لم يتأخر رد إيران كثيرا على الهجوم الذي شنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضدها في الـ13 من أكتوبر الجاري، وركّز فيه على دعمها للإرهاب ونشر الفوضى وقمع المعارضة واستنزاف الثروات في مغامرات خارجية، بالتوازي مع تفويضه وزارة الخزانة اتخاذ إجراءات عقابية شديدة ضد الحرس الثوري.
وسارع الرئيس حسن روحاني إلى إلقاء خطاب بثه التلفزيون على الهواء مباشرة قال فيه إن “خطاب ترامب لم يحمل سوى الشتائم وجملة من الاتهامات ضد الشعب الإيراني”، مؤكدا أن “إيران ستحترم الاتفاق النووي وتتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما دام الاتفاق يحقق مصالحنا”، دون أن يستبعد خيارات أخرى في حالة إذا لم يحدث ذلك.
ورغم أن مجمل خطاب روحاني كان مخصّصا للدفاع عن إيران في مواجهة الاتهامات التي وجهها ترامب للنظام، الذي وصفه بأنه “دكتاتوري فاسد”، إلا أن ذلك لا ينفي أن طهران ما زالت تشعر أنها في موقف ليس ضعيفا، خاصة فيما يتعلق بالاتفاق النووي ودعم بقية الأطراف الموقّعة عليها لها. ويعود ذلك إلى اعتبارين: الأول أن ترامب لم يستطع الانسحاب كليا من الاتفاق حتى الآن، وإن كان أبقى على تلك الورقة في جعبته لاستخدامها في الوقت المناسب، بما يشير إلى أن هامش الخيارات المتاح أمامه ليس واسعا، خاصة أن تلك الخطوة تفرض تداعيات عديدة على المصالح الأميركية على غرار تقويض المكانة الدولية لواشنطن التي ستتحمّل في تلك اللحظة مسؤولية انهيار الاتفاق.
الثاني، أن السياسة الأميركية تجاه الاتفاق لا تحظى بتوافق داخلي أو دولي وهو ما تعكسه مواقف بعض أركان الإدارة الأميركية وعدد من النواب الديمقراطيين في الكونغرس، فضلا عن سياسات الحلفاء الأوروبيين الداعمة للاتفاق، على نحو ما أكده البيان المشترك الذي أصدرته فرنسا وألمانيا وبريطانيا عقب خطاب ترامب، والذي قالت فيه إن “الحفاظ على الاتفاق النووي يصبّ في مصلحتنا الوطنية”، ردا على إعلان الأخير في خطابه عدم تصديقه على التزام إيران بالاتفاق، بشكل يبقي الباب مفتوحا أمام اتخاذ الخطوة المؤجلة التي تتمثل في الانسحاب منه.
واشنطن أضحت تضع على قمة أولوياتها ضرورة العمل على مواجهة تدخلات إيران في شؤون دول المنطقة ودعمها للإرهاب وتهديدها لمصالح واشنطن وحلفائها بما يزيد من احتمال إقدامها على اتخاذ خطوات فعلية على الأرض لتنفيذ ذلك
اتفاق مكمل
تعويل طهران على الضغوط الداخلية والدولية التي يواجهها ترامب في التعامل مع الاتفاق سوف يجعلها ترفض أيّ خيارات أخرى محتملة قد تحاول الإدارة الأميركية الاستناد إليها أو اختبار ما يمكن أن تفرضه من نتائج خلال المرحلة القادمة.
وترى إيران أن الخيارات المحدودة المتاحة أمام ترامب وعدم قدرته على الانسحاب من الاتفاق حتى الآن قد تدفعه إلى تبني سياسة جديدة تقوم على محاولة الترويج لأهمية إجراء تعديلات في الاتفاق تتيح فرض قيود أشد على أنشطة إيران النووية وتضمن عدم اتجاهها مستقبلا إلى محاولة امتلاك أسلحة نووية.
وتربط طهران بين تلويح ترامب في خطابه بإمكانية اتجاهه في أيّ لحظة إلى اتخاذ قرار الانسحاب وبين محاولاته ممارسة ضغوط من أجل إجراء تلك التعديلات التي يمكن أن تسهم في بلورة اتفاق مكمّل للاتفاق الحالي.
وسارعت إيران إلى رفض هذا الخيار مسبقا، لا سيما أنها تدرك أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تقليص المكاسب العديدة التي حصلت عليها من الاتفاق، وخاصة فيما يتعلق بالقيود التي سوف ترفع تدريجيا على أنشطتها النووية خلال عشرة أعوام.
في خضم هذا الجدل المستمر بين واشنطن وطهران عرضت الدول الأوروبية التدخل من أجل الوصول إلى حلول وسط لنقاط الخلاف العالقة بين الطرفين يمكن، في رؤيتها، أن تساهم في إقناع الإدارة الأميركية بمواصلة الالتزام بالاتفاق وعدم الانسحاب منه باعتبار أن هذه الخطوة المؤجلة وإن كانت لن تؤدي بالضرورة إلى انهياره إلا أنها ستساهم في تقليص أهميته وانحسار نتائجه.
ولم يعد من المستبعد أن يقوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة طهران خلال الفترة القادمة من أجل الحصول على موافقة طهران على إجراء مفاوضات جديدة حول الملفات الخلافية، على غرار برنامج الصواريخ الباليستية والقيود التي سترفع تدريجيا بمقتضى الاتفاق.
مع ذلك، فهذه الجهود لن تحقق نتائج تذكر، خاصة أنها سوف تصطدم بعدم قدرة حكومة روحاني على دعمها في ظل الضغوط القوية التي تتعرض لها من جانب المحافظين والمؤسسات الراديكالية التي سارعت إلى انتهاز فرصة الهجوم الأميركي من أجل إعادة توجيه سهام نقدها للحكومة المسؤولة في رؤيتها عن الوصول إلى هذا الوضع.
مخاوف المواجهة
الواضح أن تعويل إيران على أن موقفها ليس ضعيفا في الاتفاق النووي لا يخفي قلقها من التداعيات المحتملة للإستراتيجية الجديدة التي أعلنتها واشنطن بالتوازي مع خطاب ترامب والتي ترتكز على محددات رئيسية عديدة يتمثل أهمها في العمل على كبح نشاط إيران المزعزع للاستقرار وفرض عقوبات جديدة بسبب تمويلها للإرهاب وتطويرها للصواريخ الباليستية.
السياسة الأميركية تجاه الاتفاق لا تحظى بتوافق داخلي أو دولي
ورغم أنها اعتبرت أيضا أن عدم إدراج الإدارة الأميركية الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية لوزارة الخارجية يمثل مؤشرا آخر على تراجعها عن تنفيذ تهديدات سبق أن لوّحت بها، إلا أنّها تبدي مخاوف عديدة من احتمال أن تفرض هذه الاستراتيجية عواقب وخيمة على مصالحها ودورها في المنطقة بالنظر إلى العقوبات الجديدة المسلطة على الحرس الثوري دينامو النظام الإيراني في المنطقة.
وعلى عكس ما يروّج له معارضو سياسة ترامب إزاء طهران من أن مواقفه ستقود الولايات المتحدة إلى العزلة، يأتي الموقف من إيران وضرورة وضع حد لسياستها في المنطقة وتهديداتها في صلب السياسة الخارجية الأميركية كجزء رئيسي من استراتيجية الحفاظ على مصالحها.
وأضحت واشنطن تضع على قمة أولوياتها ضرورة العمل على مواجهة تدخلات إيران في شؤون دول المنطقة ودعمها للإرهاب وتهديدها لمصالح واشنطن وحلفائها بما يزيد من احتمال إقدامها على اتخاذ خطوات فعلية على الأرض لتنفيذ ذلك.
ولن تقتصر هذه الخطوات في رفع مستوى العقوبات المفروضة على الحرس الثوري إلى درجة غير مسبوقة بعد أن أصدر ترامب تعليماته لوزارة الخزانة بتصنيف الباسدران على أنه داعم للإرهاب، وإنما قد تمتد إلى استهداف مناطق تواجده على الأرض في دول الأزمات وعمليات نقل الأسلحة التي يقوم بها لدعم الميليشيات سواء الحليفة لإيران على غرار حزب الله أو التي انخرطت معها إيران في تفاهمات سياسية وأمنية مثل حركة طالبان في أفغانستان.
ما يزيد من حدة هذا القلق هو أن إيران تتعرض بالتوازي مع ذلك إلى ضغوط إقليمية لا تبدو هينة بسبب سياستها التي أدت إلى تفاقم الأزمات الإقليمية وتزايد تهديدات التنظيمات الإرهابية لدول المنطقة التي لم تعد تخف استياءها من النهج العدواني الذي تتبناه طهران وتسبّب في انتشار الفوضى وعدم الاستقرار.
والخيار المتاح أمام إيران الآن هو انتظار ما ستؤول إليه التطورات سواء على صعيد القرار المتوقع أن يتخذه الكونغرس الأميركي خلال الشهرين القادمين والذي سيؤثر دون شك على الموقف الأميركي تجاه الاتفاق، سواء بمواصلة تنفيذه أو الانسحاب منه، أو على مستوى الخطوات التصعيدية التي قد تقدم عليها الإدارة الأميركية وتستهدف من خلالها مصالح ومواقع الباسدران في أنحاء مختلفة من المنطقة.
العرب اللندنية