القدرات والإمكانات:
نناقش تحت هذا العنوان القدرات والإمكانات القتالية العربية، ونجابهها بقوى عناصر التهديد، وهما هنا التهديدان، الإيراني والإسرائيلي. بالنسبة لقوى إقليمية أخرى، يمكن أن يكون لها تأثير ما، فسنشير إلى قدراتها، متى ما كان لها تأثير. ومن المعلوم أن القدرات والإمكانات القتالية لن يتاح لها العمل بكفاءة وراحة، إلا بتحقق مجموعة عناصر أساسية، منها الوضع الاقتصادي المريح، والوضع المالي الجيد، والانسجام الاجتماعي والشعور بالأمان. يضاف إلى ذلك كله، مستوىً عال ومجرب من الكفاءة القتالية المتحققة بالتدريب، فضلاً عن كفاءة منظومة القيادة والسيطرة، وكفاءة التعاون الجوي البري البحري.
في دراسة أخيرة، أصدرها كرسي بيرك للدراسات الاستراتيجية في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن، من إعداد الخبير، أنتوني كوردسمان، بمساعدة مايكل بيكوك، عرض التغير الذي تعرض له التوازن الأمني في الخليج. تظهر الأرقام المجملة فيه لأهم الأسلحة المؤثرة في الميدان لكل من الجانبين العربي والإيراني اختلافاً نمطياً فيما تتضمنه العقيدة القتالية التقليدية لدول الخليج العربية، والعقيدة القتالية غير التقليدية التي تعتمد اللاتناظر، أو اللاتماثل (Asymmetry) التي تعتمدها إيران في إدارة عملياتها القتالية، والذي بدا واضحاً إبّان الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 باستخدام الموجات البشرية لإشباع الدفاعات العراقية، واجتياز خطوط الألغام والموانع، دونما اهتمام بالخسائر بالأرواح.
ونعيد إلى الأذهان أن إيران كانت تستخدم الأطفال في تفجير حقول الألغام حينئذٍ. لم يتغير شيء من ذلك سوى بتطوير مفهوم اللاتماثل وترسيخه. وتؤمن الهاونات والقاذفات الأنبوبية الكثيرة لدى إيران تكثيف النيران على موقع تُنوى مهاجمته. كما أن ما تمتلكه إيران من الدبابات التي تعود إلى أجيال سابقة يظهر التفوق الخليجي في مديات الاشتباك، وطول مدى العمل للدبابات في ساحة المعركة، من دون الحاجة لإعادة التزود بالوقود. وهناك إمكانات جيدة لدى الجيش اليمني، مما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار في ظروف عملية “عاصفة الحزم” الجارية حالياً. وليس من المفيد حساب قدرات الجيش العراقي، لضآلتها قياساً بحجم التحدي المفروض أن تواجهه في العراق، لتحقيق الأمن والاستقرار والذي فشلت فيه إلى حد الآن.
ومن ناحية القوات البحرية، تظهر دراسة القدرات والإمكانات تفوقاً نوعياً من الجانب الخليجي في سفن السطح، يقابله تفوق إيراني في سلاح الغواصات. وفي الوقت نفسه، تبين دراسة نوعية التسليح تعويل إيران على الحرب اللامتماثلة في البحرية، ويؤكد هذا التهديد الكبير من الزوارق السريعة، مما يجعل قدرتها على إشباع الأسلحة الدفاعية للقطع البحرية المقابلة عالية جداً. وقد أظهرت إيران قدرتها هذه إلى العلن، في مضيق هرمز مرات، يقابل هذا حالة من التلكؤ الخليجي في بيان قدراتها المتفوقة. ونقطة أخرى جديرة بالاهتمام، هي ضرورة الانفتاح البحري على مقتربات خليج عمان، لإيصال رسالة الردع المهمة.
وتمثل درجة التفوق النوعي الخليجي في القوات الجوية الحالة نفسها في العلاقة التسليحية بين الطرفين، مما يعطي الدول الخليجية العربية هامشاً تفوقياً واضحاً في كل من الجهد الجوي وجهد الدفاع الجوي.
مترتبات نجاح الاتفاق النووي و”عاصفة الحزم” على المشهد الجيوستراتيجي
قد يتيح رفع العقوبات عن إيران لها العمل على تحديث منظومة التسليح البرية والبحرية والجوية، سعياً إلى تحقيق الهيمنة التي هي هدفها الأول في نظرتها الاستراتيجية إلى إقليم المشرق العربي.
1.في المقابل، كان المجال مفتوحاً دائماً أمام دول الخليج العربية، لتحديث ترساناتها التسليحية، وكان التساؤل يثار دائماً عن الغاية من تكديس هذه المنظومات المعقدة من الأسلحة، في غياب حتى حالة التلويح بالاستخدام، حتى أضحت دول مجلس التعاون الخليجي الطرف الأضعف في معادلة التشكيل الجيوستراتيجي القائمة في الإقليم، حتى اندلاع عملية “عاصفة الحسم”، التي نرى أنها غيرت، جذرياً، مجموعة من القناعات السابقة التي ثبت، الآن، زيفها أمام التحدي الخطير الذي واجه أمن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، بعد محاولة الحوثيين (وهم تشكيل ذيلي يوالي إيران) السيطرة على الدولة في اليمن بالتواطؤ مع الرئيس اليمني المخلوع، علي عبدالله صالح.
2.من هنا، نرى أن على دول مجلس التعاون الخليجي المباشرة، منذ الآن، وبضوء ما ترتب على عملية “عاصفة الحزم”، ببناء نظرية الردع (Deterrence) الخاصة بها، على أن تكون هذه النظرية مؤكدة ومفهومة من الطرف المقابل. من المهم أن تكون غاية رسالة الردع الخليجية واضحة ومدركة بأن دول المجلس لا تهدف إلى الصراع بحد ذاته، لكنها ستستجيب، بالتأكيد، لأي تهديد لأمنها القومي وسلامتها الإقليمية، وللتدخل غير المقبول في شؤونها الداخلية ومحاولة توريط مواطنيها للتمرد على قياداتهم الشرعية، انطلاقاً من دوافع طائفية.
3.سبق “عاصفة الحزم” إرسال رسالة ردع واضحة، عقب أحداث البحرين، لم تدركها الجهات الإيرانية بشكل صحيح، واندفعت منتشية بتدخلاتها المباشرة، أو بالوكالة، في العراق وسورية، لكي تكرر الشيء نفسه في اليمن. وهنا، جاءت رسالة الردع الثانية المتمثلة بـ “عاصفة الحزم” التي يبدو أنها فهمت في هذه المرة. ويبدو أن كلاً من مفاوضات النووي، والرد الحاسم في “عاصفة الحزم”، قد يسرت على الإيرانيين فهم رسالة الردع الخليجي وإدراكها.
4.ولعل من المتغيرات الواضحة على الساحة الإقليمية الفشل الذريع لقاسم سليماني وبطانته الإيرانية، وتابعيه من المليشيات العراقية المسلحة من الإيرانيين، واضطرارهم إلى الانسحاب من المجابهة، بعد فشلهم في اقتحام تكريت، وهو أمر أنجزه طيران التحالف بكل يسر. كسر هذا الفشل الهيبة والخشية من القدرات الإيرانية، والتهويل الذي تعودنا عليه من الإيرانيين لقدراتهم. يشابه هذا الفشل الغياب الملحوظ لعناصر حزب حسن نصرالله من المجابهة في القطاع الجنوبي من الجبهة السورية، ويسر عملية سيطرة المعارضة السورية على بصرى الشام وريفها ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن، ومحافظة إدلب.
5. هبت مصر والأردن والسودان والمغرب لإسناد عملية “عاصفة الحزم”، مما شكل أول عمل عسكري مشترك منذ زمن طويل، يزيد من قيمته أنه جاء لإنجاد دولة عربية مهددة بالسقوط من مليشيا الحوثي المسندة من إيران. ثم جاء قرار القمة العربية بتشكيل قوة عربية موحدة للدفاع عن المصالح العربية في وجه التهديدات التي تتعرض لها.
6.من المتغيرات المهمة في المشهد الجيوستراتيجي أن قرار عملية “عاصفة الحزم” خليجي/ عربي خالص، اتخذ عربياً، وبلغ للأصدقاء والعالم للعلم، وليس للاستئذان. من المفيد الإشارة إلى أن اتخاذ هذا القرار تم، والولايات المتحدة ممثلة بعميد الدبلوماسية الأميركية وزير الخارجية، جون كيري، تخوض مفاوضات عسيرة مع الجانب الإيراني، من دون أن يؤثر ذلك على القرار الذي اتخذه القادة الخليجيون. في المقابل، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للإعلان عن تأييدها المملكة العربية السعودية، ودعمها لوجستياً ومعلوماتياً.
7.هناك تطور خطير أحدثته “عاصفة الحزم”، يتمثل بموقف دولتين إقليميتين مهمتين، هما باكستان الواقعة على طوار إقليمنا ومحاددة لإيران، وهي دولة نووية وبمستوى عال، تمتلك رؤوساً نووية كافية لردع جارتها الأكبر منها والأكثر سكاناً والأوسع مساحة، الهند، لكنها سارعت لتأييد المملكة العربية السعودية بأقوى الكلمات، معربة عن استعدادها للدفاع عنها ضد كل من يهدد أمنها كائناً من كان. هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها إيران كلاماً على هذا المستوى من الصراحة والمباشرة، يبيّن التزام باكستان بقدراتها المجربة بالدفاع عن السعودية وحلفائها الخليجيين.
8.التطور الثاني مسارعة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أيضاً، إلى الإعلان عن تأييده عملية “عاصفة الحزم”، واستعداد تركيا للإسهام بجهد لوجستي واستخباراتي لدعم العملية. الأكثر أهمية في تصريح الرئيس التركي مطالبته إيران، بصوت واضح وعالٍ ومباشر، بأن تكف يدها عن التدخل في العراق وسورية واليمن، وبأن إجراءاتها أصبحت تهدد الأمن الإقليمي.
9.الأمر المهم الآخر على صعيد التشكيل الجيوستراتيجي الجديد في المنطقة، على ضوء مفاوضات المشروع النووي الإيراني، أن المملكة العربية السعودية أعلنت، أيضاً، أن إيران إذا ما اختارت الاستمرار في مشروعها النووي ليوصلها لتصنيع القنبلة النووية، فإن المملكة ستتخذ الإجراءات التي تؤمن أمنها الوطني وعقيدتها، وفي هذا ملمح واضح أن إيران ستجر نفسها إلى سباق تسلح نووي، وتقليدي يزيد من وضعها الاقتصادي المتردي.
السيناريو الأفضل للوطن العربي
نتخيل تحولاً جوهرياً في علاقات القوة في الإقليم، بعد هذين المتغيرين الخطيرين والمهمين اللذين أشرنا إليهما، فمن ناحية اصطفاف الدول وتوزيع الأدوار، يمكن رسم الصورة، وفق ما يلي:
1.مجموعة التحالف العربي / الإسلامي وتتألف من:
أ. دول مجلس التعاون الخليجي الست، واليمن بعد تحريرها من الحوثيين، وبهذا ستدخل الجزيرة العربية، بكاملها، في هذه الترتيبات، ومن المحتمل أن يتم اتخاذ إجراءات جدية لضم اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، بعد أن برز، بوضوح، تأثير اليمن وأهميته الخطيرة على الأمن القومي للجزيرة العربية والأمن القومي في الوطن العربي بشكل كامل.
ب. دول الدرع الرديف العربي المتكونة من الأردن ومصر والسودان والمغرب.
ج. دول الدرع الرديف الإسلامي، وهي باكستان وتركيا. على الرغم من الفتور الذي صاحب الموقفين، بعد الدعم القوي الابتدائي، الذي أبدته الدولتان، فإن التزامهما بسلامة المملكة واستقلالها وأمن الحرمين لا يزال واضحاً.
د. الحلفاء الغربيون، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا.
2.المجموعة المؤيدة لإيران وتتألف من: إيران، ونظام الحكم العراقي، ونظام الحكم السوري، وحزب حسن نصر الله في لبنان، والرديف الروسي، وإلى حد ما الصيني، وينبغي مراقبة الموقف الهندي، بعد اصطفاف باكستان بجانب دول مجلس التعاون.
يتبين من مجمل ما تم عرضه أن لعلاقات القوة الناتجة عن التشكيل الجيوستراتيجي دوراً مهماً في تقرير الشكل النهائي الذي ستتشكل، بموجبه، تراتبية العلاقات البينية في الإقليم. ففي الجانب العربي، تشي التحولات الجارية، بعد انتهاء مفاوضات المشروع النووي الإيراني من جهة، وحسم “عاصفة الحزم” نتيجتها لصالح العمل العربي المشترك، ليس هذا إسرافاً في التفاؤل، لكن القدرة على الفعل، واتخاذ القرار على مستوى دول مجلس التعاون من جهة، يمثل انتقالاً واضحاً من نمط عدم الرغبة في الفعل، ودفع الأمور بوسائل أخرى تعتمد الدبلوماسية والمساومات والترضيات، إلى نمط جديد يعتمد الفعل، والردع، بعد نجاح الفعل، صيغة مقبولة للتعايش مع خصم أتعب جيرانه في توجهاته.
من ناحية ثانية، وفي حالة توقيع إيران الاتفاق، وإيمان قيادتها بأن توقيع الاتفاق هو الوسيلة الوحيدة المتاحة بيديها للتخلص من مأزقها الاقتصادي الذي سببته العقوبات الدولية التي قاد الغرب عملية فرضها، ستترتب عليها مجموعة ليست قليلة من الالتزامات الجديدة حيال كل من اللجنة الدولية للطاقة الذرية، بالنسبة لمرتكزات برنامجها النووي التقنية والمادية، وحيال لجنة 5+1، والولايات المتحدة، وحلفائها تحديداً، تجعل من انغماسها السلبي في علاقات القوة الإقليمية أمراً شديد التكلفة. فالوضع الجديد، وإن صاحبته عملية رفع تدريجي متزامن للعقوبات، سيلزم إيران بأن تنفق مواردها لتحديث بناها التحتية المتعبة، وتحقيق حد مقبول من الرفاه لشعبها الذي أعرب عن فرحته العارمة بالاتفاق، مما سيجعل عملية التراجع عما تم التوصل إليه عمليةً ذات كلف كبيرة قد لا تتحملها إيران.
وكمخرجات لهذه الفرضية، سيزداد وضع حلفاء إيران في الإقليم حرجاً، فلم تعد إيران قادرة على تأمين الدعم المطلوب لهم، ولا هم قادرون على الصمود وحدهم من دون الدعم الإيراني الذي كان متواتراً قبل هذا التغير في علاقات القوة التي أوردناها. من هنا، نتوقع أنه، وفي نهاية المطاف، سيؤول نظام بشار الأسد في سورية إلى السقوط، وأن نظاماً جديداً يقيم سورية تعددية موحدة سيرى النور. هنا، من المهم بيان أن المنظمات الظلامية لم تكن لترى النور، لولا قمع الأنظمة والمشروع الإيراني المصاحب له. في الوقت نفسه، سيرى حزب حسن نصر الله نفسه من دون إسناد ودعم نظام ولاية الفقيه تشكيلاً يشبه الجبنة السويسرية كثيرة الثقوب. حينئذ، سيتحول إلى حزب سياسي، لن يمثل إلا أقلية في وسطه الذي تحمله كثيراً.
وفي العراق، وبعد الفشل البيّن لقاسم سليماني ورهطه، وبعد القمع والسرقة والإهانة التي عانت منها المحافظات السنية العربية، سيؤول المشروع الطائفي إلى الفشل في نهاية المطاف. وهنا، لا نتحدث عن أشهر أو سنوات، بل نتحدث عن قناعات متراكمة، ستجد طريقها تدريجياً ورويداً رويداً إلى الذاكرة الجمعية العراقية، مما سيغير الحالة التي يعيشها العراق بالتأكيد.
الحالة الأسوأ
بعد أن عرضنا الحالة الأفضل لتصورات التشكيل الجيوستراتيجي في المشرق الغربي، في ظل الاتفاق النووي الإيراني، وعملية “عاصمة الحزم”، ولكي يأخذ البحث مدياته، نعرض فيما يلي السيناريو الأسوأ الذي يمكن أن يحدث، لو توفرت الظروف التالية:
1.تدخل إيران بالقوة العسكرية لإسناد الحوثيين، أو لإيقاف “عاصمة الحزم” بقواها الذاتية.
2.تلويح أطراف دولية أخرى بالتدخل لصالح إيران، أو الحوثيين بتقديم الدعم بالقوة.
3.تراجع إيران عن تعهداتها في اتفاق الإطار والتدخل في الإقليم لابتزاز العرب للرضوخ لطلباتها.
4.سيطرة المتطرفين على زمام الأمور في طهران وإقصاء المعتدلين.
5.استهداف الداخل الخليجي من خلايا نائمة، وستكون البحرين والكويت والسعودية أول الأهداف.
6.تراجع دول من مجلس التعاون الخليجي عن التزاماتها، ربما بسبب ابتزاز إيراني، كما جرى مع باكستان.
7.تدخل المجتمع الدولي لإيقاف “عاصفة الحزم”، تحت ذريعة العامل الإنساني.
هذه مجرد أفكار تحليلية لما يمكن أن تواجهه المنطقة، سلباً وإيجاباً، بفعل المتغيرين الخطيرين اللذين تعيشهما في هذه الأثناء.
لننتظر، ونرَ
عبد الوهاب القصاب
العربي الجديد