منحت الأحداث المستمرة في الأراضي السورية العديد من الرؤى السياسية والافاق المستقبلية التي تشكل محورًا أساسيًا في كيفية إدارة الأزمات في المشرق العربي وأيجاد الحلول الجذرية لها بما يحافظ على المصالح والمنافع لجميع الأطراف الدولية والإقليمية.
شهدت ساحات المواجهة منعطفات إتسمت بها حركة وقابلية وحدات الجيش السوري في عدم إمكانياتها على الصمود والتصدي للهجمات العسكرية التي شنتها الفصائل المسلحة واحدثت خرقًا كبيرًا في منظومة الأمن الداخلي للنظام عبر حالات الهروب من المعركة وترك المعدات الثقيلة من الدبابات المدفعية والهاونات مع ذخيرتها وصواريخها، وفي مشهد آخر لم تعرفه العقيدة العسكرية بترك القواعد الجوية والطائرات المقاتلة وعدم استخدامها من قبل الطيارين المسؤولين عليها وتركها جاثمة في مواقعها، وهذا ما يؤشر حالة التردي والانهيار المعنوي وعدم الإيمان بأحقية الدفاع عن الوجود السياسي للنظام الحاكم في دمشق الذي بدأت القيادات العسكرية تدرك أنها لا تدافع عن وطنها بل عن نظام أصبح يشكل عبئًا ثقيلًا على المجتمع السوري بكافة قومياته وطوائفه وانتماءاته الاجتماعية، بل أنها افتفرت إلى القدرة الذاتية لإعادة ترتيب أوضاعها وتنسيق حركتها وفق عقيدتها العسكرية المتمثلة بالضبط والاعداد النفسي والمعنوي.
وهذه التداعيات الميدانية في مساحة المواجهات جعلت الفصائل المسلحة تتقدم بقوة ودراية واندفاع نحو تحقيق أهدافها في الوصول إلى غايتها الأساسية بالسيطرة على المدن المهمة وطرق المواصلات الرئيسية وأحكام قوتها نحو المسير للوصول إلى ضواحي العاصمة السورية ( دمشق) ومحاصرة قوات النظام والاعداد لتنفيذ أهدافها وتحقيق غايتها في إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والأمنية في سوريا.
ويمكن أن نرى تحركًا أمنيًا وتوجهًا عسكرياً من قبل بعض القيادات الميدانية في قيادة الجيش السوري لتسوية الأوضاع وإمكانية الاتصال بالقيادات العسكرية المعارضة السورية والتحالف معها والاتفاق على صيغ ميدانية وتنسيقية توقف حالات التردي والانفلات الذي تشهده البلاد.
وهي بعض من المخططات والاعتبارات التي من الممكن أن نشاهدها في مستقبل سوريا السياسي، وهذا ما اتضح من سياق الحديث الذي أدلى به الرئيس التركي ( رجب طيب أردوغان) صباح يوم السادس من كانون الأول 2024 بأن هناك مرحلة جديدة تمر بها سوريا ويتم إدارتها بهدوء، فمن يديرها ومن سيستمر في قيادتها؟ تساؤلات بحاجة إلى إجابة دقيقة كونها أتت من فاعل رئيسي في الأحداث التي تشهدها الأرض السورية، وهذا يعطي انطباع كامل على أن القيادة السياسية والأمنية التركية على دراية كاملة بما يحدث وما سيكون عليه الوضع في الأيام القادمة، أن لم يكن بتوجيه وقيادة تامة لسير الأوضاع ورسم ملامحها وطبيعة نهايتها، ونرى أن الدوائر الاستخبارية التركية ستُجري تغيرات جذرية في المشهد السوري، فلا وجود حقيقي لمؤسسات وهيئات حكومية سورية تقود البلاد بل هناك قوات دولية تتمثل بتواجد بري وبحري لقطعات عسكرية من الجيش الروسي، تماثلها قوة من الجيش الأمريكي قوامها (920) فردًا تحتكم على مناطق في شرق الفرات، ومليشيات إيرانية ترتبط بفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، مع وجود قوات تركية في الشمال الشرقي من الأراضي السورية، وهذه عوامل تساهم في توجيه دفة الأحداث بما يحقق الرؤية الميدانية للمصالح والأهداف التركية.
فقد عانت الأدوات الإيرانية من انهيار نفسي ومعنوي في مواجهة تقدم الفصائل المسلحة في مدينة حلب وادت إلى مقتل الجنرال الإيراني ( كيومارس بور هاشمي) المعروف بالحاج هاشم، احد أبرز قيادات الحرس الثوري الإيراني في سوريا والمسؤول عن التنسيق الأمني وإدارة الحركات العسكرية في مدينة حلب، مع مقتل وأسر العشرات من أفراد المليشيات الإيرانية، كما شهدت المعارك غياب الدور الميداني للجيش السوري الذي هربت عناصره ومن جميع صنوفها واضعفت الجبهة الداخلية في المدينة وكانت احد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في عملية التقدم الناجحة نحو مدينة حماة ودخولها بعد أربعة عقود من الزمن، وشكلت أكبر هزيمة عسكرية للنظام السوري واعتبرته مفتاح استراتيجي نحو التقدم باتجاه محافظة حمص والانتقال للهدف الأسمى للفصائل المسلحة بدخول مدينة دمشق وفتح الطرق نحو تحقيق الآفاق المستقبلية التي تنشدها قيادات العمليات العسكرية المهاجمة.
وأتى الموقف الرسمي التركي الذي أعلنه الرئيس رجب طيب أردوغان ليكون عامل اساسي في فهم المتغيرات والأحداث القائمة والمعاني العميقة لدلالاتها الميدانية بقوله ( إدلب وحلب وحماة في يد مقاتلي المعارضة السورية وهم في طريقهم إلى دمشق ونأمل أن يستمروا في ذلك دون مشاكل)،وأن ( الأسد لم يستجب لنا عندما مددنا اليه يدنا)،
لا وضوح أكثر من ذلك ولا صيغ بلاغية يمكن فيها فهم كلام وحديث أردوغان، لانه رسم ملامح القادم من الأيام ونبه إلى إمكانية أن تواجه الفصائل المسلحة مشاكل عند تقدمها لتحقيق أهدافها، ونرى انه من الواضح أنه يخشى من قيام أدوات إقليمية باستخدام مقاتلي (داعش) والذين يتأخذون من البادية السورية مكانًا لتواجدهم، لتكون أداة للفعل المضاد وخنجرًا في خاصرة المقاتلين من هيئة تحرير الشام، َهذا ما حصل بالفعل عندما تحركت بعض من قوات داعش واستولت على بعض المناطق في ريف دير الزور والرقة في منتصف اليوم السادس من كانون الأول 2024.
أن الرسائل التركية التي افصح عنها حديث الرئيس أردوغان تندرج في تعزيز الحماية الذاتية للأمن القومي التركي وإيجاد تسوية سياسية وانتفاع من فرصة ميدانية لتصفية حساباتها مع حزب العمال وقوات سوريا الديمقراطية، عبر اندفاع مقاتلي الفصائل المسلحة إلى مناطق تواجدهم وتأمينها ومن ثم تحقيق الهدف الرئيسي في عودة 3،5 مليون لاجئ سوري يتواجدون على الأراضي التركية وحل العديد من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الأتراك بتقادم وجود اللاجئين السوريين.
هناك فسحة من التناغم الروسي التركي في النظر للمشكلة السورية وكيفية درء الأخطار عن مصالحهما السياسية والعسكرية في الميدان السوري، فهذه روسيا تعلن عن سحب أسطولها البحري من قاعدة طرطوس البحرية واخلاء ثلاث فرقاطات حربية وغواصك وسفينتين مساعدين من القاعدة الروسية، تزامنت مع سيطرة قوات الفصائل المسلحة على مدينة حماة، ولم تشارك إلا بفعاليات جوية خجولة مع الطيران السوري في قصف لمسالك وطرق تقدم المعارضة،
وهي بذلك تسعى للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط بعد أن استحوذت على 50٪ من استثمار حقول الغاز السوري ووجود العديد من المشاريع الكبرى التي من خلالها تمكن الروس من السيطرة على الثروة والطاقة السورية،وفي تطور ميداني سياسي طلبت السفارة الروسية من رعاياها مغادرة الأراضي السورية، وهي تهدف إلى تكوين رأي حول موقفها مما يجري في سوريا باعتبارها الحليف الاستراتيجي للنظام ولكي تبتعد عن أي تحالف ورد عسكري ومشاركة فعلية ضد الفصائل المسلحة، لتضمن بقائها وديمومة منافعها وأهدافها بعد نهاية النظام التي بدأت ترى ملامحه.
والأتراك يدركون حقيقة الموقف الأمريكي بأنهم يعملون على رسم الخرائط السياسية وفق القرار الأمني (2254) بظهور نظام سياسي دستوري يلتزم بمعايير الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاسبة النظام السوري على الجرائم التي اركبها بحق الشعب السوري، وهذا ما أشار إليه (ابو محمد الجولاني) في دعوته لتأسيس مجلس سياسي لإدارة شؤون البلاد وحل هيئة تحرير الشام لتكون عاملًا فعالًا في حياة سياسية جديدة يعيشها المشهد السياسي السوري، وتفكيك أواصر التحالف الإيراني السوري.
هل بإمكان الأتراك الاستمرار في عملية إعادة تقويم العملية السياسية في سوريا وأحكام السيطرة على طبيعة وحركة الفصائل المسلحة وسعيهم لتحقيق أهدافهم وغاياته في حياة حرة، أم أن العلاقة الاستراتيجية مع الحلف الأطلسي وعضوية أنقرة فيه، وتصنيفها لهيئة تحرير الشام بأنها منظمة إرهابية، عوامل تعيق عملية إدارة الحالة الميدانية والتنفيذية،.
هذا ما يمكن أن تفصح عنه الأيام القادمة.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتجية