كان موضوع الهجوم الأخير على إدلب موضوعا للنقاش المستمر بين محللي الشأن السوري لسنوات. وتضم محافظة إدلب مقاتلين من المعارضة، وناشطين، ومدنيين شردهم القتال من حمص وحلب وحماة وأجزاء مختلفة من دمشق. وهكذا، أصبحت منطقة صغيرة بعدد سكان بلغ 1.5 مليون نسمة في العام 2011، تضم الآن ما يقدر بنحو 2.6 مليون نسمة، والذين فروا –أو أُجبِروا على القدوم- إلى إدلب كجزء من اتفاقيات “المصالحة” مع النظام. وبسبب تركُّز مقاتلي المعارضة الذي فرضه النظام في إدلب، تكهن المحللون بأن تكون هذه المنطقة ساحة المعركة الكبيرة التالية. وكانت جبهات المعارك في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة في أوقات سابقة –خاصة حمص وحلب والغوطة الشرقية، من بين أخريات- قد خضعت لتكتيكات النظام الحربية القاسية، التي شملت القصف والحصار. وتبقت إدلب الآن لتكون آخر منطقة رئيسية تسيطر عليها المعارضة، والتي يريد النظام استعادة السيطرة عليها، وإنما ليس بلا تعقيدات.
قامت قوات النظام بتوجه ضربات جوية إلى المنطقة في 10 آب (أغسطس)، والتي خلفت في أعقابها عشرات القتلى والجرحي. ويعود استهداف النظام الحالي لإدلب وراء إلى العام 2012، عندما استخدم الغارات الجوية والقصف والأسلحة الكيميائية بكثافة متفاوتة. وقد استهدفت هذه الهجمات في بعض الأحيان المشافي والمدارس لإيقاع أقصى قدر من الخسائر بين المدنيين. كما خدم استهداف هذه الأهداف بالتحديد في تعطيل الخدمات الأساسية والتسبب بالمزيد من تآكل العلاقات بين المدنيين وجماعات المعارضة. وتم استخدام نفس الاستراتيجيات في حمص وحلب والغوطة الشرقية، والتي أفضت في النهاية إلى استسلام جماعات المعارضة وأجبرتها على التفاوض على اتفاقات المصالحة التي شردت عدداً كبيراً من السكان. وقد انتهى المطاف بغالبية هؤلاء السكان النازحين إلى محافظة إدلب؛ وهو ما أتاح للنظام السيطرة على المدن من دون وجود المعارضة فيها. وذلك، ليس من المستغرب أن يستخدم بشار الأسد هذه التكتيك الناجح في كل أنحاء البلد، وخاصة في إدلب.
تشير التقارير التي تتحدث عن قيام النظام بتحشيد وأسلحته على مشارف محافظة حلب التي تحد محافظة إدلب من الشرق، إلى زيادة احتمالات القيام بعمل عسكري وشيك في المحافظة. وقد أعلن المسؤولون العسكريون من جماعات المعارضة المسلحة في الشمال عن تشكيل جبهة موحدة لمواجهة الهجوم الوشيك لقوات النظام –وهو تكتيك شائع تم استخدامه في معارك سابقة بغية الاحتفاظ بالمناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ بينما ينأى المتحالفون بأنفسهم بوضوح عن منافسيهم من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). وقد نأت جماعات المعارضة بنفسها أيديولوجياً عن هيئة تحرير الشام المتطرفة بدافع الضرورة؛ ولم يكن ما تبقى من تمويل الولايات المتحدة يصل إلى هذه المنظمة التي تصنفها الأمم المتحدة منظمة إرهابية أو إلى الجماعات المتحالفة مع هيئة تحرير الشام قبل قطع التمويل نهائياً في أيار (مايو) 2018. وحتى لو أن الأعضاء ربما يتفقون مع استراتيجيات هيئة تحرير الشام، فإن جماعات المعارضة تغامر في حال تحالفت معها بفقدان الشرعية الدولية مع داعميها الخليجيين والأتراك، والمصداقية المحلية مع السكان الذين يعارضون هيئة تحرير الشام بشدة. وبينما سعت الهيئة إلى السيطرة على المنطقة، فإنها تركت علامتها على المدنيين من خلال عمليات الخطف والغارات والاغتيالات والمعارك المستمرة مع جماعات المعارضة المحلية. وتشكل المعركة من أجل إدلب معركة داخلية مع جماعات المعارضة وهيئة تحرير الشام، ومعركة خارجية ربما تتضمن اصطداماً بين تركيا وبين القوات المتحالفة مع النظام.
في نظر النظام، ثمة حافز إضافي لغزو إدلب، هو الكثافة العالية لسكان المحافظة بالنظر إلى المجتمعات التي نزحت إليها، وهو ما يعِد بوقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، وبذلك يتخلص النظام من سكان معارضين في جزئهم الأكبر. وتحذر الأمم المتحدة من أن سبعمائة ألف شخص يمكن أن يتشردوا جراء الهجوم المحتمل وأن يفروا شمالاً في اتجاه تركيا؛ ولا يشمل هذا العدد الاحتمالية العالية لحجم الخسائر بين المدنيين. وعلى الصعيد الرمزي، فإن استعادة السيطرة على منطقة معارِضة منذ وقت طويل هي نتيجة جذابة بالنسبة لنظام الأسد.
مع ذلك، يأتي الهجوم الأخير في إدلب، الآن أكثر من أي وقت مضى، مصحوباً بتعقيدات كبيرة بالنسبة للنظام. ذلك أن تركيا تشكل قوة هائلة يصعب على النظام التعامل معها عندما يمضي قدماً إلى داخل إدلب. وقد أعلنت تركيا أن إدلب هي منطقة مهمة لمصالحها الأمنية، وحذرت روسيا إلى ضرورة التدخل مع الأسد لتجنب اندلاع مواجهة. وتلعب روسيا وتركيا وإيران دور الضامنين المكلفين بالحفاظ على منطقة خفض تصعيد في الشمال الغربي كجزء من اتفاق أستانة. وإذا مضى النظام قدماً بشن الهجوم الأخير على إدلب، فإن ذلك سيعرض الاتفاق للخطر، مع عبور النظام السوري خط تركيا “الأحمر”. وقد أشارت تركيا إلى أنها ستدمر الاتفاق وتتجه إلى إلقاء كامل دعمها خلف جماعات المعارضة المسلحة رداً على ذلك. وبوصفها مستضيفة لمحادثات أستانة، من غير المرجح أن تفضل روسيا هذه النتيجة.
في الآونة الأخيرة، التقى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع نظيره الروسي سيرغي لافروف لمناقشة موضوع إدلب خلال محادثات أجرياها في أنقرة. وأكد جاويش أوغلو على أن تركيا لن تسمح بحدوث مذبحة للمدنيين في المحافظة بسبب الجهود لإزالة الجماعات الإرهابية، كجزء من اتفاق أستانة. ومع ذلك، تبدو دوافع تركيا مرتبطة بإزالة عناصر حزب العمال الكردستاني وعودة اللاجئين أكثر مما تتعلق بحماية سكان إدلب الحاليين. وقد أدت عملية تركيا المسماة “غصن الزيتون” مؤخراً إلى تأمين منطقة عفرين من محافظة حلب، إلى الشمال من إدلب، ووضع نقاط لمراقبة “المناطق الآمنة” وتكوين قوات الشرطة المحلية. وقد استثمرت تركيا بشكل كبير في المنطقة، ومن غير المرجح أن تنسحب في أي وقت قريب. كما ألمح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أيضاً إلى إقامة مناطق آمنة إضافية في جميع أنحاء شمال سورية.
على الرغم من كل هذه المواقف المعلنة، من المرجح أن تتنازل تركيا عن الأجزاء الجنوبية من محافظة إدلب لروسيا والنظام، لأنها غير راغبة في المخاطرة باندلاع مواجهة مباشرة مع كلتا الدولتين، طالما أن الهجوم النهائي لا يهدد مصالحها المتمثلة في الحد من دخول السوريين إلى داخل حدودها. وتخشى تركيا من حدوث نزوح كبير، لكن من غير المرجح أن تتدخل إلا إذا تحرك النظام وروسيا أبعد إلى الشمال.
مع ذلك، يشكل هذا الدعم غير المباشر أيضاً جهداً لمنع النظام من العمل مع عناصر قوات سورية الديمقراطية في الهجوم. وكان ممثل عن قوات سورية الديمقراطية الكردية قد التقى بممثلي النظام السوري في نهاية تموز (يوليو)، ثم مرة أخرى بداية هذا الشهر لمناقشة الاحتفاظ بالحكم الذاتي للأكراد في شمال سورية –وربما الحماية غير المباشرة من تركيا- في مقابل الانسحاب من المناطق ذات الأغلبية العربية. ومن غير المرجح أن يحترم النظام هذا الاتفاق على المدى البعيد، لكن هذا التكتيك قد يهدئ مخاوف النظام المباشرة ويبقى تركيا بعيدة.
في حين أن معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة وافقت على اتفاقيات “المصالحة”، فإن هذه المناطق ليست كلها مستقرة. وما يزال العنف مستمراً في الجنوب الغربي بسبب وجود عناصر “داعش” الذين اتخذوا لأنفسهم مقاماً في مناطق درعا والسويداء على مر السنوات، والذين يصبحون أكثر جرأة في تنفيذ عمليات الإعدام والخطف والتفجيرات. كما يعمل المزيد من التصعيد من الميليشيات الإيرانية ومقاتلي حزب الله على طول الحدود في مرتفعات الجولان على دفع إسرائيل إلى المزيد من الانخراط العسكري، بحيث تستهدف كلا المجموعتين بالضربات الجوية بشكل متزايد. وقد بلغ التصعيد حداً دفع الأمم المتحدة إلى التحضير لإرسال قوة مراقبة لفك الاشتباك من أجل تهدئة التوترات في تلك المنطقة المضطربة. وكانت آخر مرة أجرت فيها قوات فض الاشتباك عمليات مشابهة في المنطقة في العام 1974، عندما سيّرت دورياتها في المنطقة العازلة بين مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل وجنوب غرب سورية بعد الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973.
في حين أن من المرجح أن يمضي النظام السوري قدُماً بشن هجومه النهائي على إدلب، فإنه سيحتاج إلى الاستعداد لمواجهات محتملة مع تركيا. وإذا كانت المعارك السابقة لتشكل مؤشراً، فإن روسيا ستواصل التحرك من خلال المبادرات الدبلوماسية، بينما تدعم النظام بقواتها الجوية، مع احتمال دفاع مطول من جماعات المعارضة، وهو ما سيفضي في النهاية إلى دمار وتشريد كبيرين. ويبقى أن نرى عندما يحدث هذا الهجوم الوشيك، ما إذا كانت روسيا ستستطيع أن تكبح رغبة النظام في استعادة كامل المحافظة، وما مدى الهجرة الجماعية والإصابات والخسائر التي ستنجم عن ذلك.
ريما حرباوي
الغد