في أغلب الأحيان، تشكل الدول المنحدرة خطورة أكبر من الدول الصاعدة. وكان فلاديمير بوتين مناورا بارعا، يسعى إلى “جعل روسيا عظيمة مرة أخرى” من خلال التدخل العسكري في دول مجاورة وفي سورية، وباستخدام حرب المعلومات السيبرانية لإحباط الديمقراطيات الغربية -ولكن بنجاح جزئي فقط. وقد وجدت دراسة للبث الإذاعي الروسي في أوكرانيا أنه لم يكن فعالا إلا مع الأقلية ذات التوجهات الروسية مسبقا، لولا أنه تمكن من إنتاج تأثيرات استقطابية وهدامة في النظام السياسي.
* * *
كمبريدج – أعلن عدد كبير من الخبراء وفاة النظام الدولي الليبرالي الذي ساد في فترة ما بعد العام 1945، بما في ذلك نظام حقوق الإنسان المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948. مؤخرا، حمل غلاف مجلة فورين بوليسي صورة حمامة حقوق الإنسان البيضاء وقد اخترقت جسمها سهام دموية تمثل ردود الفعل السلطوية.
وفقا لمنظري العلاقات الدولية “الواقعيين”، لا يستطيع المرء أن يحافظ على النظام العالمي الليبرالي عندما تكون اثنتان من القوى العظمى الثلاث -روسيا والصين- معادية لليبرالية. وفي مقالهما في مجلة الشؤون الخارجية، يزعم ياشا مونك وروبرتو ستيفان أن العصر الذي كانت فيه الديمقراطيات الليبرالية الغربية تُعَد القوى الثقافية والاقتصادية الكبرى في العالَم ربما يقترب من نهايته. ففي غضون السنوات الخمس المقبلة، “سوف تتجاوز الحصة من الدخل العالمي التي تحتفظ بها دول تعتبر غير حرة -مثل الصين وروسيا ودول في الشرق الأوسط- الحصة التي تحتفظ بها الديمقراطية الليبرالية الغربية”.
تعيب هذه الحجة عِدة مشاكل. فبادئ ذي بدء، تعتمد هذه الحجة على مقياس يسمى تعادل القوة الشرائية، وهو مقياس مفيد لبعض الأغراض، ولكن ليس في مقارنة النفوذ الدولي. فبحسب أسعار الصرف الحالية، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي السنوي في الصين 12 تريليون دولار، وروسيا 2.5 تريليون دولار، مقارنة باقتصاد الولايات المتحدة الذي يبلغ 20 تريليون دولار. لكن الخلل الأكبر في هذه الحجة يتلخص في وضع دول مختلفة كاختلاف الصين وروسيا معا في ذات الفئة بوصفهما محورا للاستبداد. واليوم، لا يوجد شيء مثل محور ألمانيا النازية السيئ السمعة وحلفائها في ثلاثينيات القرن العشرين.
على الرغم من أن روسيا والصين دولتان استبداديتان وتستفيدان من التكتل ضد الولايات المتحدة في المحافل والهيئات الدولية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن مصالحهما مختلفة للغاية. فالصين قوة صاعدة متداخلة بشكل كبير مع الاقتصاد الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي المقابل، تعتبر روسيا دولة منحدرة تعاني من مشاكل ديموغرافية خطيرة وأخرى خاصة بالصحة العامة، وتشكل الطاقة وليس السلع النهائية ثلثي صادراتها.
في أغلب الأحيان، تشكل الدول المنحدرة خطورة أكبر من الدول الصاعدة. وكان فلاديمير بوتن مناورا بارعا، يسعى إلى “جعل روسيا عظيمة مرة أخرى” من خلال التدخل العسكري في دول مجاورة وفي سورية، وباستخدام حرب المعلومات السيبرانية لإحباط الديمقراطيات الغربية -ولكن بنجاح جزئي فقط. وقد وجدت دراسة للبث الإذاعي الروسي في أوكرانيا أنه لم يكن فعّالا إلا مع الأقلية ذات التوجهات الروسية مسبقا، لولا أنه تمكن من إنتاج تأثيرات استقطابية وهدامة في النظام السياسي. ولم يفعل إحياء حرب المعلومات على غرار الحرب الباردة شيئا يُذكَر لخلق قوة ناعمة لروسيا. ويضع مؤشر القوة الناعمة 30، ومقره لندن، روسيا في المرتبة السادسة والعشرين. فقد حققت روسيا بعض النجاح في زرع الحلفاء في أوروبا الشرقية، لكنها ليست جزءاً من محور استبدادي قوي كذلك الذي كان قائماً في ثلاثينيات القرن العشرين.
الصين مختلفة. فقد أعلنت عن استعدادها لإنفاق المليارات لزيادة قوتها الناعمة. وفي اجتماعات دافوس في العام 2017 وهاينان في العام 2018، قدم شي جين بينغ الصين بوصفها قوة مدافعة عن النظام الدولي القائم، شريطة أن يحمل خصائص صينية وليس ليبرالية. ولا تريد الصين قلب النظام الدولي الحالي، بل إعادة تشكيله على نحو يعمل على زيادة مكاسبها.
وتملك الصين الأدوات الاقتصادية اللازمة للقيام بذلك. وهي تقنن القدرة على الوصول إلى سوقها الضخمة لأسباب سياسية. فقد عاقبت النرويج بعد منح المنشق ليو شياو بو جائزة نوبل للسلام. وكافأت الأوروبيين الشرقيين بعد أن خففوا من تأثير القرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان. كما عانت شركات من سنغافورة وكوريا الجنوبية بعد أن اتخذت الحكومة في البلدين مواقف أثارت استياء الصين. وتقدم مبادرة الحكومة الصينية الهائلة، التي حملت مسمى” الحزام والطريق”، لتشييد البنية الأساسية التجارية في مختلف أنحاء أوراسيا فرصا وفيرة لاستغلال العقود التجارية لاكتساب النفوذ السياسي. وقد عملت الصين بشكل متزايد على تقييد حقوق الإنسان في الداخل. ومع تزايد قوة الصين، سوف تزداد مشاكل النظام العالمي لحقوق الإنسان.
ولكن، لا ينبغي لأحد أن يستسلم لإغراءات الإسقاطات التي لا تخلو من مبالغة في تصوير قوة الصين. فإذا حافظت الولايات المتحدة على تحالفاتها مع اليابان الديمقراطية وأستراليا واستمرت في تطوير علاقات جيدة مع الهند، فسوف تكون لها اليد العليا في آسيا. وعندما يتعلق الأمر بالتوازن العسكري العالمي، تأتي الصين متأخرة كثيرا، وفي ما يتصل بالعوامل الديموغرافية، والتكنولوجيا، والنظام النقدي، والاعتماد على الطاقة، تحتل الولايات المتحدة مكانا أفضل من الصين في العقود المقبلة. وفي مؤشر القوة الناعمة 30، تأتي الصين في المرتبة الخامسة والعشرين، في حين تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة.
علاوة على ذلك، لا أحد يدري ماذا يخبئ المستقبل للصين. فقد مزق شي جين بينغ الإطار المؤسسي الذي تركه دنغ شياو بينغ لتداول القيادة، ولكن إلى متى قد تدوم سلطة شي جين بينغ؟ في ما يتعلق بقضايا مثل تغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب، والاستقرار المالي، سوف تستفيد كل من الصين والولايات المتحدة من التعاون. والخبر السار هنا هو أن بعض جوانب النظام الدولي الحالي سوف تستمر؛ أما الخبر المزعج فهو أن النظام الحالي لن يضم العنصر الليبرالي المتمثل في حقوق الإنسان.
الواقع أن نظام حقوق الإنسان ربما يواجه بيئة أكثر صرامة، لكن هذا لا يعني انهياره. فمن الممكن أن تعمل إدارة أميركية في المستقبل بشكل أوثق مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى متشابهة الفِكر لبناء تجمع لحقوق الإنسان. وربما تعمل مجموعة من عشر دول، تضم أكبر الديمقراطيات الكبرى في العالَم، على توفير التنسيق بشأن القيم مع مجموعة العشرين (التي تضم دول غير ديمقراطية مثل الصين، وروسيا، وغيرهما)، مع تركيزها على القضايا الاقتصادية.
ومن الممكن أن يقدم آخرون يد المساعدة. فكما تشير كاثرين سيكينك في كتابها الجديد بعنوان “دليل الأمل”، في حين كان الدعم الأميركي مهما لحقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة لم تكن دوماً شديدة الليبرالية خلال الحرب الباردة، وتدين أصول النظام في أربعينيات القرن العشرين بالكثير للأميركيين اللاتينيين وآخرين. وعلاوة على ذلك، عملت منظمات حقوقية عبر وطنية على تطوير الدعم المحلي في العديد من الدول.
باختصار، ينبغي لنا أن نشعر بالقلق إزاء التحديات المتعددة التي تواجه الديمقراطية الليبرالية خلال الانتكاسة الحالية لما أسماه صامويل هنتنغتون “الموجة الثالثة” من نشر الديمقراطية. لكن هذا ليس سبباً للتخلي عن حقوق الإنسان.
جوزيف ناي
الغد