مرة أخرى يقف العالم على أطراف أصابعه وهو يتابع شبح الحرب وعدم الاستقرار اللذين خيما من جديد على شبه الجزيرة الكورية، بعدما أجرت كوريا الشمالية في 3 سبتمبر الماضي تجربتها النووية السادسة، وأكدت أنها اختبرت “بنجاح تام” قنبلة هيدروجينية يمكن وضعها على صواريخ باليستية بعيدة المدى.
إذا تأكدت نجاعة هذا الاختبار فإن ذلك يؤشر على تطور كبير في قدراتها النووية، الأمر الذي من شأنه وضع المجتمع الدولي أمام اختبار صعب للغاية في التعامل مع زعيم كوريا الشمالية الشاب كيم جونغ أون الذي احتفل مؤخرا بعيد ميلاده الخامس والثلاثين.
جونغ أون، الذي يعد من أصغر زعماء العالم، يبدو عازما على ترسيخ قبضته على السلطة التي تولاها في نهاية عام 2011 بعد رحيل والده بكافة السبل المتاحة في ظل ظروف اقتصادية وإنسانية بالغة الصعوبة يعاني منها شعب بلاده.
في مقدمة هذه السبل، استخدام سياسة حافة الهاوية مع المجتمع الدولي، من خلال تطوير البرامج النووية والصاروخية لتحذير العالم من أن عدم الاعتراف بالنظام الحاكم في بيونغ يانغ دبلوماسيا ومد يد العون إليه اقتصاديا سوف يهدد بشكل خطير الأمن والاستقرار في بقعة حساسة ومهمة، هي منطقة شمال شرق آسيا.
أمام التصعيد المتزايد، هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب كوريا الشمالية بـ”النار والغضب” اللذين لم يشهد العالم مثيلا لهما من قبل، ورد زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون متوعدا بإطلاق صواريخ قرب جزيرة غوام الأميركية في المحيط الهادئ، قبل إجراء المناورات العسكرية المشتركة السنوية بين واشنطن وسيول في نهاية شهر أغسطس الماضي قرب سواحل شبه الجزيرة الكورية، والتي تنظر إليها بيونغ يانغ باعتبارها “بروفة” لإزاحة وتدمير النظام الحاكم فيها.
وشدد ترامب أيضا على أن بلاده تدرس وقف كل العلاقات التجارية مع أي بلد يقوم بأنشطة تجارية مع بيونغ يانغ، لكن من دون أن يسمي الصين التي تشكل سوقا لحوالي تسعين في المئة من الصادرات الكورية الشمالية.
عقوبات بلا جدوى
مع أن الكثير من دول العالم الكبرى، فضلا عن مجلس الأمن، سارعت إلى التنديد بإعلان كوريا الشمالية إجراء التجربة النووية السادسة باعتبارها تشكل تهديدا للسلام العالمي والأمن الإقليمي، إلا أن الكثير من المراقبين يشككون في قدرة المجتمع الدولي على التعامل الناجع مع أزمة البرامج النووية والصاروخية لبيونغ يانغ.
ولا يبدو أن هناك إجماعا من جانب الدول الكبرى على كيفية هذا التعامل وجدوى المنهج الحالي لفرض العقوبات على الكوريين الشماليين في ضوء تأكيد الاختبار الأخير للقنبلة الهيدروجينية عدم فعالية العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية منذ عام 2006، وقد ظهر عدم التوافق الدولي بشأن الكيفية الأنسب للتعامل مع استفزازات كوريا الشمالية في تباين مواقف الدول الكبرى المعنية بالأمر.
في الوقت الذي تدافع فيه واشنطن وحلفاؤها في طوكيو وسيول وعدد من الدول الأوروبية المهمة عن إتباع منهج أكثر صرامة وتشددا مع كوريا الشمالية من خلال التلويح بتشديد العقوبات الاقتصادية، وزيادة التواجد العسكري، وتعزيز الدفاعات الصاروخية لدى كوريا الجنوبية، تتمسك بكين وتؤيدها في ذلك موسكو، باتباع منهج التهدئة والحوار مع كوريا الشمالية من خلال استئناف المحادثات السداسية.
وتضم هذه المحادثات في عضويتها اليابان وروسيا والصين وكوريا الشمالية والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وتسعى إلى تحقيق عدة أهداف، من بينها التخلص من البرنامج النووي لكوريا الشمالية مقابل التطبيع الشامل والتوصل إلى اتفاقية لإنهاء الحرب الكورية والتعاون الاقتصادي متعدد الأطراف والتعويضات اليابانية عن فترة الاحتلال.
يؤكد الكثير من الخبراء أنه طالما استمر هذا الاختلاف قائما في الرؤى بين القوى الرئيسية ذات العلاقة بشبه الجزيرة الكورية، فسيكون من الصعوبة بمكان اتخاذ أي خطوات إيجابية ملموسة للحل السلمي والدبلوماسي لأزمة البرامج النووية والصاروخية لدى كوريا الشمالية، خاصة في ظل الإدارة الأميركية الحالية للرئيس ترامب.
في ضوء ذلك الانقسام تبدو الخيارات المتاحة أمام المجتمع الدولي في التعامل مع كوريا الشمالية محدودة وضيقة، فالخيار العسكري مستبعد على الأقل في المديين القصير والمتوسط، لعدم وجود أي استعداد أو رغبة من جانب القوى الرئيسية في المنطقة لتبني هذا الخيار.
خطورة الخيار العسكري
لن تستطيع الولايات المتحدة، على الأرجح، توجيه ضربات قاضية لكافة المواقع الصاروخية والنووية لكوريا الشمالية، لأن هذه المواقع مشتتة ومخفية في مختلف المناطق الجبلية في البلاد، وإذا لم تنجح واشنطن في ضرب هذه المناطق جميعها مرة واحدة، فسيكون هناك نحو 10 ملايين شخص في سول عاصمة كوريا الجنوبية و38 مليون شخص في اليابان وعشرات الآلاف من أفراد الجيش الأميركي في شمال شرقي آسيا معرضين لهجمات صاروخية من كوريا الشمالية، سواء بالرؤوس الحربية التقليدية أو النووية.
وحتى إن نجحت الولايات المتحدة في ضرب كل هذه المواقع المستهدفة، فإن سول ستكون عرضة لهجمات من المدفعية الكورية الشمالية. ويرى عدد من المراقبين أن أي ضربة محدودة من قبل الولايات المتحدة يمكن أن تعتبرها كوريا الشمالية بداية لضربات كبيرة ومدمرة، وحينها قد يلجأ الزعيم كيم إلى استخدام الأسلحة النووية لقصف القواعد الكورية الجنوبية أو اليابانية أو الأميركية في المنطقة.
هنا تكمن العقدة، وبالتالي لا سبيل سوى التفاوض حتى لا تصاب جهود المجتمع الدولي الهادفة إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية بـ”نكسة خطيرة”، وحتى لا تتجه بيونغ يانغ في المستقبل إلى المتاجرة ببرامجها النووية والصاروخية مع بعض الدول المارقة كإيران، أو مع جماعات إرهابية كداعش وغيرها، للحصول على احتياجاتها من العملة الصعبة.
ويقول الكثير من المحللين إن الوقت حان لبدء محادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية لمنع تدهور الوضع، ويوضحون أن واشنطن تستطيع أن تجذب كوريا الشمالية إلى طاولة المفاوضات عن طريق إعطائها ضمانات بعدم السعي إلى تغيير النظام الحاكم فيها، أو السعي إلى توحيد شبه الجزيرة بالقوة العسكرية.
غير أن هذا الخيار يبدو مستبعدا أيضا في الوقت الحالي، خاصة بعد أن تجاهلت كل من واشنطن وبيونغ يانغ مبادرة “الإيقاف المزدوج” التي قدمتها الصين وروسيا لتخفيف حدة التوتر في شبه الجزيرة الكورية، والتي تقوم على وقف المناورات العسكرية المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة مقابل أن تعلّق كوريا الشمالية برامجها النووية والصاروخية.
كوريا الشمالية ستستمر في تجاهل دعوة مجلس الأمن بوقف أنشطتها النووية طالما لم تتم الاستجابة لمطالبها
العزل ليس حلا
الأرجح في الأيام القادمة أن تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الآسيويون والأوروبيون إلى فرض عقوبات جديدة من مجلس الأمن الدولي “لعزل” كوريا الشمالية تماما، غير أن بكين وموسكو تعارضان مسألة “العزل الكامل” لكوريا الشمالية، لخطورتها البالغة على استمرار النظام الحاكم في بيونغ يانغ من جهة، كما أنها ستكون بمثابة نهاية للعلاقات الوثيقة بينهما وبين كوريا الشمالية من جهة أخرى وبالفعل حذر الرئيس الروسي بوتين من “كارثة عالمية” في حال عدم التوصل إلى تسوية دبلوماسية للأزمة مع كوريا الشمالية واعتبر أن فرض عقوبات جديدة على بيونغ يانغ سيكون “غير مفيد وغير فاعل”.
تشير دروس التاريخ إلى أن قادة كوريا الشمالية سيستمرون في عدم الإصغاء لمطالب مجلس الأمن الدولي بوقف أنشطتهم النووية والصاروخية طالما لم تتم الاستجابة لمطالبهم ووضعهم في المكانة اللائقة بالقوة النووية التي يمتلكونها، وهم يدركون أن أقصى ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي لن يتجاوز إصدار مجلس الأمن بيانات تدين تجاربهم وتدعو إلى المزيد من العقوبات التي دللت وأكدت الوقائع الماضية أنها عديمة المفعول والتأثير.
في هذا السياق ليس من المستبعد أن تجري كوريا الشمالية تجربة جديدة لصاروخ عابر للقارات في ذكرى تأسيسها (9 سبتمبر 2017)، خاصة بعد أن تعهد هاي تاي سونغ، سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة في جنيف، مؤخرا بإرسال المزيد من “الهدايا” إلى الولايات المتحدة طالما استمرت الاستفزازات الأميركية المتهورة والمحاولات غير المجدية للضغط على بلاده.
لذلك يذهب البعض من المحللين إلى أنه ربما يكون من الحكمة عدم وضع النظام الحاكم في كوريا الشمالية في الزاوية طوال الوقت، حتى لا يترتب على ذلك استمراره في ممارسة سياسة حافة الهاوية، خاصة وأن تجاهل كوريا الشمالية لم يعد مقبولا أو واقعيا بعد الاختبارات النووية والصاروخية التي أجرتها مؤخرا.
يؤكد هؤلاء ضرورة بدء مفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في أقرب وقت ممكن للوصول إلى “صفقة ما” على غرار “الصفقة الإيرانية”، كما أنه من الضروري أيضا الاهتمام بتشجيع الإصلاح الداخلي في كوريا الشمالية لأنه يبدو أكثر فعالية من الضغوط الخارجية في التأثير على سلوك النظام الحالي، على أن يتم ذلك بطرق لا تثير مخاوف هذا النظام بأنه سيتم تدميره بوسائل غير مباشرة.
ولن يتحقق ذلك إلا إذا استجابت واشنطن لمطالب بيونغ يانغ الخاصة بالتوصل إلى معاهدة سلام دائم تؤكد حق كوريا الشمالية في الحصول على المساعدات الاقتصادية والتطبيع الدبلوماسي الشامل، والتعويضات عن فترة الاحتلال الياباني.
قد يكون في انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية الشهر الجاري فرصة ليبذل المجتمع الدولي جهودا مثمرة في إقناع الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بضرورة تغيير سياساتهما التصعيدية تجاه بعضهما، وهنا من الضروري التأكيد على أهمية إقناع الإدارة الأميركية الحالية، باعتبارها الطرف الأقوى والأقدر على نزع فتيل التوتر، بضرورة تغيير منهجها الحالي في التعامل مع بيونغ يانغ، لأن استمرار منهجها الحالي على ما هو عليه الآن لن يعني سوى فقدان الأمل في تغيير سلوكيات كوريا الشمالية، وبالتالي تعريض العالم كله لمواجهة عسكرية واسعة النطاق، وربما لحرب نووية غير مسبوقة.
د.أحمد قنديل
صحيفة العرب اللندنية