عندما غادرت آخر دبابات أبرامز الأميركية ألمانيا في عام 2013، كان ذلك نهاية لوجود استمر 69 عاما، وكان دلالة على أن “الناتو” ما عاد يشعر بالانزعاج من المشاكل المحتملة على حدود بلدانه في وسط وشرقي أوروبا.
بعد بضع سنوات فحسب، عادت المدرعات الأميركية مرة أخرى إلى جميع أنحاء شرقي القارة، في مهمة لا تتمثل في إظهار القوة في وجه روسيا الجريئة فحسب، بل وفي اختبار ما إذا كان بوسع اللوجستيات والبنى التحتية على الأرض، عرقلة استجابة متسارعة من “الناتو” للرد على أي عمل استفزازي.
كانت عشرات الزوارق الأميركية المقاتلة التي دخلت في سبتمبر الماضي إلى الأحواض في غدانسك في بولندا، ضمن الأخيرة التي انضمت إلى جهد عاجل لاختبار العقبات، التي تعترض نشرا سريعا لقوات “الناتو” في أوروبا.
تتصدر مسألة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 قائمة المخاوف الأمنية التي أعقبت عصر عائدات السلام، بعد سقوط جدار برلين، ودفعته إلى نهاية مفاجئة. وحذر الجنرال روبرت نيلر، قائد قوات البحرية الأميركية، القوات الأميركية المتمركزة في النرويج أواخر الشهر الماضي، من أنه يشعر أن هناك حربا مقبلة.
وقال المتحدث باسمه في وقت لاحق، إن الجنرال لا يعتقد أن المعركة وشيكة، لكنه كان يشدد على ضرورة الاستعداد لنطاق صراع واسع. وقبل أسبوع فحسب، اتهم مسؤول روسي رفيع المستوى الغرب بإجبار موسكو على ما هو ضد إرادتها في المنافسة العسكرية في وسط أوروبا.
يقول الجنرال بن هودجز، الذي كان حتى وقت قريب قائد الجيش الأميركي في أوروبا، إنه “بعد سقوط الجدار لم يخطر على بال أي شخص، أننا سوف نتحرك عبر أوروبا الشرقية في أي نوع من أنواع التشكيلات العسكرية”. ويضيف “كنا نظن جميعا أن روسيا ستكون شريكا لنا. بدأت جميع البلدان بتقليص حجم جيوشها بأسرع ما يمكن”. والآن، يقول مسؤول كبير في “الناتو” إن الحلف يبحث في كل الأشياء التي نسينا كيفية ممارستها.
يعترف أيضا بأن الحلف -أو على الأقل بعض أعضائه- كان يمكن أن يكون أسرع في الاستجابة للتحذيرات، لإحداث هجوم إلكتروني واسع النطاق في أستونيا في عام 2007 والحرب القصيرة بين روسيا وجورجيا في عام 2008. ويقول المسؤول “كانت جميع المؤشرات هناك، إلا أننا لم نعر اهتماما لما كان يجري في ذلك الوقت”.
لكن آخرين في “الناتو” يعترضون على فكرة أنه كان بطيئا جدا في التكيف مع التغيرات الكبيرة في البيئة الأمنية الدولية.ثمة مسؤولون في كل من مقر بروكسل للحلف، وعواصم البلدان الأعضاء الـ29 فيه، يوافقون على أن هناك حاجة ملحة إلى زيادة دقة العمليات في أوروبا. أطلق كل من “الناتو” والاتحاد الأوروبي مبادرات متعددة الجوانب لمعالجة المخاوف اللوجستية، من تخفيف اختناقات النقل إلى إصلاح الإجراءات الجمركية الحدودية، التي تستغرق وقتا طويلا.
ويقدم الإصلاح العسكري في أوروبا اختبارا جديدا لقدرة “الناتو” على تجديد نفسه، بعد نحو 70 عاما على تأسيسه. ويحاول الحلف الآن إثبات قدرته على حماية حدود ما بعد الحرب الباردة، التي تمتد من الدائرة القطبية الشمالية إلى شمالي سوريا.
تراوح تحديات “الناتو” بين قدرات الجيوش الأوروبية التي تعاني ضائقة مالية، والتزام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويواجه “الناتو” أيضا تساؤلات حول ما إذا كان أمنه الإقليمي المتنامي، متناسبا أم أنه ينطوي على مخاطر في إثارة صراع يفترض بالضبط، أن يحول دونه؟
يقول جينز ستولتنبرغ، الأمين العام للحلف، الذي تولى منصبه قبل أقل من عام بعد بدء الصراع في شبه جزيرة القرم إن “الناتو بالتأكيد لا يريد حربا باردة جديدة، ولكن العالم تغير، وبالتالي يجب على الناتو أن يتغير. لأول مرة في تاريخنا، نحن بحاجة إلى إدارة أزمات خارج حدودنا، وفي الوقت نفسه تعزيز جهودنا للدفاع الجماعي في أوروبا”.
وتكثفت العملية منذ تولي ترامب منصبه. وقد صدم الرئيس الأميركي الحلفاء في مايو الماضي، عندما فشل في التأكيد مجددا على تأييد الولايات المتحدة لحكم المادة 5 من ميثاق “الناتو”، التي تنص على التزام الأعضاء بالدفاع عن بعضهم البعض.
ومنذ ذلك الحين، أدلى هو وغيره من المسؤولين الأميركيين ببيانات أكثر طمأنة، لكنه حث أيضا، وبشكل أكثر مباشرة من الإدارات الأميركية السابقة، الأعضاء الأوروبيين على إنفاق المزيد على الدفاع. وادعى ترامب في نوفمبر الماضي أن هذا الضغط أسفر عن نتائج، وقال إن “مليارات ومليارات الدولارات تتدفق الآن. صدقوني، الناتو سعيد جدا بدونالد ترامب، وبما فعل”.
وأشارت البلدان الأوروبية، التي تشكل الأغلبية الساحقة من أعضاء “الناتو”، إلى أنها تأخذ الأمن المشترك بجدية أكبر. يذكر أن 25 دولة من جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 28 في الاتحاد الأوروبي، بدأت الشهر الماضي بإطلاق ما يسمى التعاون الهيكلي الدائم “بيسكو” لتعزيز التعاون الدفاعي.
تمت الموافقة في إطار مشروع بيسكو على مبادرة بقيادة هولندا لتحسين قدرة النقل العسكري في جميع أنحاء أوروبا، بالنظر إلى العقبات البيروقراطية وعدم كفاية البنية التحتية.
ومن المقرر أن يتفق ذلك مع تقرير حول نفس الموضوع، مقرر من وكالة الدفاع الأوروبية في الاتحاد الأوروبي في الربيع المقبل. وقال هالبه زيلسترا، وزير الخارجية الهولندي، إن العمل على قدرة النقل العسكري ينبغي أن يمكِّن الاتحاد الأوروبي من ضمان أمننا بشكل أفضل. وتعكس موجة النشاط الأخير مدى إعادة التفكير في الدفاع عن أوروبا منذ بدء الصراع في شبه جزيرة القرم.
الخلل في مواجهة روسيا
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 أعاد “الناتو” توجيه عملياته إلى صراعات دولية مثل أفغانستان وأخيراً ليبيا. وانخفض عدد أفراد الجيش الأميركي العاملين في أوروبا إلى عُشر حجم القوات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي بلغت نحو 300 ألف جندي، في الوقت الذي تحول فيه تركيز واشنطن إلى أفغانستان والعراق وصعود الصين المتسارع.
وقد أعد “الناتو” الآن ما يميزه كقوة رادعة في الجو والبر والبحر، في دوله الشرقية الأعضاء. وهناك خط الدفاع الأول الذي يتكون من نحو 4500 من قوات “الناتو” في قواعد متقدمة في بولندا ودول البلطيق في لاتفيا وليتوانيا وأستونيا. ومنذ عام 2015، كانت هناك فرقة مدرعة أميركية قوامها نحو 3300 فرد، ترابط بالتناوب في أوروبا.
الحجم الصغير نسبيا للموارد الشرقية للحلف يؤدي حتما إلى طرح سؤال ما الذي سيحدث إذا قررت روسيا، أو قوة أخرى، اختبار قوة “الناتو”؟ والإجابة هي أنه يمكن للقوات الروسية بلوغ ضواحي تالين، عاصمة أستونيا، في غضون 60 ساعة من بدء الهجوم، وفقا لدراسة أجرتها مؤسسة راند في عام 2016.
ويقول “الناتو” إن وحدة تعزيز مكونة من خمسة آلاف جندي يمكن أن تبدأ في الانتشار في أي مكان في أوروبا في غضون خمسة أيام. وفي هذا العام ستقود إيطاليا، التي تبعد عاصمتها روما أكثر من ألفي كيلومتر عن تالين، القوة المتقدمة تلك.
وتتعلق المشاكل اللوجستية بالانتشار في مسافة أعمق وليس في مسافة أطول. في أوروبا الوسطى والشرقية، حيث كانت بلدان كثيرة إما ضمن الاتحاد السوفييتي ذاته، وإما جزء من حلف وارسو، تعتبر البنية التحتية مبعثرة أو متهالكة.
كما لم يتم بناء جسور وأنفاق وطرق وسكك حديدية وموانئ في أوروبا الغربية، في السنوات الـ 25 الماضية، لاستيعاب أعداد كبيرة من المركبات العسكرية الأميركية الثقيلة. ويقول دوغلاس لوت، الممثل الأميركي الدائم سابقا لدى “الناتو”، “ما عادوا يبنون جسورا في أوروبا ذات قدرة 70 طنا بوسعها تحمّل وزن دبابة أبرامز”.
وتثير كمية وتنوع مواطن الخلل الخوف من خلال تأخير لمدة ست ساعات لشحنات عابرة بين بولندا وليتوانيا بسبب تغير في اتساع السكة الحديدية، وعقبات تواجه المركبات العسكرية في عبور الكثير من محطات السكك الحديدية البولندية ذات المسار الواحد (وارسو تزعم أن لدى معظم محطاتها أكثر من مسار)، إلى جانب القيود التي يعانيها بريمرهافن (ميناء ألماني يقع على بحر الشمال) حيث يتم الوصول إليه عبر بوابة طريق واحدة، لا تسمح إلا بمرور ما مجموعه 1500 مركبة يوميا في الدخول والخروج.
ويقول مايكل لينيك، وهو مساهم في تقرير راند، إن استثمار الاتحاد الأوروبي و”الناتو” سيسهم في تحسين وإحياء البنية التحتية وسيكون في نهاية المطاف “قرارا سياسيا”. وأضاف “كلما كان موقفهم أكثر صرامة تجاه روسيا، ازدادت ضرورة ذلك”.
ويقول الجنرال هودجز إن مبادرة الطمأنينة الأوروبية -وهي صندوق أميركي أنشئ بعد عملية شبه جزيرة القرم بقيمة 3.4 مليار دولار في عام 2017- تمول منذ فترة تحسينات السكك الحديدية، بحيث يمكن تفريغ الدبابات بسرعة أكبر.
وينبغي أن تشمل الأولويات الأخرى ناقلات المعدات الثقيلة ومرافق تخزين الوقود. وأضاف “هذه هي الأشياء التي يمكن أن نضع المال فيها في الحال”. وتضيف القيود الإدارية طبقة أخرى إلى التحدي أمام نشر القوات. ويمكن تعليق الإجراءات الحدودية للسماح بالتحرك السريع في حالة حدوث أزمة.
في غياب حالة الطوارئ التي من هذا القبيل، يجب على القادة أن يلتزموا بالقواعد المحلية مثل القوانين الألمانية التي تحظر على المركبات الثقيلة عبور الطرق في أوقات معينة.
ويقول الجنرال هودجز إن أولى الأولويات لدى “الناتو” هي خفض زمن تجهيز الحدود للقوات والعتاد من ثلاثة أسابيع في بعض الدول الأعضاء، إلى رقم مستهدف لا يتجاوز خمسة أيام.
ثقافات عسكرية مختلفة
يخضع المخططون العسكريون الغربيون أيضا لضغوط من أجل حل المشاكل طويلة الأمد مع معدات غير متوافقة، ابتداء من أجهزة الراديو إلى فوهات التزود بالوقود.
ووجود 28 جيشا في أوروبا هو في حد ذاته مجموعة غير منضبطة من المركبات والأسلحة. ووفقا لتقرير صدر في أكتوبر الماضي، من قبل الجمعية البرلمانية لـ”الناتو”، التي تجمع المشرعين من البلدان الأعضاء، فإن القارة لديها 20 نوعا من الطائرات المقاتلة، مقارنة بستة أنواع في الولايات المتحدة.
وهناك 29 نوعا من المدمرات والفرقاطات مقارنة بأربعة فقط للولايات المتحدة، و17 نسخة من الدبابات الرئيسية، مقارنة بواحدة ينتجها أكبر عضو في التحالف. وفقا لما ذكره دبلوماسي أوروبي فإن “من الواضح أن لدينا في أوروبا هدرا هائلا. كل بلد لديه صناعة دفاع ولا أحد يريد أن يتخلى عنها”.
كما أن النقص في الأموال يهدد طموحات “الناتو” على الرغم من أن أعضاء التحالف أنفقوا نحو 946 مليار دولار على الدفاع العام الماضي. وفي عام 2016، لم يحقق سوى أربعة من الأعضاء الأوروبيين -المملكة المتحدة وبولندا وأستونيا واليونان- هدف التحالف بإنفاق ما يعادل 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على جيوشهم.
ومن المتوقع أن تنضم إليهم رومانيا هذا العام، في حين التزمت لاتفيا وليتوانيا أيضا بتحقيق الهدف. أموال الاتحاد الأوروبي التي تستهدف المشروعات في المناطق الأكثر فقرا في الاتحاد، والتي تبلغ قيمتها 63.4 مليار يورو للفترة من 2014 إلى 2020، يُنظَر إليها على أنها مصدر محتمل لتمويل البنية التحتية.
ولا يزال الكثير من المحللين يعتبرون أن وقوع هجوم روسي مباشر على دولة عضو أمر غير مرجح، محتجين بأن التهديد الأكبر تشكله الحرب الإلكترونية أو الهجينة، وهي مزيج من الحرب التقليدية والرقمية.
بيد أن المسؤولين الأوروبيين يصرون على أن موسكو تجري منذ فترة انتشارا عسكريا، وزادت تحركات الطائرات الروسية في المجال الجوي لبلدان البلطيق أو بالقرب منها، بينما وصل النشاط البحري إلى أعلى مستوى له منذ الحرب الباردة.
وتم نشر غواصات روسية في مناطق مثل البحر الأسود وشرقي المتوسط، وحول كابلات اتصالات مهمة عبر المحيط الأطلنطي، حسب ما ذكر مسؤولو “الناتو”. ووصفت موسكو بدورها حشد “الناتو”، بما في ذلك نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في أوروبا، بأنه عدوان يهدف إلى تطويق روسيا.
وندد ألكساندر غروشكو، سفير روسيا لدى “الناتو”، في الشهر الماضي بما أسماه “الشفرة الوراثية” للحلف التي تتجلى في البحث عن عدو كبير في الشرق يجب التصدي له.
في سبتمبر الماضي، حين أجرت موسكو تدريباتها العسكرية “زاباد”، على الحافة الغربية لروسيا، تم نشر جنود إضافيين من دول أعضاء في “الناتو” وكذلك سفن وطائرات، حول مناطق حوض البلطيق.
صحيفة العرب اللندنية