منذ دخوله البيت الأبيض عام 2017 (بل وخلال فترة ترشيحه وحملاته الانتخابية المثيرة) تحوّل الرئيس الأمريكي إلى شاغل الدنيا ومالئ الناس، وقد أثارت تصريحاته المتواترة العنيفة وقراراته الخطيرة الزعماء والنخب والشعوب في اتجاهات الأرض الأربعة وأدت إلى نتائج كبيرة بمقاييس الزمن والتاريخ والحضارة البشرية، ولم توفر مفاعيلها الناس لا داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ولا خارجها، وقد استهلكت آثار ومفاعيل الرئيس الأمريكي، في مسافة قصيرة عددا كبيراً من مسؤولي أهم الوزارات والمؤسسات الأمريكية، من الخارجية والدفاع إلى المخابرات ومكتب التحقيق الفدرالي، كما أنها خلّفت سلسلة من المتضررين والملاحقين قضائيا من أهم الشخصيات التي ساندته وأوصلته إلى منصبه الكبير الحالي، وأنتجت عددا كبيرا من الكتب المضادة له، وأسست لصراع كبير مع جلّ المؤسسات الإعلامية الأمريكية، كما أنها أعادت حيثيّات الحرب الأهلية الأمريكية وهيأت الجوّ لاستعادة نزاعاتها المخيفة (ترامب هدّد أكثر من مرة باللجوء للشارع)، وكان من المثير للعجب أن الطبيعة نفسها أيضاً لم تكفّ عن الاضطراب وضرب البلاد بالحرائق والعواصف!
الملياردير الذي جمع بين أعمال العقارات والفنادق الكبرى وتلفزيون الواقع وتنظيم حفلات ملكات الجمال وتنقّل بين أكثر من زوجة وأثار الجدل بعلاقاته السياسية وأحاط نفسه بمجموعة من الشخصيات التي تثار حولها الشبهات، اضافة إلى شخصيته المزركشة وآرائه المتطرفة وارتباطاته بكل ما يبعث على التنافس والاثارة والاختلافات فإن وجود ترامب في أهم منصب على الكرة الأرضية يجعله في موقع خطير يمكن أن يحدد مصير البشرية إلى عقود مقبلة، غير أن النظام الذي سمح لهذه الشخصية بالوصول إلى هذا المنصب، هو (لحسن حظ الانسانية) بلد ديمقراطي تحكمه مؤسسات عتيدة وفيه قضاء قادر على مواجهة سطوة منصب الرئاسة وصلاحيات ترامب التنفيذية، وإعلام مستقل قادر على كشف الفساد والتلاعب بالقوانين ومجابهة الأجندات السياسية المتطرفة والعنصرية.
لكن هذه التفاصيل كلها لا يجب أن تلهينا عن رؤية الصورة العامة التي يتموضع فيها ترامب عالميا، وسنكتشف عندها تفاصيل أخرى شديدة الأهمية، ونكتشف أن ترامب يتشارك مع عدد آخر من القادة السياسيين في الكثير من الصفات، ففي بريطانيا، على سبيل المثال لدينا وزير الخارجية البريطاني المستقيل، والمنافس الحالي على رئاسة الوزراء، بوريس جونسون، فاضافة إلى التشابهات الشكلية العديدة له مع ترامب (الشعر الأشقر والأسلاف الأجانب واللسان السليط والهفوات الكثيرة… وحتى الزيجات والطلاقات) فإنهما يتشاركان في الكثير من عناصر الأجندة السياسية ضد أوروبا والمهاجرين والأقليات، ولو انحدرنا في اوروبا جنوبا لوقعنا على مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، وهذا النموذج سيستمر نحو وسط أوروبا مع خيرت فيلدرز في هولندا، وشرقها مع فيكتور أوربان في هنغاريا، من دون أن ننسى زعماء اليمين المتطرف في ألمانيا والنمسا وبلدان أخرى كثيرة بعضها، كما في اليونان، لا يخفي في شعاراته توجهه النازي الواضح.
هذه الحركة السياسية الكبرى التي تجتاح العالم الغربي تجد مكملا وسندا لها في باقي العالم «الديمقراطي» غير الغربي كما هو حال إسرائيل، والحزبين الحاكمين في الهند وميانمار، وفي البلدان التي تحكمها دكتاتوريات مقنعة، كما هو الحال في روسيا، وصولا إلى دول الطغيان المرعب (كما هو حال سوريا).
ترامب إذن ممثل لحقبة وحركة تاريخية عالمية كبرى يمكن أن نرى في النازية والصهيونية أسلافا لها، ولكنها أيضا حركة تاريخية حديثة وهذا الأمر لا يقتصر على استخدامها للعلم الحديث والانترنت والواقع الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي بل بعلاقتها بمجريات تاريخية حديثة، وموقفنا من هذه الحركة وانتصارنا عليها سيحدد مصيرنا كبشر.
القدس العربي