تلقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جائزة شارلمان (أبو أوروبا) وذلك في مدينة آخن الألمانية، تقديرا لالتزامه ولرؤيته من أجل أوروبا جديدة، وطموحه جعل أوروبا أكثر تكاملا على المستويين السياسي والاقتصادي. لكن بالرغم من أهمية البعد الأوروبي في الدبلوماسية الماكرونية، يتمثل الاختبار الكبير أمام الرئيس الفرنسي في ملف الاتفاق النووي الإيراني وذلك بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحادي، يوم 8 مايو، الانسحاب الجاف منه بالرغم من الجهود الماكرونية الحثيثة لإنقاذ هذه الخطة المشتركة الموقعة في يوليو 2015. مقابل عدم الاكتراث الأميركي بالتحذيرات الأوروبية، استمعت طهران مؤقتا لطلب فريديريكا موغريني والثلاثي الأوروبي المعني، ولم تتخذ موقفا حادا مراهنة على ضمانات أوروبية للبقاء في الاتفاق.
في هكذا لعبة تشبه البوكر حيناً والشطرنج غالباً، يناور ماكرون ويجهد لحث ترامب على الاعتدال ولانتزاع موافقة إيران وروسيا على إعادة التفاوض من أجل اتفاق أشمل. بيد أن عناصر القوة الأوروبية تُعتبرُ محدودة في التجاذب حول هذا الملف، وهناك في الخلفية قلق أوروبي من الحرب التجارية مع واشنطن ومن الانكشاف الاستراتيجي نظراً إلى مظلة الحماية الأميركية التي لا بديل عنها. ولذلك ستتعيّن على إيمانويل ماكرون بلورة موقف أوروبي موحد وقوي حتى لا يتعامل سيد البيت الأبيض معه ومع أترابه على أنه “شرطي العالم الاقتصادي” ويفرض العقوبات على الشركات الأوروبية التي تواصل العمل في إيران بعد انتهاء مهلة أقصاها نصف سنة. وهكذا تكمن معضلة إيمانويل ماكرون في التوفيق بين استمرار “علاقة شخصية وصداقة” نحتها مع دونالد ترامب، وبين حرصه على صيانة الاتفاق النووي لحماية المصالح الأوروبية وما يعتبره إنجازاً من أجل الاستقرار وتنفيذ آليات منع أسلحة الدمار الشامل.
قبل تسلمه “جائزة شارلمان” بوصفه يستحق لقب “قائد أوروبي”، تصرف ماكرون على هذا الأساس نظراً للفراغ الألماني منذ انتخابات سبتمبر الماضي ولخروج بريطانيا بعد استفتاء البريكست. ومن هنا كان مسعى ماكرون خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن وطرحه فكرة اتفاق أشمل من أربع ركائز؛ تمديد الاتفاق الحالي بعد 2025، ومراقبة محكمة للنشاطات النووية، والصواريخ الباليستية، والأزمات الإقليمية في اليمن والعراق وسوريا، لكي يساعد ترامب على النزول عن شجرة وعوده الانتخابية ويقدم له المخرج اللائق.
لكن الرئيس الأميركي، كما الحال في اتفاقية التغيير المناخي، قرر تحطيم إرث سلفه باراك أوباما وأصر على أن الصفقة النووية هي أسوأ صفقة في التاريخ وهي تصب في صالح طهران. ومن أجل مواجهة الوضع الجديد ومنع موت الاتفاق، سارع الجانب الأوروبي وأقنع الرئيس الإيراني حسن روحاني بإعطاء مهلة زمنية قبل التصعيد مع تكرار معزوفة التمسك بالاتفاق، وأتى هذا الجهد بعد استنتاج فشل الجهود في ثني الرئيس الأميركي عن تنفيذ وعيده.
يراهن إيمانويل ماكرون على تعاون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيزوره في 24 مايو الحالي من أجل تمرير أفكاره الوسطية وجلب طهران إلى طاولة التفاوض من جديد
في تبرير الفشل الأوروبي يتحدث البعض عن صعوبة الإحاطة بشخصية ترامب وطريقة اتخاذ قراره، لكن الحقيقة في مكان آخر إذ علل ماكرون نفسه بآمال علقها على الصلة الشخصية التي نسجها مع نظيره الأميركي، ولم يتنبه محيطه إلى أبرز معالم استراتيجية إدارة ترامب المتمثلة في احتواء إيران، والفصل الاستراتيجي بين روسيا وإيران، وإضعاف الاتحاد الأوروبي. وإذا نظرنا إلى تداعيات الانسحاب الترامبي نلمس ارتباطها بالسعي لتنفيذ أهداف هذه الإدارة الأميركية الواردة أعلاه. حيال هذا التصرف الأميركي “الفظ” (كما يصفه فرنسوا نيكولو السفير الفرنسي الأسبق في طهران 2001 – 2005)، تلاحظ الدوائر المقربة من الرئيس الفرنسي أن إيران تصرفت بنضج، وتناست هذه الدوائر فشل زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى طهران، وتقر هذه الأوساط بأن المواقف الأوروبية ليست متماسكة. في هذا الإطار رفع ماكرون من لهجته قائلاً إن قرار الرئيس الأميركي خاطئ، وأعلن أن أوروبا باتت “مكلّفة بضمان النظام المتعدد الأقطاب في العالم”. وربما يغامر الرئيس الفرنسي بفقدان حال الود مع ترامب من أجل التعويض عن النواقص في أوراق أوروبا لمواجهة العقوبات الأميركية المحتملة ضد الشركات الأوروبية العاملة في إيران وتحصينها بآلية حماية من تطبيق واشنطن لقوانين المقاطعة خارج أراضي الولايات المتحدة. وذهبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعيدا وقالت إنه “لم يعد بإمكان أوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة لحمايتها في أي ظرف”، وأنه عليها “تولي زمام أمورها بنفسها وهذا هو تحدينا للمستقبل”.
بيد أن تركيز الأوروبيين على الجدل مع ترامب ومحاولة الوصول إلى الاستقلال الاستراتيجي كلامياً من دون رصد الإمكانيات المطلوبة لن يفي بالغرض في هذه اللحظة الحرجة من العلاقات الدولية. ومنذ الخريف الماضي كان الجانب الأوروبي على علم بخطط ترامب ولم يبذل كل المطلوب أو لم ينجح في دفع طهران لإبداء مرونة في بعض الملفات والتخفيف من تهديدها للاستقرار الإقليمي. وما حصل ليلة الأربعاء من الأسبوع الجاري في سوريا، يدلل على أن المنطقة توجد على صفيح ساخن بسبب مواجهة إيرانية – إسرائيلية ملامحها بصدد الارتسام.
يكتفي البعض من باريس إلى برلين ولندن بتحميل ترامب وفريق صقوره كل المسؤولية عن تداعيات الانسحاب من اتفاق يوليو 2015، ويراهن إيمانويل ماكرون على تعاون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيزوره في 24 مايو الحالي من أجل تمرير أفكاره الوسطية وجلب طهران إلى طاولة التفاوض من جديد. بيد أن النوايا الطيبة والسيناريوهات الإيجابية وحدها لا تصلح للنجاح في مناورة دبلوماسية من هذا النوع. ينطبق ذلك أيضا على أولوية الاهتمام بالمصالح الاقتصادية مع طهران من دون إعارةِ مخاوفِ الشركاء الإقليميين الآخرينِ الانتباهَ المطلوبَ.
في العام الأول من وجوده في الإيليزيه لم يهدأ ماكرون وجال الكثير من البلدان مركزاً على تفعيل دور فرنسا في العالم وتحسين وضعها الاقتصادي. ويواجه الآن مخاطر الفشل في رهانه على إنقاذ الصفقة النووية الإيرانية بالرغم من تعويله على الدبلوماسية المتعددة الأطراف وعلى المعالجة الشاملة لأوضاع الشرق الأوسط الملتهب والتحذير من خطر الحرب الإقليمية فيه. ومن البديهي أن تستحق هذه المهامُّ المزيدَ من العناء والجهود، لكنها تتطلب التركيز أولاً على وقف مسار تدمير العالم العربي وتهديد الأمن الإقليمي مع إعادة النظر في سلم الأولويات والإلحاح على بلورة نواة صلبة لسياسة خارجية أوروبية فاعلة وتحديد أوضح لخارطة الصداقات والعداوات والشراكات.
د. خطار أبو دياب
العرب اللندنية