لم يَنْقَضِ الجدل المتصاعد حول مستقبل النظام المالي العالمي الذي صاحب الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، خاصةً على إثر انهيار المؤسسات المالية الأمريكية خلال أزمة الرهن العقاري؛ حيث ارتبط الانخفاض المضطرد آنذاك لقيمة الدولار بطرح رؤى حول “انهيار النموذج الاقتصادي الأمريكي” و”عالم ما بعد أمريكا” الذي تسوده التعددية. ويرتبط ذلك بخسائر الولايات المتحدة خلال الأزمة المالية العالمية، التي تمثلت في تبديد أكثر من تريليون دولار من التدفقات النقدية، وانهيار ما لا يقل عن 19 مؤسسة مالية ومصرفية أمريكية، فضلاً عن تصاعد الدين العام الأمريكي آنذاك ليصل إلى 10 تريليونات دولار، وتوقعات صندوق النقد الدولي في عام 2011 بأن يتجاوز حجم الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي بحلول عام 2016.
بيد أن رؤى مخالفة باتت تتردد بقوة حول استمرار الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، في القلب منها مركزية دور الدولار في الاقتصاد العالمي، باعتباره العملة الأكثر اعتماديةً في الاحتياطيات النقدية لمختلف دول العالم، التي لا تضاهيها أي عملة أخرى، ومن ثم طرح “ميلتون عزراتي” رؤيته حول أسباب استدامة وقوة مركز الدولار عالميًّا، في مقاله المعنون “لماذا ظل الدولار مركزيًّا؟” why the dollar is still king”” المنشور في مجلة The National Interest في فبراير 2015، التي يؤكد في إطارها عدم وجود بديل للدولار؛ ما يعني استمرار الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وفق رؤيته.
أسس النظام المالي العالمي:
على الرغم من مرور ما يقرب من مائة عام على ما يمكن وصفه “بمركزية الدولار الأمريكي”، التي أتاحت له الاستحواذ على النصيب الأكبر من الاحتياطيات النقدية في دول العالم كافةً وفي المؤسسات الدولية، فإنه استطاع الحفاظ على صدارته في جميع الأسواق المالية العالمية، وهو ما يرجعه البعض إلى طبيعة النظام المالي العالمي الذي أدى إلى الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ إن الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من مشكلات اقتصادية لأوروبا عامةً وبريطانيا خاصةً؛ قد أتاحت للدولار فرصة هائلة للصعود في الأسواق المالية بجانب الجنيه الإسترليني.
بيد أن الوضع قد تغير كليةً في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في عام 1944؛ عندما عُقد مؤتمر “بريتون وودز” الذي أسس لقواعد جديدة للنظام الاقتصادي والمالي العالمي. وقد شارك في المؤتمر 44 دولة. ويلاحظ أن ذلك المؤتمر قد عكس التنافس الاقتصادي الذي كان يجري على الساحة وقتها بين الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد البريطاني؛ حيث سعت كلا الدولتين إلى وضع المسار الجديد للاقتصاد العالمي، فتقدمت بريطانيا بعدد من المقترحات على يد ممثلها المالي اللورد “جون مينارد كينز”، فيما تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمقترحات مختلفة على يد ممثلها المالي “هيري هوايت”، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استطاعت الحصول على التأييد اللازم لمشروعها، وخاصةً من دول أمريكا اللاتينية، فيما فشلت بريطانيا في تحقيق هذا الأمر.
وقد أسس المشروع الأمريكي لعدد من القواعد للنظام المالي العالمي، يعد من أهمها إقامة مؤسسة مركزية نقدية تم إنشاؤها فيما بعد تحت مسمى “صندوق النقد الدولي”، كما اشترط على الدول الأعضاء ربط عملاتها بالذهب أو بالدولار الأمريكي؛ وذلك من أجل تحديد وتثبيت سعر الصرف؛ حيث يجب على كل دولة أن تحدد قيمة تبادل عملتها النقدية بالذهب أو الدولار الأمريكي. وقد تعهدت الولايات المتحدة بأن تبدل حيازتها من الدولارات بالذهب على أساس سعر محدد هو 35 دولارًا للأونصة.
ويُلاحَظ أن الأرصدة المالية العالمية قد قُدِّرت في ذلك الوقت بما يعادل 38 مليار دولار، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك وحدها منه 25 مليار دولار، أي ما يقدر بثلثي ذهب العالم، ومن ثم يمكن القول إن نظام “بريتون وودز” قد أسس لبدايات النظام الاقتصادي الحالي؛ إذ سمح للدولار الأمريكي بالتحول من عملة محلية إلى عملة الاحتياطيات المالية الدولية الرئيسية.
مقومات مركزية الدولار:
ألغى الرئيس نيكسون في عام 1971 الارتباط بين الدولار الأمريكي والذهب، على إثر ما تعرض له نيكسون من ضغط سياسي من كل من ألمانيا واليابان؛ حيث رأوا أن ذلك النظام قد أتاح للتجارة الأمريكية السيطرة على الأسواق المحلية والأجنبية، بما لا يتيح حتى المنافسة، وهو ما يهدد تلك الاقتصاديات. وعلى عكس المتوقع، استمر الدولار في الهيمنة على المعاملات التجارية وحركة التداول المالي في المؤسسات المصرفية. وعلى الرغم من أن إلغاء الارتباط قد أدى إلى صعود متزايد لعملات دول أخرى، فإن تلك العملات لم تستطع الوصول إلى مستوى الدولار الأمريكي. وتمثلت أهم مقومات احتفاظ الدولار بمركزيته في الأسواق العالمية فيما يلي:
1- سهولة التحويل: يتاح للمتعاملين بالدولار قدر كبير من المزايا، يأتي على رأسها سهولة التحويل من الدولار إلى العملات الأخرى أو الذهب. ويرجع ذلك إلى تعدد الأدوات المالية المتاحة بالدولار، التي يمكن تحويلها إلى سيولة مالية بأي عملة بصورة فورية، بالإضافة إلى أن تذبذبات قيمة الاحتياطيات النقدية بالدولار، لا تكون بصورة كبيرة نتيجة الثبات شبه النسبي في أسعار الدولار؛ ما يمنحها درجة عالية من الأمان.
2- كثافة التداول: يعد الدولار على رأس العملات المستخدمة في التجارة العالمية؛ إذ يُستخدَم الدولار في نحو 90% من العقود التجارية على مستوى العالم، أي ما يقدر بنحو 5 تريليونات دولار يوميًّا، كما يدخل في تعاملات البورصات المالية العالمية بكثافة قدرها 87% من التعاملات، بزيادة قدرها 2% مقارنةً بعام 2010، فيما يستخدم اليورو في نحو 33% من التعاملات. أما المعاملات المالية بالين الياباني فلا تتجاوز نحو 23%. ونحو 12% من التعاملات المالية تتم بالجنيه الإسترليني.
3- استقرار الاحتياطي النقدي: حيث تقدر نسبة الاحتياطي النقدي بالدولار في البنوك المركزية العالمية بما يزيد عن 62%، وهو ما يمثل مستوى أقل مما كان سائدًا في عام 2000 الذي بلغت فيها نسبة الاحتياطيات النقدية العالمية بالدولار نحو 71% من إجمالي الاحتياطيات النقدية العالمية؛ وذلك حسبما جاء في أحد التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، فيما يحتل اليورو المركز الثاني في الاحتياطيات النقدية، بفارق كبير بينه وبين الدولار؛ إذ يسجل نحو 23% من مجمل الاحتياطي النقدي العالمي، فيما يسجل الجنيه الإسترليني والين ما يقدر بنحو 4%.
4- الثقة العالمية: يعد الدولار العملة الأكثر قبولاً في التعاملات التجارية والمالية العالمية، مقارنةً بأي عملة أخرى أو حتى الذهب والمعادن الثمينة. ويرجع ذلك إلى ديناميات استقرار التعاملات بالدولار على مدار فترة زمنية طويلة، ومحدودية الأزمات النقدية العالمية التي ترتبت على التعامل بالدولار مقارنةً بالذهب أو غيره من وسائط القيم المقبولة عالميًّا، فضلاً عن ثبات قيمة الدولار، وعدم تعرضها للتذبذب الناتج عن التغيرات المستمرة في العرض والطلب، بالمقارنة بالعملات الأخرى، واستناد الدولار إلى اقتصاد قوي ومتماسك يحتل صدارة الاقتصادات العالمية في مختلف المؤشرات الكلية، مثل الناتج المحلي الإجمالي، وحجم الصادرات والواردات، والميزان التجاري، مقارنةً باقتصاد دول أخرى لا تتمتع بالاستقرار والانتشار العالمي ذاته.
ضعف البدائل النقدية:
على الرغم من الاعتقادات السائدة كافةً من أن قدرة الدولار على الحفاظ على صدارته في الأسواق العالمية يعود إلى قوة الاقتصاد الأمريكي، أو التخطيط الأمريكي المالي الدقيق فقط، فإنه بالنظر إلى الواقع، يتضح أن هناك أسبابًا أخرى، كغياب العملات المتاحة بديلةً عن الدولار؛ فعلى الرغم من أن تلك العملات التي تصنف منافسًا للدولار تتمتع بعدد كبير من المزايا التنافسية، لم تصل على سبيل المثال إلى حجم الاحتياطي النقدي للدولار؛ فبريطانيا تتمتع بقدر كبير من الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى تميز أسواقها المالية بثبات التعاملات والاتزان، بيد أن قدرة الاقتصاد البريطاني على دعم احتياطيها النقدي، تعد ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بقدرة الاقتصاد الأمريكي على دعم هذا احتياطيها النقدي الضخم ذي الانتشار العالمي.
كذلك يُصنَّف الاقتصاد الياباني واحدًا من أهم الاقتصادات القوية في العالم. وتتمتع الأسواق المالية اليابانية بالقدرة على التأقلم مع الأزمات المالية والتحولات العالمية المتتابعة، فضلاً عن حجم التجارة اليابانية التي تمثل نسبة كبيرة من نسبة التجارة العالمية، إلا أن الاقتصاد الياباني الذي يعتمد على الصادرات بنسبة كبيرة، يعتمد على عدة آليات نقدية ومصرفية لتخفيض سعر العملة المحلية من أجل ضمان مزايا تنافسية للصادرات اليابانية في الأسواق العالمية، وتحقيق نسب مبيعات كبيرة. وعلى صعيد آخر، تؤدي تلك الآلية إلى قلة الطلب على الين، وانخفاض قيمة الاحتياطيات العالمية من الين باعتباره عملة متضائلة القيمة وغير قابلة للتداول العالمي.
وفي السياق ذاته، تعد منطقة اليورو من المناطق التي تتمتع بالاستقرار السياسي، وهو ما يؤدي إلى تزايد الطلب عليه بنسبة متصاعدة، إلا أن الأزمة المالية التي تعرضت لها دول منطقة اليورو قد شككت في مدى الأمان الذي تتمتع به تلك العملة، واحتماليات تذبذب قيمتها مستقبلاً، فضلاً عن المخاطر غير المستبعدة لتفكك الاتحاد الأوروبي تحت وطأة الخلافات حول السياسات المالية المشتركة، ناهيك عن أثر السياسات التقشفية المفروضة من الاتحاد على الدول الأعضاء، وما فرضته من توجهات إلى الانكماش الاقتصادي على مختلف دول القارة، وهو ما أدى إلى تبديل عدد كبير من الدول احتياطياتها النقدية إلى الدولار بدلاً من اليورو.
ولا يختلف الحال كثيرًا بالنظر إلى اليوان الصيني؛ فالاقتصاد الصيني يتمتع بعدد من المؤشرات المرتفعة، كما يتمتع بقدر كبير من المرونة؛ ما أتاح له مواجهة العديد من الأزمات الاقتصادية، كذلك يتمتع بحجم تجارة هائلة إذا ما قورنت بحجم اقتصاده، وتعد المنافس الأول لتجارة الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك قامت الحكومة الصينية، في إطار حملتها ضد ما أطلق عليه “الأمركة” أو “الهيمنة الأمريكية”، بالضغط على الشركات الصينية الحكومية والخاصة من أجل التعامل باليوان في التعاملات الخارجية، فاضطرت نحو 70 ألف شركة صينية إلى التعامل بالعملة المحلية بدلاً من الدولار، كما تم عقد معاهدات مع عدد من الدول للتعامل بعملاتها المحلية في إطار الصفقات التجارية. يأتي على رأس تلك الدول اليابان، وروسيا، والهند، والبرازيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
لكن لا تزال الصين تعاني من ظاهرة عدم الاستقرار السياسي، كما تميل الصين إلى الحفاظ على دور إقليمي قوي، إلا أن دورها محدود للغاية في خارج القارة الآسيوية، خاصةً إذا ما قورن بالدور الأمريكي، كما أن الأسواق الصينية تميل إلى الانغلاق ومنع المنتجات الأجنبية من الوصول إلى أسواقها والمؤسسات الأجنبية؛ للحفاظ على تسويق منتجاتها المحلية، وهو الإجراء الذي أبقت عليه على الرغم من خطتها الكبرى التي أعلنتها للتحول إلى الليبرالية، فلا تزال تضع العديد من القيود على المؤسسات الأجنبية، كما لا تزال الدولة المتحكم الرئيسي في تدفقات رأس المال من وإلى الدولة.
فيما يعتقد البعض أن الصين لا تريد منافسة الولايات المتحدة على صعيد الاحتياطي النقدي على قدر ما تريد الوصول إلى ما يعرف “بتدويل العملة”، بمعنى الاعتماد على العملات المحلية في التعاملات التجارية بين الدول دون اللجوء إلى الدولار، وهو ما يصاحبه إمكانية اختراق المنتجات الصينية رخيصة الثمن لمختلف الأسواق العالمية، وزيادة كثافة التجارة بين الصين ومختلف دول العالم، فيما قد يؤدي تحول العملة الصينية إلى عملة احتياطيات عالمية إلى نتائج عكسية، مثل ارتفاع سعر العملة، ومن ثم ارتفاع أسعار الصادرات، وفقدانها المزايا التنافسية في مواجهة السلع والمنتجات المشابهة التي تنتجها الدول الأخرى، وهي النتائج التي تتحسب لها الصين بالحفاظ على سعر عملتها في مستويات منخفضة بالمقارنة بالعملات الأخرى.
مستقبل النظام المالي العالمي:
إجمالاً، يمكن القول إن أسس نظام “بريتون وودز” الذي أسس للهيمنة الأمريكية الاقتصادية لا تزال قائمة، على الرغم من جميع الدعوات والمبادرات لتأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد؛ إذ لا يزال الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي البالغ 16,7 تريليون دولار الأضخم على المستوى العالمي، يليه نظيره الصيني البالغ 9,24 تريليونات دولار. ولا يزال الإنفاق العسكري الأمريكي الأضخم عالميًّا؛ إذ بلغ في مطلع 2015 نحو 581 مليار دولار بالمقارنة بنحو 129,4 مليار دولار للصين، و70 مليار دولار لروسيا، ناهيك عن التفوق الكامل للقوة العسكرية الأمريكية مقارنة بكل الدول التي تليها في الترتيب.
في المقابل، لا تزال الصين غير قادرة على منافسة الهيمنة الاقتصادية الأمريكية؛ بسبب سياسة الانغلاق التي تتبعها الصين في نظامها المالي، وتوتر علاقاتها ببعض دول الجوار في شرق وجنوب شرق آسيا، فضلاً عن تفاوت معدلات التنمية بين الأقاليم الصينية المختلفة، وانحسار التنمية والتحديث بمحاذاة الساحل الصيني. أما دول منطقة اليورو فتواجه أزمة اقتصادية طاحنة منذ سنوات؛ ما دفع دولها إلى اتباع سياسات تقشفية تسببت في أزمات سياسية، على غرار الانهيار الاقتصادي لليونان، وصعود حزب “سيريزا” اليساري المعارض للسياسات التقشفية في الانتخابات اليونانية في فبراير 2015، والتهديد بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وعلي الرغم من تبني روسيا سياسة استبدال التعاملات بالدولار بالاعتماد على الذهب وسيطًا للقيمة، أو التعامل المباشر بالعملات المحلية دون اللجوء إلى الدولار، فإن هذا الاتجاه من غير المرجح أن يؤثر – بأي حال – في المكانة المركزية للدولار، بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية التي تمر بها روسيا، على إثر انخفاض أسعار النفط بنسب غير مسبوقة، والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نتيجة تدخلها لدعم الانفصاليين في أوكرانيا.
ميلتون عزراتي
عرض: منى مصطفى محمد
المركز الاقليمي للدراسات الاسنراتيجية