكير بصفاء في مستقبل “داعش”، يقول المحلل العسكري أنتوني كوردسمان: “إننا على بعد أشهر على أبعد تقدير من النقطة التي يكف فيها “داعش” عن أن يكون موضع التركيز في الأمن والاستقرار العراقيين”.
وماذا عن قتل الأيديولوجية؟ عن القضاء على فكرة الجهاد العنيف من أجل خلق قوة مسلمة عالمية؟
إن الجهاد والخلافة، مثل أي حركة دينية أو سياسية، هي أفكار. والأفكار السيئة تتدهور عاجلا أو آجلا، مثل الشيوعية، أو أنه يتم تدميرها، مثل الرايخ الثالث. وهي تُحرق وتستهلك نفسها ببساطة في بعض الأحيان: والعبودية مثال جيد على ذلك، أو فكرة ألكسندر الأكبر عن الإمبراطورية العالمية.
ولا تشكل أجندة “الدولة الإسلامية” المتعصبة سوى النسخة الأخيرة فقط من خيال قاتل قديم.
رونالد تايرسكي
ترجمة صحيفة الغد