حققت إدارة أوباما المستحيل؛ إذ تمكنت من إنجاز علاقة عمل مثمرة مع واحدة من المنافسين الأكثر عنادًا للولايات المتحدة: إيران.
يوم الخميس، أُعلن عن اتفاق مؤقت للحد من طموحات إيران النووية وخفض قدرتها على تخصيب اليورانيوم بنحو الثلثين لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وتقليص كبير في مخزونها من اليورانيوم المخصب، والقضاء تمامًا على قدرتها على إنتاج أسلحة من البلوتونيوم.
وفي المقابل، ستحصل إيران على إعفاء من العقوبات التي دمرت اقتصادها، طالما أنها مستمرة في الالتزام ببنود الاتفاق. وإذا فشلت في القيام بذلك، فإن الاتفاق المؤقت يتضمن “عودة” الأحكام التي من شأنها إعادة فرض العقوبات.
الجدير بالملاحظة حقًا في هذا الاتفاق هو أنه يتجاهل سجلًا طويلًا من الفشل استمر لثلاث عقود ونصف بين واشنطن وطهران. جميع الرؤساء، من جيمي كارتر إلى جورج دبليو بوش، سعوا إلى تحسين العلاقات مع إيران. ولكن تم تقويض هذه الجهود من خلال إجراءات غير متوقعة على أرض الواقع، وتسريبات في توقيت سيئ، وعدم التصرف في اللحظات الحاسمة، والتصورات الخاطئة، والضعف الأيديولوجي.
وفي كل حالة، عندما يكون هناك فرصة لتحسين العلاقات مع إيران، يرفضها البيت الأبيض. وهذا هو السبب في أن استمرار إدارة أوباما في السعي إلى اتفاق مع إيران من شأنه الحد من طموحاتها النووية هو أمر مثير للإعجاب.
وكانت عملية تحقيق هذا الاتفاق ليست سهلة؛ حيث واجهت إدارة أوباما تحديات من كل الجهات، سواء من الأعضاء المتشددين في الكونغرس، الذين سعوا إلى إفشال المحادثات من خلال فرض جولة جديدة من العقوبات ليتم تجميد الصفقة، أو من حلفاء الولايات المتحدة المقربين، مثل إسرائيل، التي خالفت البروتوكول الدبلوماسي واتهمت البيت الأبيض بالتخلي عن حلفائه.
فيما يلي تاريخ الرؤساء الذين -رغم جهودهم الباسلة- فشلوا في تحقيق التوافق بين إيران والولايات المتحدة.
جيمي كارتر
بعد الإطاحة بشاه إيران محمد رضا بهلوي في عام 1979 -كان ينظر إليه على نطاق واسع بأنه ديكتاتور ودمية أمريكية- سعت إدارة كارتر إلى تجاوز الخلافات في العلاقات مع النظام الإسلامي الجديد في طهران.
وفقًا لكتاب كريس إيمري “السياسة الخارجية الأمريكية والثورة الإيرانية” في عام 2013، وافقت إدارة كارتر في منتصف عام 1979 على اقتراح مشترك من وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع إيران.
كان يأمل البيت الأبيض وقتها أنه من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية الدقيقة -والتي كانت حول استعدادات الجيش العراقي والمخاوف الأمريكية من أن تطهير الجيش الايراني في أعقاب الثورة قد أخلّ بميزان القوى الإقليمي في العراق- واختيار أفراد في الحكومة الإيرانية المؤقتة، من شأنه بدء مشاركة رفيعة المستوى ودعم محتمل للعناصر الأكثر اعتدالًا في إيران.
وللأسف، في ظل بدء هذه الجهود لتبادل المعلومات الاستخباراتية، وفي 4 نوفمبر عام 1979، أفسد المتشددون في النظام جهود إدارة كارتر من خلال الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا 52 من الدبلوماسيين الأمريكان كرهائن لمدة 444 يومًا.
رونالد ريغان
خلال فترة الثمانينيات، سعت إدارة ريغان أيضًا لتحسين العلاقات مع إيران، التي دخلت في حرب وحشية مع العراق منذ سبتمبر عام 1980. وفي عام 1985، ازدادت مخاوف إدارة ريغان إزاء قضيتين مترابطتين عن إيران: تأمين الإفراج عن الرهائن الأمريكان المحتجزين من قِبل نشطاء إسلاميين على علاقة بإيران في لبنان، وعدم وجود النفوذ الأمريكي في إيران في الوقت الذي كانت فيه الحالة الصحية للمرشد الأعلى الإيراني، آية الله روح الله الخميني، متدهورة.
وفي منتصف عام 1985، ساعد مسؤولون إسرائيليون إدارة ريغان في تأسيس مجموعة بديلة من “المعتدلين” داخل الحكومة الإيرانية، وكان يمثلهم أكبر هاشمي رفسنجاني، وظهر تقرير لجنة المراقبة بشأن قضية “إيران كونترا”. وبعد مفاوضات مطولة في مايو عام 1986، سافر مسؤولون أمريكان، من بينهم مستشار الأمن القومي السابق روبرت “باد” ماكفرلين، إلى إيران لإجراء اتصال مباشر مع النظام الإيراني، مع احتمال أن تقديم شحنة من الأسلحة في مقابل الإفراج عن الرهائن الأمريكان المحتجزين في لبنان.
وكانت هذه المهمة كارثية. فشلت إدارة ريغان في تأمين الإفراج عن أي من الرهائن؛ لأن الإيرانيين لم يتوقعوا وصول كبار المسؤولين الأمريكان في طهران، وانقسموا بشأن أفضل السبل للرد على الأسلوب الأمريكي. ونتيجة لذلك، غادر الأمريكان طهران صفر اليدين.
ومما زاد الأمور سوءًا، في نوفمبر عام 1986، سرب المتشددون في إيران المعارضون للتقارب مع الولايات المتحدة تفاصيل رحلة ماكفرلين السرية إلى طهران للصحافة.
وفي ظل بدء الكونغرس ووسائل الإعلام البحث في هذه القصة، تبين أن أعضاء إدارة ريغان قد حولوا بشكل غير قانوني الأرباح من مبيعات الأسلحة إلى إيران إلى جماعة “الكونترا”، وهي جماعة شبه عسكرية يمينية منع الكونغرس الولايات المتحدة من دعمها. وأدى ذلك إلى فضيحة عرفت باسم “إيران كونترا”.
جورج بوش الأب
كانت هزيمة إيران في الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس عام 1988 نقطة تحول كبرى بالنسبة للنظام. بعد ثماني سنوات من الحرب، التي قُتل فيها أكثر من 190 ألف إيراني إلى جانب إنفاق المليارات من الدولارات، أصبح النظام الإيراني انعزاليًا، يتجنب حماسته الثورية لصالح إعادة بناء البنية التحتية واقتصاده الذي أصيب بالشلل.
كانت هناك عدة أسباب لهذا التحول الداخلي، منها وفاة آية الله الخميني في يونيو عام 1989، وظهور آية الله علي خامنئي خلفًا له، وانتخاب رفسنجاني، وهو معتدل، رئيسًا لإيران.
وبعد انتقال السُلطة، كلّف خامنئي رفسنجاني بإعادة بناء الاقتصاد الإيراني، وتحسين صورته دوليًا، وتسريح الجيش الإيراني الضخم، حيث لم تعد هناك حاجة له الآن في ظل انتهاء الحرب مع العراق. ورأت الولايات المتحدة هذا التحول الداخلي، أن إيران لم تعد مصدر قلق كبير بالنسبة لواضعي السياسات، كما قال بروس ريدل، محلل وكالة المخابرات المركزية، في كتاب جيمس بلايت بعنوان “أن نصبح أعداء”.
ولكن هذا لم يمنع الإدارة الجديدة لجورج بوش الأب من السعي للتعامل مع إيران على الصعيد الدبلوماسي. وخلال خطاب تنصيبه، تحدث بوش عن النظام الإيراني.
وقال: “هناك أمريكان محتجزون ضد إرادتهم في أراض أجنبية، إنهم في عداد المفقودين. يظهر الدعم الحقيقي في هذه الأقوات ويبقى أثره للأبد، فالنوايا الحسنة تولد نوايا حسنة، والإيمان الحقيقي بمثابة دوامة تتحرك إلى ما لا نهاية“. وهذا يعني ضمنيًا أنه إذا كانت طهران تنوي مساعدة الولايات المتحدة في تأمين الإفراج عن باقي الرهائن في لبنان، لكان رد فعله بحركات تعبر عن النوايا الحسنة.
ولكن، وكما أشار مستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت آنذاك، في كتاب بعنوان: “عالم متحول في عام 1999، وشاركه في تأليفه مع جورج بوش الأب، أنه عندما سهّل رفسنجاني شخصيًا عملية الإفراج عن الرهائن في أواخر عام 1991، فإن إدارة بوش “لم تفعل أي شيء“، واتضح أن النوايا الحسنة لا تولد نوايا حسنة.
بيل كلينتون
في عهد الرئيس كلينتون، كانت علاقات الولايات المتحدة مع إيران متوترة. وفي فترة ولايته الأولى، وصفت إدارته إيران بأنها خطر -مثل الاتحاد السوفيتي قبل ذلك- يجب احتوائه. وأدى ذلك إلى تنفيذ سياسة مثيرة للجدل عُرفت باسم “الاحتواء المزدوج”، التي تطلبت من الولايات المتحدة زيادة قوتها العسكرية في منطقة الخليج من أجل “احتواء” إيران والعراق. ولكن المشكلة، أن هذه السياسة شيطنة النظام الإيراني واعتبرته تهديدًا لمصالح أمن الولايات المتحدة في وقت كانت إيران تقوم بتسريح جيشها.
وفي عام 1997، فار محمد خاتمي، ذو التوجهات الاصلاحية، بالانتخابات الرئاسية الإيرانية بعد الحصول على 70% من الأصوات. وتحدث أيضًا عن إدارة كلينتون، قائلًاإن “جميع الأبواب يجب أن تكون مفتوحة الآن لمثل هذا الحوار والتفاهم وإمكانية الاتصال بين المواطنين الإيرانيين والأمريكان”. استغلت إدارة كلينتون هذه الفرصة السانحة، وتبادلت سلسلة من الرسائل مع النظام الإيراني. وكتب كلينتون: “إن الولايات المتحدة ليس لديها نوايا عدوانية تجاه جمهورية إيران الإسلامية، وتسعى نحو علاقات جيدة مع حكومتكم“، وترغب في “وضع أساس سليم لتحسين العلاقات بين البلدين“.
عندما استجاب الإيرانيون، كان من الواضح أن المتشددين قد استولوا على هذا التبادل الدبلوماسي، وكتبوا أن تلميح كلينتون بأن إيران وراء تفجيرات برج الخُبر في عام 1996، والتي شهدت مقتل 19 أمريكيًا، كان “غير دقيق وغير مقبول”، وعلى أساس معلومات “مُغْرِضة”.
كان العنصر الإيجابي الوحيد من الرد الإيراني أنهم أشاروا إلى عدم وجود أي نوايا عدائية تجاه الأمريكان، وأن الشعب الإيراني لا يضمر أي عداوة، ولكنه يحترم الشعب الأمريكي العظيم. وبالنسبة لإدارة كلينتون، بدا واضحًا أن الإيرانيين لم تكن لديهم أي رغبة في مواصلة التقارب مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، ما فشل البيت الابيض في الاعتراف به هو أن القوة الحقيقية كانت في يد المرشد الأعلى، على الرغم من أن خاتمي كان رئيسًا لإيران. وكان هذا هو الدرس الذي تعلمته إدارة أوباما عند اتباع سياسة التقارب مع إيران بعد ما يقرب من عقد من الزمان.
جورج دبليو بوش
قدّمت الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001 لإدارة بوش فرصة فريدة لتحسين العلاقات مع إيران. بعد الهجمات، خرج الشعب الإيراني في الشوارع وأبدت حكومة خاتمي استعدادها للمساعدة.
ووفقًا لبروس ريدل، عملت الولايات المتحدة وإيران معًا بشكل وثيق بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان في أكتوبر 2001 للمساعدة في تأسيس الحكومة الأفغانية في فترة ما بعد الحرب.
وكما ذكرت باربرا سلافين، باحثة في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران في المجلس الأطلسي، في كتابها بعنوان: “أصدقاء لدودون وأعداء مقربون” في 2009، أنه “عُقدت الكثير من الاجتماعات بين عدد قليل من الدبلوماسيين الأمريكان والدبلوماسيين الإيرانيين من عام 2001 وحتى مايو عام 2003. “ومثل هذا المستوى غير المسبوق من التعاون تجاوز حتى خطاب جورج دبليو بوش” محور الشر” الذي جمع إيران مع عدوها اللدود العراق.
وفي مايو 2003، سعت إيران إلى القبول التجاري من الغرب في حقها في امتلاك برنامج نووي سلمي في مقابل المساعدة في تحقيق الاستقرار في العراق والتعاون ضد تنظيم القاعدة. وللأسف، فإن إدارة بوش، مدعومة من خلال النجاح الواضح في الإطاحة بصدام حسين، رفضت اقتراح إيران، وقوّضت حكومة خاتمي، ودمرت أي فرصة لتحقيق اتفاق دائم.
وفي الواقع، لم تتذكر كوندوليزا رايس، مستشار الأمن القومي للرئيس بوش في ذلك الوقت، النظر في الاقتراح الإيراني. وألغى كلا الجانبين اجتماعهما المقرر إجراؤه في مايو 25، كما كتبت سلافين. وكان هذا بداية انهيار أي جهود لتحسين العلاقات مع إيران في عهد إدارة بوش.
ما يميز إدارة أوباما، بصرف النظر عن الإدارات السابقة، هو نجاحها في الحفاظ على الحوار مع النظام الإيراني لعدة سنوات، مما أدى إلى تحسن ملموس في علاقتها مع طهران، وخاصة منذ انتخاب حسن روحاني في عام 2013.
وعلى الرغم أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان يمكن الانتهاء من الشروط النهائية للاتفاق قبل يونيو 2015، الموعد النهائي للصفقة، حيث تقدم الشروط المفصلة المنصوص عليها في خطة العمل المشتركة الشاملة، قدرًا كبيرًا من الأمل. بالطبع، هناك جماعات قوية في كل من إيران والولايات المتحدة ستسعى لمنع التوصل إلى اتفاق نهائي، ولكن التاريخ يبدو أنه في صالح إدارة أوباما.
التقرير