أي قراءة تختزل الأزمة الأميركية – التركية الراهنة في شخص برانسون، وبأنها أزمة بين إدارتين، خاطئة. ما نراه اليوم مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخلافات المتراكمة بين البلدين في السنوات السبع الأخيرة، على الأقل، والتي تدلّ على أننا نشهد سيرورة افتراق استراتيجي بين دولتين حليفتين على مدى عقود سبعة. وبهذا المعنى، يصبح التصعيد الذي أطلقته إدارة ترامب ضد تركيا، بدءا منذ أواخر الشهر الماضي، بسبب قضية برانسون، ثمَّ العقوبات المتدرّجة التي أعلنتها ضدها، منذ مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، مجرّد محاولة أميركية جديدة للتحرّش بأنقرة، ذلك أنها لم تستطع بعد أن تتقبل محاولات الأخيرة انتهاج سياسات إقليمية أكثر استقلالا عن النهج الأميركي – الغربي.
لم يبدأ التصعيد الجديد ضد تركيا مع إدارة ترامب، بل بدأت إرهاصاته تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، ووصل الأمر إلى ذروته بموقف تلك الإدارة المتردّد
والغامض، إن لم يكن المتواطئ والمتقبل للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016. بل لا يتردّد أردوغان نفسه أبدا في تأكيد مرارته وشعوره بالخيانة والطعن في الظهر، بسبب موقف إدارة أوباما ذاك، وهو أمر أشار إليه بكل وضوح في مقاله في صحيفة نيويورك تايمز في العاشر من أغسطس/ آب الجاري. إذن، هو خلاف حقيقي بين دولتين تباينت مصالحهما، لا بين إدارتين تنافر زعيماهما، وهو ما عبر عن نفسه خلال حقبة رئاسة أوباما، بتصنيف تركيا، أميركياً، وإن بشكل غير رسمي، في خانة “الأصدقاء الأعداء”، أو ألـ Frenemies. أيضا، لا يمكن عزل التحرّشات الأوروبية المتكرّرة بتركيا عن الاستياء الأميركي من الأخيرة. ببساطة، السياسات التركية، تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، والتي تنحو إلى استقلال الموقف قدر المستطاع، وتأكيد الحضور الإقليمي النابع من مصالح الذات لا تروق لهم.
لم تكن العلاقات الأميركية – التركية يوما سهلة، كما أنها لم تكن على وفاقٍ تام دائما، لكنها بقيت ضمن أطر التحالف القائم على المنفعة المشتركة. تعود بدايات التحالف إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مدفوعا بحسابات الحرب الباردة، بين حلفي شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة أميركية وحلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي. في عام 1947 أقرّ الكونغرس تصنيف تركيا مستفيدا من المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية الخاصة لمجابهة التهديدات السوفييتية. كان ذلك ضمن مبدأ الرئيس الأميركي، حينئذ، هاري ترومان، لاحتواء محاولات التمدّد السوفييتي في المنطقة. كانت تركيا أيضا محتاجة إلى ذلك التحالف، ذلك أنها كانت بحاجة إلى مظلة دفاعية عسكرية، خصوصا بعد أزمة عام 1945، عندما وجّه السوفييت تحذيرا لها لمنحهم قاعدة بحرية عسكرية على مضيق البوسفور، والتنازل عن أراض شرقي الأناضول. في مقابل الدعم الأميركي، شاركت تركيا، إلى جانب الولايات المتحدة، في حرب شبه الجزيرة الكورية (1950-1953)، وأصبحت عضوا في حلف الناتو عام 1952. ولكن ذلك لم يعن أن الأجندات كانت متوافقة دوما. خلال أزمة الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا، عام 1962، وافقت إدارة الرئيس، جون كنيدي، سرّا، على سحب الصواريخ النووية الأميركية من تركيا وإيطاليا. تمَّ ذلك عام 1963 من دون إخطار الأتراك مسبقا، ما أثار حفيظتهم وجعلهم يسائلون، للمرة الأولى، موثوقية الحليف الأميركي. كانت الأزمة الثانية عام 1974، عندما اجتاحت القوات التركية شمال جزيرة قبرص، وهو ما دفع إدارة الرئيس جيرالد فورد إلى فرض حظر تصدير سلاح لتركيا.
وهكذا بقيت العلاقات محل مَدٍّ وجزر إلى حين جاءت إدارة جورج بوش الابن، مطلع القرن الحالي. بعد هجمات “11 سبتمبر” في العام 2001، وتماهي “الحرب على الإرهاب” مع “الحرب على الإسلام” جرّاء تصريحات أميركية مرتبكة، بدأت إدارة بوش تبحث عن حليف إسلامي “مقبول”، لإبعاد شبهة الحرب على الإسلام. هنا خدمت الظروف حزب العدالة والتنمية التركي الذي أسّسه منشقون عن حزب الفضيلة، والذي كان يرأسه رئيس الوزراء التركي الأسبق، نجم الدين أربكان. حظرت المحكمة الدستورية التركية حزب الفضيلة عام 2001، وقام أردوغان مع آخرين بتشكيل حزب العدالة والتنمية، وفاز في الانتخابات التشريعية، أواخر عام 2002. وجدت إدارة بوش ضالتها في “العدالة والتنمية”، فهو حزب محافظ، بخلفية إسلامية، وفي دولة حليفة. بقي الحال كذلك، على الرغم من خلافات بين الطرفين بشأن رفض تركيا فتح أراضيها لغزو العراق عام 2003، وكذلك بشأن العلاقات مع سورية وإيران.. بقي الحال كذلك حتى وصول أوباما إلى الحكم مطلع عام 2009. جاء واعدا بعلاقات أفضل مع العالم الإسلامي، ومن العاصمة التركية، أنقرة، ومن البرلمان تحديدا، وجه أوباما خطابه الأول إلى العالم الإسلامي الداعي إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الأميركية – الإسلامية.
لكن الأجندة الأميركية/ الغربية – التركية لم تلبث أن بدأت بالافتراق. لم تكن الولايات المتحدة سعيدة أبدا بخطاب أردوغان الحادّ تجاه إسرائيل، خصوصا بعد عدوانها أواخر عام 2008 ومطلع 2009 على قطاع غزة. ثمّ جاءت أزمة أسطول الحرية في مايو/ أيار 2010، وذلك عندما هاجمت إسرائيل سفنا تقل متضامنين دوليين لكسر الحصار عن قطاع غزة. قتل تسعة أتراك في ذلك الهجوم، وأدى ذلك إلى أزمة ديبلوماسية عميقة بين تركيا وإسرائيل. واستمرت هوّة الحسابات الأميركية – التركية في التوسّع، مدفوعة بالمواقف المتناقضة للدولتين إزاء الثورات العربية المضادة منذ عام 2013 وصعودا، إلا أن أكبر مصدر للتوتر بين
الدولتين كان تناقض الأجندات في سورية. اتفق أوباما وأردوغان على ضرورة تخلّي الرئيس السوري، بشار الأسد، عن الحكم، لكن إدارة أوباما لم تتبع ذلك بخطوات وإجراءات. ولما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، عام 2014، على مناطق واسعة في العراق وسورية، خصوصا في الشمال السوري، مع الحدود مع تركيا، فوجئت الأخيرة بأن إدارة أوباما تبنّت استراتيجية دعم قوى كردية على الأرض، وتحديدا “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، والذي تعتبره أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني التركي، المصنّف تركياً وأميركياً على أنه إرهابي. وأدى ذلك إلى توتر كبير في العلاقة بين البلدين لم ينته بعد.
باختصار، التوترات المتتالية، والتي لا تكاد تنتهي بين الدولتين، تعطي مؤشرا على أن عقد التحالف بينهما في طريقه أن يعرف تغييرا في بنيته وأسسه وقواعده. الولايات المتحدة، الدولة، وليست الإدارات العابرة فحسب، منخرطة، منذ سنوات، في إعادة تعريف طبيعة التحالف الأميركي – التركي، ويبدو أن تركيا نفسها تريد إعادة تعريف أسس التحالف وطبيعته، بعد أن ثبت أنها لا تعمل كما يفترض. ومن ثمَّ، ينبغي أخذ تصريحات أردوغان بجدّية، عندما تحدث عن أن تركيا ستبحث عن حلفاء وأصدقاء جدد، ولعلنا نشهد في المستقبل مزيدا من التقارب الاستراتيجي مع إيران وروسيا والصين.
لقد خبرت تركيا الخذلان الأميركي، وخذلان حلف الناتو لها كذلك، في سورية، وفي أزمة إسقاط الطائرة العسكرية الروسية عام 2015، كما خبرتها في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016. اليوم، تستمر الولايات المتحدة في التحرّش بتركيا، سواء باعتقال مصرفي تركي وفرض عقوبات اقتصادية، أم عبر محاولات الكونغرس تعطيل تسليم تركيا طائرات أف – 35 . دع عنك دعم الولايات المتحدة محورا عربيا، متحالفا مع إسرائيل، يسعى إلى تحجيم تركيا والعبث باقتصادها وأمنها ومصالحها. هذا لا يعني أن التحالف الأميركي – التركي في طريقه إلى الانتهاء والانتفاء في المدى المنظور، فثمّة مصالح جيواستراتيجية كبيرة تجمع البلدين، وتمنعهما من نسف أسس التحالف بينهما. تحتاج تركيا الولايات المتحدة، ذلك أنها حجر أساس في عقيدتها العسكرية الدفاعية، وتحتاجها اقتصاديا، في حين لا تستطيع الولايات المتحدة احتواء النفوذين، الإيراني والروسي، المتصاعدين في الشرق الأوسط، فضلا عن محاربة “الإرهاب”، من دون تركيا وقواعدها العسكرية. على الرغم من ذلك كله، يبدو أن واشنطن وأنقرة تدركان اليوم أن شكل تحالفهما ونطاقه وطبيعته، قطعاً، سيعرف تغييرا كبيرا، وستعاد صياغة أساساته كلياً في المرحلة المقبلة، بل إننا نعيش سيرورة ذلك التغيير. ستجد قضية برانسون طريقها إلى الحل، لكن جذر أزمة الثقة الأميركية – التركية سيبقى قائما.